Top
Image Alt

العلو المستفاد من تقدم الراوي، وتقدم السماع

  /  العلو المستفاد من تقدم الراوي، وتقدم السماع

العلو المستفاد من تقدم الراوي، وتقدم السماع

النوع الرابع من أنواع العلوّ: العلوّ المستفاد مِن تقدّم وفاة الراوي، ومثاله: ما أرويه عن شيخ أخبرني به عن واحد، عن البيهقي، عن الحاكم، أعلى من روايته لذلك عن شيخ أخبرني به، عن واحد، عن أبي بكر بن خلَف، عن الحاكم، وإن تساوى الإسنادان في العدد؛ لتقدّم وفاة البيهقي على وفاة بن خلف؛ لأن البيهقي مات سنة (458هـ)، ومات بن خلَف سنة (487هـ). قال: روينا عن أبي يعلى الخليلي، عن عبد الله الخليلي -رحمه الله- أنه قال: قد يكون الإسناد يعلو على غيره بتقدّم موت راويه، وإن كانا متساوييْن في العدد. ومثّل ذلك من حديث نفْسه بمثْل ما ذكرناه.

ثم إنّ هذا كلام في العلوّ المُنبني على تقدّم الوفاة، المستفاد من نسبةِ شيخٍِ إلى شيخٍ، وقياس راوٍ براو، وأمّا العلوّ المستفاد من مجرّد تقدّم وفاة شيخك من غير نظر إلى قياسه براو آخَر، فقد حَدّه بعض أهل هذا الشأن بخمسين سَنة؛ وذلك ما رويناه عن أبي علي الحافظ النيسابوري، أنه قال: سمعت أحمد بن عمير الدمشقي، وكان من أركان الحديث، يقول: “إسناد خمسين سَنة من موت الشيخ: إسنادُ علوّ”. وفيما يُروى عن أبي عبد الله بن منده الحافظ، أنه قال: “إذا مرّ على الإسناد ثلاثون سَنة، فهو عالٍ”. وهذا أوسع من الأول. ومثاله: مَن سمع (سنن أبي داود) على الزّكي عبد العظيم أعلى ممّن سمِعه على النجيب الحراني، ومَن سمِعه على النجيب أعلى ممّن سمِعه على ابن خطيب المزه، والفخر بن البخاري، وإن اشترك الأربعة في رواية الكتاب عن شيخ واحد وهو ابن طبرزد، لتقدّم وفاة الزكي على النجيب، وتقدّم وفاة النجيب على مَن بَعْده. هذا كلّه بنسبة شيخ إلى شيخ.

أمّا علوّ الإسناد بتقدّم موت الشيخ، لا مع التفات لأمْرٍ آخَر أو شيخ آخَر، فمتى يوصف بالعلو؟ قيل: خمسين سَنة من موت الشيخ؛ قاله ابن جوصا. وقول ابن منده: ثلاثين سنة، يحتمل أنه أراد مِن حين السماع -وهو بعيد- لأنه يجوز أن يكون شيخه إلى الآن حيًّا، والظاهر أنه أراد: إذا مضى على إسنادِ كتابٍ أو حديث ثلاثون سَنة، وهو في تلك المدة لا يقع أعلى من ذلك، كسماع كتاب البخاري في سَنة (760هـ) مثلًا على أصحاب أصحاب ابن الزبيدي، فإنه قد مضت عليه ثلاثون سنة مِن موت من كان آخِر من يرويه عاليًا وهو: الحجّار. 

النوع الخامس من أنواع العلوّ: العلوّ المستفاد مِن تقدّم السّماع.

قال الحافظ ابن الصلاح: “أُنبئْنا عن محمد بن ناصر الحافظ، عن محمد بن طاهر الحافظ، أنه قال: “من العلوّ: تقدّم السماع”. قلت: وكثير من هذا يدخل في النوع المذكور قبْله، وفيه ما لا يدخل في ذلك بل يمتاز عنه، مثل: أن يسمع شخصان من شيخٍ واحدٍ، وسماع أحدهما من ستّين سنة مثلًا، وسماع الآخَر من أربعين سنة، فإذا تساوى السّند إليهما في العدد، فالإسناد إلى الأوّل الذي تقدّم سماعه أعْلى.

فهذه أنواع العلوّ على الاستقصاء والإيضاح الشافي، ولله سبحانه وتعالى الحمد كلّه”.

قال الحافظ ابن الصلاح: وأمّا ما رويناه عن الحافظ أبي الطاهر السلفي -رحمه الله تعالى- من قوله في أبيات له:

 بل علوّ الحديث بين أُولِي

*الحفْظ والإتقان صحّةُ الإسنادِ

وما رويناه عن الوزير نظام المُلْك من قوله: “عندي أن الحديث العالي: ما صحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن بلغت رٌواته مائة” فهذا ونحوه ليس من قبيل العلوّ المتعارف إطلاقه بين أهل الحديث، وإنما هو علوّ من حيث المعنى فحسب. وقوله: “تقدّم السماع” أي: ممّن تقدّم سماعه من شيخٍ كان سماعه منه أعلى ممّن سمع منه بَعْده. وأهل الحديث مُجمعون على أفضليّة المتقدِّم في حقّ مَن اختلط شيخه، أو خرِف لِهَرَم، أو مرض؛ وهو واضح.

أمّا مَن لم يحصل له ذلك، فربما كان السماع المتأخِّر أرجح، بأن يكون تحديثه الأوّل قبل أن يبلغ درجة الضبط والإتقان، ثم كان الشيخ متّصفًا بذلك في حالة سماع الراوي المتأخِّر السماع؛ فلهذا مزية وفضْل على السماع المتقدِّم، وهو أرفع وأعلى، لكنه علوّ معنوي. وجعل ابن طاهر وابن دقيق العيد تقدّمَ السّماع وتقدّمَ الوفاة قسمًا واحدًا. وزاد بدل الساقط العلوّ إلى صاحبَيِ “الصحيحيْن” ومصنِّفي الكتب المشهورة. وجعل ابن طاهر هذا قسميْن:

الأول: العلو إلى البخاري، ومسلم، وأبي داود، وأبي حاتم، وأبي زرعة.

الثاني: العلو إلى كتب مصنَّفة لأقوام، كابن أبي الدنيا، والخطابي، وأشباههما.

قال ابن طاهر: “واعلمْ: أن كل حديث عزّ على المحدِّث ولم يجده عاليًا، ولا بدّ له من إيراده في تصنيف، أو احتجاج به، فمن أيِّ وجْه أورده فهو عالٍ لِعِزّته”. ثم مثّل ذلك: بأن البخاري روى عن أماثل أصحاب مالك، ثم روى حديثًا لأبي إسحاق الفزاري عن مالك، لمعنىً فيه؛ فكان فيه بينه وبين مالك ثلاثة رجال.

وأمّا النزول، فهو: ضدّ العلوّ. وما من قسم من أقسام العلوّ الخمسة، إلاّ وضدّه قسم من أقسام النزول؛ فهو إذًا خمسة أقسام. وتفصيلها يُدرَك من تفصيل أقسام العلوّ -على نحو ما تقدّم شرحه.

وأما قول الحاكم: “لعل قائلًا يقول: النزول ضدّ العلوّ، فمَن عرف العلوّ فقد عرف ضده، وليس كذلك؛ فإنّ للنزول مراتب لا يعرفها إلاّ أهل الصنعة…” إلى آخر ما قال.

فهذا ليس نفيًا لكون النزول ضدًّا للعلوّ -على الوجه السابق ذكْره، بل نفيًا؛ لكونه يُعرف بمعرفة العلوّ، وذلك يليق بما ذكَره هو في معرفة العلوّ؛ فإنه قصّر في بيانه وتفصيله، وليس كذلك ما ذكرناه في معرفة العلوّ؛ فإنه مفصل تفصيلًا مُفهِمًا لمراتب النزول.

ثم إن النزول مفضول، مرغوب عنه، والفضيلة للعلوّ -على ما تقدّم بيانه ودليله_. وحكى ابن خلاد عن بعض أهل النظر، أنه قال: “التنزّل في الإسناد أفضل”، واحتج له بما معناه: أنه يجب الاجتهاد والنّظر في تعديل كلِّ راوٍ وتجريحه؛ فكلما زادوا كان الاجتهاد أكثر، فكان الأجر أكثر؛ وهذا مذهب ضعيف وضعيف الحُجّة. وقد روينا عن علي بن المديني، وأبي عمرو المستملى النيسابوري، أنهما قالا: “النزول شؤم”. وهذا ونحوه ممّا جاء في ذمّ النزول مخصوص ببعض النزول؛ فإن النزول إذا تعيّن دون العلوّ طريقًا إلى فائدة راجحة على فائدة العلوّ، فهو مختار غير مرذول.

قال الحافظ العراقي “وهذا محمول على ما إذا لم يكن مع النزول ما يَجبره، كزيادة الثقة في رجاله على العالي، أو كونهم أحفظ، أو أفقه، أو كونه متصلًا بالسماع، وفي العالي حضور أو إجازة أو مناولة، أو تساهل بعض رواته في الحمْل، ونحو ذلك؛ فإنّ العدول حينئذٍ إلى النزول ليس بمذموم ولا مفضول”.

وعن وكيع أنه قال: “الأعمش أحب إليكم عن أبي وائل عن عبد الله؟ أو سفيان عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله؟ فقلنا: الأعمش عن أبي وائل أقرب. فقال: الأعمش شيخ، وأبو وائل شيخ، وسفيان عن منصورعن إبراهيم عن علقمة: فقيه عن فقيه عن فقيه عن فقيه”.

وعن المبارك أنه قال: “ليس جودة الحديث قرْب الإسناد، بل جَوْدة الحديث صحّة الرّجال”. وقال السّلفي: “الأصل: الأخذ عن العلماء؛ فنزولهم أوْلى من العلوّ عن الجَهَلة، على مذهب المحقِّقين من النّقَلة. والنازل حينئذ هو العالي في المعنى، عند النّظر والتحقيق، كما ذكَر ابن الصلاح عن نظام الملك، وعن السلفي في هذه الأبيات:

ليس حسنُ الحديث قُرْبَ رجالٍ

*عند أرباب علْمهم نُقّادِ

بل علوّ الحديث بين أُولي

*الحفظِ والإتقان صحةُ الإسنادِ

إذا ما تجمّعا في حديثٍ

*فاغتنمْه فذاك أقصى المرادِ

error: النص محمي !!