Top
Image Alt

التخصيص بالغاية

  /  التخصيص بالغاية

التخصيص بالغاية

والغاية: هي نهاية الشيء ومنقطعه، والغاية من المخصِّصات المتصلة، وهي قسمان:

– القسم الاول: غاية ابتداء.

– والقسم الثاني: غاية انتهاء.

ونحن هنا نتناول غاية الانتهاء؛ فهي المخصِّص لعموم اللفظ؛ كما في قول الله -تبارك وتعالى-: { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } [التوبة: 29]، فلفظ {حَتَّى }، هنا من ألفاظ الغاية، وقد تقدمها عمومٌ شمل ما بعده لولا بيان انتهاء المدة؛ لعموم اللفظ؛ لذلك كانت “حتى”، وهي من ألفاظ الغاية، من المخصِّصات التي ذكرها الأصوليون وأداروا البحث حولها.

معنى الغاية:

الغاية في اللغة: ذكر صاحب (القاموس المحيط): أن الغاية هي المدى والراية، جمعها: غاي، وغيا، وغييتها نصبتها، وفي (لسان العرب): الغاية: مدى الشيء، والغاية: أقصى الشيء، وغاية كل شيء: منتهاه، وجمعها غايات.

قال ابن الأنباري: قول الناس هذا الشيء غاية، معناه: هذا الشيء علامة في جنسه لا نظير له، أخذًا من الغاية في الحرب، وهي الراية.

أما تعريف الغاية عند الأصوليين: فهي نهاية الشيء المغَيّ، أو المقيد بالغاية، وهي دالة على أن ما بعدها غاية لما قبلها، وهي ما يمتد إليه الشيء، والجمهور من النحاة والأصوليين؛ أن ما بعد حرف الغاية غير داخل فيما قبلها، وهو مبني على أن الأصل عدم دخول الغاية في المغَيّ، يؤيده قول الله -تبارك وتعالى-: { سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ } [القدر: 5]، وألفاظ الغاية هي: حتى، وإلى، اللام، فـ{ حَتَّى }، وضعت وضعًا أوليًّا للغاية، والغاية: هي المعنى الخاص الذي وضع له هذا الحرف؛ كما ورد في قوله تعالى: { حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]، وفي قوله تعالى: { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } [الحجر: 99].

يقول الإمام السرخسي: وهو من علماء الحنفية؛ وأما “حتى”، فهي للغاية باعتبار أصل الوضع بمنزلة “إلى”، وهو المعنى الخاص الذي لأجله وضعت الكلمة، وهي حقيقة في هذا المعنى، ولا يسكت هذا المعنى عنها إلَّا إذا استعملت في معنى مجازي، فيما لو استعملت للعطف المحض في الأفعال؛ وذلك لما بين العطف والغاية من مناسبة، وقد اشترط النحاة بوقوعها عطفًا شروط:

الشرط الأول: أن يكون المعطوف اسمًا.

الشرط الثاني: أن يكون ظاهرًا غير مضمر؛ فلا يصح قول القائل: قام الناس حتى أنا.

الشرط الثالث: أن يكون المعطوف بعضًا من المعطوف عليه، إما بالتحقيق، نحو: قوله: أكلت السمكة حتى رأسها، أو بالتأويل، نحو:

ألقى الصحيفة كي يخفف رحلها

*والزاد حتى نعله ألقاها

فيمن نصب نعله، فإنما قبلها في تأويل ألقى ما يثقله، أو شبيهًا بالبعض؛ كقولك: أعجبتني الجارية حتى كلامها، ويمتنع حتى ولدها، وضابط ذلك: أنه إذا حسن الاستثناء؛ حسن دخول “حتى”.

الشرط الرابع: كونه غاية في زيادة حسية، نحو: فلان يهب الأعداد الكثيرة حتى الألوف، أو معنوية نحو: مات الناس حتى الأنبياء، أو في نقص وتقليل، نحو: المؤمن يجزى بالحسنات، حتى مثقال الذرة، ومثل: غلبك الناس حتى الصبيان، وقد تدخل “حتى”، بمعنى: العطف على الجملة؛ فإن ذكر لها خبر فهو خبره؛ وإلَّا فخبر من جنس ما سبق.

يقول الرجل: مررت بالقوم حتى زيد غضبان؛ فحتى تفيد العطف ليس غير، وذلك للمناسبة بين “حتى” والعطف، كما تدخل “حتى”، على الأفعال وتكون للجزاء، إذا كان ما قبلها يصلح سببًا وما بعدها يصلح جزاءً؛ فتكون بمعنى لام “كي”، كما في قول الله -تبارك وتعالى-: { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ } [البقرة: 193]، أي: لكي لا تكون فتنة، وأيضًا قول الله -تبارك وتعالى: { وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214]، والمعنى يحتمل أن يكون: لكي يقول، بنصب اللام، وفي قراءة النصب أيضًا تحتمل معنى الغاية؛ فيكون التقدير: إلى أن يقول، أي: إلى أن يقول الرسول؛ فيكون قول الرسول نهاية من غير أن يكون بناء على ما سبق؛ كما هو موجب الغاية.

الحرف الأول: وقد تدخل “حتى”، على جملة لا للعطف؛ بل تستأنف بعدها كما تستأنف بعد “أما” و”إذا” لذا يصح قول القائل: خرجت النساء حتى هند خارجة، ومن أجل ذلك جاز إدخال “واو العطف” عليها، وعلامة الغاية أن يحتمل الصدر الامتداد؛ بأن صلح فيه الفعل طيلة المدة، وأن يصلح الآخر دلالة على الانتهاء؛ هذا هو الحرف الأول من حروف الغاية، وهو “حتَّى”.

الحرف الثاني: وهو “إلى”، وإلى حرفٌ لانتهاء الغاية؛ لهذا تستعمل الكلمة في انتهاء الآجال والديون، يقول الله تعالى: { إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } [البقرة: 282]، ومن قال لزوجته: إنها طالق إلى شهر؛ فالحكم في وقوع الطلاق متعلق بنيته؛ فإن نوى التنجيز في الحال؛ تطلَّق، ويلغو آخر العبارة، وإن نوى التأخير يتأخر الوقوع إلى مضي شهر، وإن لم يكن له نية؛ فالمسألة مختلف فيها لدى الحنفية؛ فمن قال: أجرت من هذا الحائط إلى هذا الحائط؛ فإن الحائط في العبارة الأولى لا يدخل؛ لأنه غاية ابتداء، والحائط في العبارة الثانية لا يدخل في الإجارة أيضًا؛ لأنه غاية انتهاء، ولأن { إِلَى}، متعلقة هنا بالظرف المكاني، المحدد بحدود معينة: وهي الحائط الأول، والحائط الثاني، ومن ذلك قول الله تعالى: { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ } [البقرة: 187]، فإن { اللَّيْلِ }، لا يدخل في الصوم.

الحرف الثالث: اللام: واللام يأتي للغاية، وإن لم تكن الغاية هي الوضع الأصلي لهذا الحرف، وقد ذكر علماء النحو أن “للَّام” اثنا عشر معنى:

أحدها: الملك، نحو: قول الله تعالى: { لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ } [لقمان: 26].

الثاني: شبه الملك: ويعبر عنه بالاختصاص، نحو: السرج للدابة.

والثالث: التعدية، نحو: “ما أضرب زيدًا لعمرو”.

والرابع: للتعليل؛ كقوله:

وإني لتعروني لذكراك هزة

*…. …. …. …. ….


والخامس: التوكيد، وهو الزائد، نحو: قول الشاعر:

وملكت ما بين العراق ويثربا

*ملكًا أجار لمسلم ومعاهد

وأما قول الله -تبارك وتعالى-: { رَدِفَ لَكُمْ } [النمل: 72]؛ فالظاهر أنه ضمن معنى اقترب؛ فهو مثل: { اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ } [الأنبياء: 1].

والسادس: تقوية العامل الذي ضعف، إما بكونه فرعًا في العمل، نحو قوله: {ﮜ ﮝ ﮞ } [البقرة: 91]، وقوله تعالى: { فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ } [هود: 107]، وإما بتأخره عن المعمول، نحو قوله تعالى: { إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ } [يوسف: 43]، وليست المقوية الزائدة محضة، ولا معدية محضة بل هي بينهما.

المعنى السابع: أن اللَّام لانتهاء الغاية، نحو: قوله تعالى: { كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى} [الرعد: 2].

المعنى الثامن: القَسم، نحو: “الله لا يؤخر الأجل”.

والتاسع: التعجب نحو: “لله درك”.

والعاشر: الصيرورة، نحو:

لدوا للموت وابنوا للخراب

*…. …. …. ….



والحادي عشر: البعدية، نحو: قوله تعالى: { أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ } [الإسراء: 78].

والثاني عشر: الاستعلاء، نحو: قوله تعالى: { وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ  } [الإسراء: 109].

والفرق بين “حتى” و”إلى” فيما يفيدانه من معنى الغاية، أن الغاية في “حتى”، يعني: أن تكون حدًّا لشيء ينتهي به أو عنده المذكور، ولا يشترط ذلك في “إلى”؛ فقد تدخل “إلى”، وما بعدها بالمُغَيَّى، مثاله، قول الله -تبارك وتعالى-: { فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ } [المائدة: 6]، واليد: هي العضو من رءوس الأصابع إلى المنكب.

الفرق الثاني: أن “حتى” لا تدخل على مضمر؛ فلا يقال: حتاه بخلاف “إلى”؛ حيث يقال ذهب إليه، وأتى إلينا؛ فهو حرف يدخل على اللفظ المظهر والمضمر.

الفرق الثالث: أن “إلى” تستعمل في موضع انتهاء الغاية، ابتداءً فيما يدل عليه نقيض حرف من؛ فيقال: خرجت من الكوفة إلى البصرة، ولا يصح أن يقال: خرجت من الكوفة حتى البصرة.

وقت ثبوت المُغَيَّى:

يثبت المُغَيَّى ويتكرر قبل الغاية على ما ذهب إليه علماء النحو، والشريعة؛ كقول القائل: سرت من جدة إلى مكة؛ فلا بد أن يكون السير ثابتًا قبل الوصول إلى مكة، فالفعل ثابت ومتكرر قبل حصول الغاية، وإلَّا فلم يكن للغاية من هدف إذا لم تضع حدًّا لتكرار المُغَيَّى.

واعترض على هذا القول: بأنه ليس من الضرورة أن يكون الفعل ثابتًا قبل حصول الغاية، مثل قول الله -تبارك وتعالى-: { فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ } [المائدة: 6]، فإن الغسل، وهو المُغَيَّى، لا يحصل بتمامه إلَّا بعد إدخال المرافق في اليد، ومثال ذلك يقال في قول الله تعالى: { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ } [البقرة: 187]، فإن الصيام، وهو المُغَيَّى، لا يكون واقعًا على الوجه المطلوب، إلَّا بعد الانتهاء من النهار ودخول الليل.  

وأجيب عن هذا الاعتراض بأن القاعدة متأصلة وصحيحة في كون المُغَيَّى ثابتًا ومتكررًا قبل الغاية، ولم تختلف أقوال الأصوليين في ذلك ولكنه يرجع إلى تفسير الآيتين الكريمتين لإدراك المراد منهما على وجه لا يخل بالمقصود منهما ولا يخرجهما عن الاستدلال بهما في قاعدة ثبوت المُغَيَّى قبل الغاية، فقالوا في تفسير الآية الكريمة الأولى، وهي التي توضح المراد باليدين إلى المرفقين: أن المراد باليدين من رءوس الأصابع إلى المرفقين، وذلك من باب إطلاق الكل وإرادة البعض.

القول الثاني: ما ثبت عن الحنفية أنهم قالوا: أن المعنى يقتضي إضمار كلمة: اتركوا؛ إذ أن اليد تطلق على كامل العضو المعروف من رءوس الأصابع إلى الكتف، ويكون المعنى: اغسلوا أيديكم واتركوا من الكتف إلى المرافق؛ فالمرافق غاية للترك لا للغسل، فهي تدخل بالغسل دون الترك، وهذا التأويل مما سار إليه الحنفية؛ توفيقًا بين المعنى المراد، وهو إدخال المرفقين بالغسل، والقاعدة الأصولية التي اصطلح عليها علماء الأصول، من أن المُغَيَّى لا يدخل في الغاية.

وقد استُحسن هذا التأويل، ومن العلماء الذين استحسنوه الإمام القرافي؛ حيث قال: فإلى المرافق غاية للترك لا للغسل، والترك ثبت قبل المرافق، وتكرر إلى المرفق، وتفرع على هذا أن الغاية لا تدخل في المُغَيَّى؛ فلا تدخل المرافق في الترك فيغسل مع المغسول، وهذا بحث حسن؛ كما استحسن هذا القول ابن العربي أيضًا، ونقله عنه القرطبي في تفسيره المعروف باسم: (الجامع لأحكام القرآن)؛ حيث قال: قال ابن العربي: وما فهم أحد مقطع المسألة، إلَّا القاضي أبو محمد؛ فإنه قال: إن قوله { إِلَى الْمَرَافِقِ } حدٌّ للمتروك من اليدين لا للمغسول فيهما، ولذلك تدخل المرافق في الغسل.

وأشار الإمام القرطبي إلى هذا البيان؛ فأفاد أن المرفق داخل تحت اسم اليد؛ فلو كان المعنى مع المرافق لم يفِد؛ فلما قال: { إِلَى } ،اقتطع من حد المرافق عن الحد، وبقيت المرافق مغسولة إلى الظفر، وهذا كلام صحيح يجري على الأصول لغة ومعنى.

وقال علماء الأصول في الآية الثانية: إن الصيام يحصل في كل ساعة من ساعات النهار، ويأتي تمامه عند الغروب؛ وعلى ذلك فإن ما بعد { إِلَى}، يدخل في حكم ما قبلها إذا تحقق التجانس بينهما، واتحد النوع على الراجح من أقوال العلماء، وقد قال ذلك سيبويه وغيره، والذي يرجح هذا التفسير أن العرب يستعملون “إلى”، بمعنى: “مع”، كقولهم: الذود إلى الذود إبل، أي: من الذودِ، والذودُ: القطيع من الإبل، وهو ما بين الثلاث إلى التسع.

وما ذكر في فهم الآية السابقة ننوه به هنا في بيان مدلول الآية الثانية: أن ما بعد { إِلَى }، يدخل في حكم ما قبلها؛ لاتحاد الجنس، وهو ما رجحه كثير من العلماء من النحاة والأصوليين؛ وبناء على ذلك؛ فإنه يحمل المراد من البيوع والمعاملات؛ فمن قال: بعت من هذه الشجرة إلى هذه الشجرة، وما بينهما شجر؛ فإن انتهاء الغاية يدخل في حكم البيع، بخلاف من قال: بعتك هذه الأرض إلى الدار؛ فإن الدار لا يدخل في البيع لاختلاف النوع؛ لأن الدار غير الأرض.

فشرط الصوم في الآية الكريمة أن يكون تمامه حتى يتبين الليل؛ كما جاز الأكل في الليل حتى يتبين النهار.

هل تدخل الغاية في المُغَيَّى:

اختلف علماء الأصول في هذا الموضوع؛ فمنهم من قال بعدم دخول الغاية في المُغَيَّى، ومنهم من ذهب إلى التفصيل؛ فقال: إن الذي يعول عليه هو المُغَيَّى؛ فإن كان قائمًا بنفسه مؤديًا مدلوله؛ فلا تدخل فيه الغاية، فهي حد فاصل بينه وبين غيره، والحد لا يدخل في المحدود، وإن لم يكن المُغَيَّى قائمًا بنفسه؛ فإنه ينظر إلى أصل الكلام؛ فإن كان متناولًا للغاية؛ فإنها تدخل فيه في موضعها دون ما وراءها، وإن لم يتناولها أصل الكلام؛ فلا تدخل فيه، ومنهم من يرى أن المُغَيَّى إن تميز حسًا عما بعده؛ فلا تدخل الغاية فيه، وإن لم تكن الغاية متميزة عما قبلها بالحس فإنها تدخل.

ومنهم من يرى أن العبرة في الجنس، فإن كانت الغاية من جنس المُغَيَّى؛ فإنها تدخل معه، وإن لم تكن من جنسه؛ فلا تدخل، ومنهم من يرى أنه إذا كانت الغاية حدًّا مكانيًّا، أو ظرفًا زمانيًّا؛ فلا تدخل في المُغَيَّى، ومنهم من يرى: أنه إن اقترنت الغاية بـ “من” فلا تدخل؛ وإلَّا فيحتمل الأمران، ومنهم من يرى إن تجرد الكلام عن الاقتران بـ”من” دخلت، وإلَّا لم تدخل، والكلام متقدم كله في غاية الانتهاء، وأما غاية الابتداء، فهل تدخل في المُغَيَّى؛ فيها قولان:

الأول: تدخل.

والثاني: لا تدخل.

والإمام الأصفهاني -رحمه الله- جعل الخلاف في الغايتين، غاية الابتداء، وغاية الانتهاء على السواء.

ونستطيع أن نفصِّل القول في غاية الانتهاء فنقول:

القول الأول: أن غاية الانتهاء لا تدخل في المُغَيَّى، وهذا قد نسبه الشوكاني إلى الجمهور، وبه قال أبو الحسين البصري صاحب (المعتمد)؛ حيث أفاد قوله: وأما تخصيصه بالغاية؛ فكقولك: أكرم بني تميم أبدًا إلى أن يدخلوا الدار، فلو لم تقل: إلى أن يدخلوا الدار؛ جاز أن يكرمهم بالأمر، دخلوا الدار أو لم يدخلوا؛ فلما ذكرت الغاية تخصص الوجوب بما قبلها؛ لأنه لو لزم الإكرام بعد الدخول، خرج الدخول من كونه غاية ونهاية، ودخل في أن يكون وسطًا؛ وذلك لينقص فائدة قوله :”إلى”؛ لأن هذه اللفظة تفيد الغاية.

القول الثاني: إن كانت الغاية من جنس المُغَيَّى، دخلت في حكمه ،وإلَّا فلا؛ وقد نقل عن المبرد من النحاة، وبه قال صاحب (كشف الأسرار)، الحنفي: مثاله أن يقول: بعتك هذا الشجر من النخيل من هذه النخلة إلى هذه النخلة؛ فإن النخلة التي جعلت غاية انتهاء، من جنس النخل المبيع؛ فتدخل في المحل المباع للمجانسة.

يقول البخاري صاحب (كشف الأسرار): إن كان المذكور بعد “حتى”، بعضًا للمذكور قبله؛ يدخل تحت ما ضربت له الغاية؛ وإن لم يكن؛ لا يدخل.

مثال الأول: زارني أشراف البلدة حتى الأمير.

ومثال الثاني: قرأت القرآن حتى الصباح؛ فالصباح لا يكون داخلًا؛ لأنه ليس بعض الليل.

القول الثالث: التفصيل بين أن تكون المُغَيَّى قائمة بذاتها في مدلولها ومعناها، مثال ذلك: قول القائل بعتك هذه الأرض من هذا الحائط إلى هذا الحائط؛ فالحائط حدٌّ وغاية الأرض، فلا يدخل في المبيع، وهو المحدود؛ لأن المحدود له مدلول مختلف عن مدلول الغاية، ولأن أصل الكلام لم يتناول الغاية في مقصده أما إذا كان الكلام قاصدًا لتناول المُغَيَّى والغاية مدلولًا وحكمًا، فإن الغاية تدخل فيه؛ مثال ذلك قول الله -تبارك وتعالى-: { فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ } [المائدة: 6]، فإن الغسل يتناول الأيدي والمرافق من نوع المُغَيَّى، وقد اجتمع في الآية الكريمة أكثر من موجب لدخول الغاية في حكم المُغَيَّى؛ ففيها وحدة التجانس، وفيها تناول أصل الكلام للغاية والمُغَيَّى.                       

ومثال عدم دخول الغاية في المُغَيَّى بسبب عدم تناول أصل الكلام للغاية:

قول الله -تبارك وتعالى-: { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ } [البقرة: 187]، حيث إن الليل لا يدخل في ظرف الصوم؛ وإنما ينتهي وقته مع بدء دخول الليل، وهو غروب الشمس، وقد اختار هذا القول، الإمام السرخسي من الحنفية؛ حيث قال: وإن كان أصل الكلام لا يتناول موضع الغاية أو فيه شك؛ فذكر الغاية لمد الحكم إلى موضعها، فلا تدخل الغاية؛ كما في قوله تعالى: { إِلَى اللَّيْلِ }؛ فإن الصوم عبارة عن الإمساك، ومطلق الصوم لا يتناول إلَّا ساعة فذكر الغاية لمد الحكم إلى موضع الغاية.

القول الرابع: التفصيل فيما إذا كانت الغاية متميزة بالحس عن المُغَيَّى؛ فلا تدخل في حكمه، مثال ذلك: قول الله -تبارك وتعالى-: { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ } [البقرة: 187]؛ فالليل متميز بسواده وعتمته، والنهار متميز ببياضه، وضيائه، ونوره، وهذا يدرك بحاسة البصر، وما لم تتميز فيه الغاية بالحس؛ فإنها تدخل في حكم المُغَيَّى، وإنما يدرك بالعقل؛ كما قال بذلك الإمام الرازي في كتابه: (المحصول).

القول الخامس: إن كان المعنى عينًا أو وقتًا؛ لم يدخل وإلَّا دخل، نحو: قول الله -تبارك وتعالى-: { وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ } [البقرة: 222]؛ لأن الغاية فعل، والفعل لا يدخل نفسه.

القول السادس: إن اقترن الكلام بمن لم يدخل، نحو: بعتك من هذه الشجرة إلى هذه الشجرة؛ لم تدخل؛ وإن لم تقترن جاز أن تكون تحديدًا، وأن تكون بمعنى “مع”، وحكاه إمام الحرمين في: (البرهان)، عن سيبويه.

مثال عدم اقترانها بـ “مِن”: قولك: بعتك هذا الشجر إلى هذه الشجرة؛ فإن الشجرة -التي هي غاية انتهاء- يحتمل أن تدخل في حكم المبيع، ويحتمل ألَّا تدخل؛ فيكون دخولها على الجواز.

القول السابع والأخير: أن الغاية تدخل في المُغَيَّى مطلقًا، دون توقف على شرط ودون تفصيل في القول، ذكر هذا القول الإمام الشوكاني في كتابه: (إرشاد الفحول)، وأثبته الإسنوي في: (نهاية السول)، دون أن ينسبه لأحد، وهذه الأقوال في غاية الانتهاء، أما غاية الابتداء؛ فقد نقل الشوكاني، عن الإمام الأصفهاني، قوله: الخلاف في الغايتين غاية الابتداء وغاية الانتهاء، على السَّواء؛ فقال: وفيها مذاهب تدخلان، ولا تدخلان، وتدخل غاية الابتداء دون الانتهاء، وتدخلان إن اتَّحد الجنس لا إن اختلف، وتدخلان إن لم يتميز ما بعدهما عما قبلهما بالحس، وإلَّا لم تدخلا فيما قبلهما.

وعلى ذلك نستطيع أن نقول: إن القول المختار من هذه الأقوال؛ هو أوضحها في ذلك، وهو التوقف وعدم الحكم بدخول غاية الانتهاء، حتى يقوم الدليل على ذلك، مثاله قول الله تعالى: { فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ } [المائدة: 6]، وقد قامت السنة النبوية بما بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم من فعله، بدخوله المرفقين في الغسل؛ فكان هذا البيان دليلًا على دخول الغاية في المُغَيَّى.

هذا الخلاف، هل هو خلاف لفظي، أي: ليس له أثر، أو خلاف معنوي، أي: له أثر؟

إن هذا الخلاف خلاف معنوي وله أثر:

أولًا في الإقرار: فمن أقر بأن عليه لفلان من المائة إلى المائتي دينار؛ فإن الخلاف يقع في دخول الدينار الأخير ضمن المُغَيَّى والمبلغ المقر به والمعترف به؛ فعلى قول الجمهور: إن الغاية لا تدخل؛ فلا يدخل الدينار الأخير، ويلزم المعترف بأداء المائة والتسعة والتسعين، وعلى القول الثاني؛ يدخل الدينار الأخير ضمن المبلغ بكامله؛ بسبب اتحاد الجنس بين الغاية والمُغَيَّى، وكذلك على القول الثالث، والرابع.

أيضًا من أثر هذا الاختلاف: من قال: بعتك هذه الأرض من الجدار إلى الجدار؛ فالجدار الأول؛ لا يدخل عند من يقول: إن غاية الابتداء لا تدخل في البيع، والجدار الثاني؛ لا يدخل عند قول الجمهور؛ لأنه حدٌّ، والحدُّ لا يدخل في المحدود؛ كما لا يدخل على القول الثاني؛ الذي يشترط التماثل في المماثلة.

ولا يدخل أيضًا على قول من يقول: إن كانت المُغَيَّى قائمة بذاتها؛ فإن الغاية لا تدخل فيها، وعلى القول المختار؛ لا يدخل الدينار الأول، ولا الأخير في الإقرار، إلَّا إذا قام دليل يدل على دخولهما في الإقرار، وفي المثال الثاني؛ لا يدخل الجدار الأول والأخير، إلَّا بدليل يؤكد الدخول أو عدمه.

أحكام الغاية:

أولًا: أن الغاية قد تتحد وقد تتعدد على سبيل البدل أو الجمع؛ كالشرط والصفة في الاتحاد والتعدد، وكذلك المُغَيَّى قد يتحد وقد يتعدد على الجمع أو البدل؛ كالمشروط والموصوف، وبذلك يكون لها صور متعددة على النحو التالي:

الصورة الأولى: اتحاد الغاية والمُغَيَّى؛ مثل قول الله -تبارك وتعالى-: { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ } [البقرة: 187]؛ فالغاية هنا غير متعددة؛ بل هي واحدة، وكذلك المُغَيَّى واحد، والغاية؛ هي غروب الشمس ودخول الليل، والمُغَيَّى؛ هو الصيام واستمراره إلى الغاية؛ التي هي نهاية وقت النهار.

الصورة الثانية: تعدد الغاية على سبيل الجمع واتحاد المُغَيَّى، نحو: أكرم بني تميم إلى أن يأكلوا الطعام، ويدخلوا الدار.

الصورة الثالثة: تعدد الغاية على سبيل البدل واتحاد المُغَيَّى، نحو قوله: أكرم بني تميم إلى أن يأكلوا الطعام، أو يدخلوا الدار.

الصورة الرابعة: تعدد المُغَيَّى على سبيل الجمع واتحاد الغاية نحو: جاهدوا المنافقين وأغلظوا إليهم، حتى يتخلصوا من النفاق.

ففي الصورة الأولى يقتضي الحكم اختصاص المُغَيَّى بدون الغاية؛ وهذا رأي الجمهور، وللعلماء أقوال فيها سبق ذكرها فيما مضى، وهذا الحكم في سائر الصور.

قال الإمام الآمدي: “وأما إن كانت الغاية مذكورة عقب جمل متعددة؛ فالكلام في اختصاصها بما يليها، وفي عودها إلى جميع الجمل؛ كالكلام في الاستثناء، وسواء كانت الغاية واحدة أو متعددة على الجمع أو البدل”.

الحكم الثاني من أحكام الغاية: هل يكون للغاية دلالة على إخراج جزء من العموم، وما مقدار المخرج، وما مقدار المتبقي؟

بما أن غاية الانتهاء حدٌّ وقيد؛ فهو يمنع دخول ما وراءه فيما قبله، وتكاد تكون فائدة الغاية قاصرة على هذا القدر؛ لكن بعض الأصوليين من الحنابلة ذكروا: أن الغاية تخرج من العموم بعض أفراده، وأن المخرج أقل من المتبقي، ويكاد يكون هذا الرأي خاصًّا ببعض الأصوليين؛ إذ أن الغاية قيد لعدم الإدخال، وليست لإخراج بعض الأفراد مما دخل في المغَيَّى. 

الحكم الثالث: أن تكون الغاية متصلة بالمغَيَّى، ولم يثبت كثير من العلماء هذا الشرط في مؤلفاتهم؛ لأنه من المسلَّمات الأولية في ارتباطه واتصاله بما قبله؛ لأنه بمثابة الحد الفاصل، ولا يكون كذلك إلَّا إذا كان متصلًا بالمغَيَّى، وهذا الشرط يوازي شرط اتصال الاستثناء بالمستثنى منه؛ ليتم المعنى صحيح.

الحكم الرابع: إذا وردت الغاية بعد جمل متعاطفة؛ أخذت حكم الاستثناء المتعقب الجمل المتعاطفة، والخلاف هنا كالخلاف هناك؛ فمن العلماء من قال برجوعها إلى جميع الجمل، كالشيرازي وأبي يعلى، ومنهم من قال: إنها تختص بالأخيرة كالسرخسي، ومنهم من قال: إن ظهر الإغراب؛ فترجع إلى الأخيرة فقط؛ وإلَّا فللكل، وهذا قول أبي الحسين البصري، ومنهم من توقف لحين قيام الدليل؛ كالإمام الغزالي، والباقلاني.

والقول المختار في ذلك رجوع الغاية إلى الجميع من الجمل المتعاطفة التي تعقبتها الغاية، وفائدة الخلاف تظهر في مسألة الوقف فيما إذا أوقف الرجل دارًا لأولاده وأولاد أولاده إلى أن يستغنوا؛ فعلى قول الشيرازي، وأبي يعلى: يرجع الاستغناء إلى الأولاد وأولاد الأولاد، وعلى قول الإمام السرخسي: ترجع أو يرجع الاستغناء إلى أولاد الأولاد فقط؛ وأما وقف الأولاد فيستمر عليهم مطلقًا.

error: النص محمي !!