Top
Image Alt

المذاهب في مدة البحث عن المخصص للموجبين لذلك، وسبب الخلاف فيها

  /  المذاهب في مدة البحث عن المخصص للموجبين لذلك، وسبب الخلاف فيها

المذاهب في مدة البحث عن المخصص للموجبين لذلك، وسبب الخلاف فيها

وعلى ذلك، فإذا أوجبنا البحث عن المخصص، فاختلف في المدة التي يجب فيها البحث على أربعة مذاهب، هذه المذاهب حكاها الإمام الغزالي في: (المستصفى):

المذهب الأول: يكفيه أدنى نظر وبحث، كالذي يبحث عن متاع في بيت ولا يجده، فيغلب على ظنه عدمه.

المذهب الثاني: يكفيه غلبة الظن بالانتفاء عن الاستقصاء بالبحث، ونحن نعلم أن الإدراك ينقسم إلى يقين، وإلى ظن، وإلى شك، وإلى وهم؛ فاليقين: هو الذي يأخذ مثلًا نسبة مائة في المائة، أما الظن: وهو إدراك الطرف الراجح؛ فيأخذ من واحد وخمسين في المائة إلى تسع وتسعين، الشك: هو نسبة خمسين وخمسين، الوهم: هو من واحد إلى تسعة وأربعين، وبهذه النسبة المئوية؛ يتبين لنا غلبة الظن، فغلبة الظن، نقول مثلًا: أنها تأخذ من نسبة خمسة وسبعين في المائة، إلى تسع وتسعين في المائة، فمن حصلت عنده هذه النسبة ولم يحصل على المخصص؛ عندئذ يجب عليه العمل بالعام، وهذا هو المراد بقولهم: المذهب الثاني: يكفيه غلبه الظن بالانتفاء عند الاستقصاء بالبحث.

المذهب الثالث: لا بد من اعتقاد جازم بأنه لا دليل عليه ولا يكفيه غلبة الظن، أي: أن هذا المذهب يتطلب يقينًا بأنه لا دليل يخصص هذا العام ولا يكفيه الظن.

المذهب الرابع: لا بد من القطع بانتفاء الأدلة، ولا بد أن يجزم ويقطع ويتيقن بعدم وجود دليل، وإليه ذهب القاضي، والقطع به ممكن، ومنع غيره ذلك الإمكان، أي: أنه قال: لا يمكن القطع بانتفاء الأدلة؛ لأن غاية المجتهد بعد الاستقصاء والاستدلال بعدم الوجدان على عدم الوجود، ولا يلزم منه إلَّا الظن بعدم الوجود للقطع بعدمه؛ لعدم انضباط الأدلة واحتمال الشذوذ، قال القاضي أبو بكر: ولا يكفي عدم وجدان المخصص لمجتهد سابق ولا قول، ولو كان الحكم خاصًّا؛ لنصب الله سبحانه وتعالى عليه دليلًا للمكلفين، ولكلفهم ذلك.

واعلم، أن هذا القول قريب من الذي قبله، فإن المعتقد أيضًا لا يجوّز النقيض وإلَّا كان ظانًّا، لكن يفترقان في أن المعتقد على الثالث –أي: على المذهب الثالث- يكون مصيبًا في الحكم، وإن تبين له الغلط بعد ذلك، والقاضي أبو بكر يرى: أن الاعتقاد من غير علم لا يكون مطلوبًا في الشريعة الإسلامية، وهذا الذي قاله الأبياري -رحمه الله-: والمختار وفاقًا لإمام الحرمين، وابن سريج، والغزالي، والمحققين، الأول -المذهب الأول- أي، أنه يكفيه أدنى نظر وبحث، فقال: عليه تحصيل علم أو ظن، باستقصاء البحث، أما الظن فبانتفاء الدليل في نفسه، وأما القطع بانتفاء في حقه يتخير عن نفسه الوصول إليه بعد بذل وسعه، وهذا الظن بالصحابة في مسألة المخابرة، وغيرها -والمخابرة هي: المزارعة- فكان الصحابة -رضوان الله عليهم- يعملون بالمخابرة، كما يروي عبد الله بن عمر: “كنا نعمل بالمخابرة لا نرى بها بأسًا، حتى ورد علينا رافع بن خديج؛ فأخبرنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها”.

وكذلك الواجب في القياس والاستصحاب، وكل ما هو مشروط بنفي دليل آخر، ويجتمع من كلام الشافعية في المسألة أقوال أخرى، وقد قال الماوردي، والروياني، كلاهما في الأقضية: ليس لزمان الاجتهاد والنظر وقت مقدر؛ وإنما هو معتبر بما يؤدي الاجتهاد إليه، من الرجاء والإياس، أي: من الرجاء واليأس منه، وقال القفَّال الشاشي في كتابه: ليس لمدة البحث زمن محدود، ولكنها معقولة، وهذا كما أن المجتهد إذا لم يجد نصّاً في الحادثة، يجتهد حتى يجد ما يتعلق به، وليس له في ذلك زمن محدود، ومعلوم أن من سمع النبي صلى الله عليه وسلم يتلو آية بلفظ عام، كان عليه أن يستوعبها سماعًا، فلعله استثنى عقب الكلام، فإذا استوعبها، ولم يجد فيها استثناءً ولا خصوصًا، اعتقد عمومها وعمل بما يوجبه لفظها.

وليس لمدة الاستماع وقت محدود ولكن بانتهاء الكلام، فكذلك من سمع آية عامة نظر، ولا مدة لنظره أكثر من زمان يخطر بباله ما قد علمه من الأصول فيه، فإن لم يجد في ذلك ما يدل على خصوصها واحتاج إلى التقييد، أجراها على العموم، وإن لم يحتج، سأل من يعلم أن عنده علمًا، أو ازداد في التأمل بما عنده في الأصول، فلعلَّه أن يتنبه به على خصوص، إن كان فيها، كما سأل الصحابة -رضوان الله عليهم- عن قول الله تعالى: { الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ } [الأنعام: 82]، وقالوا: أينا لم يظلم؟ فأنزل الله تعالى: { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [لقمان: 13]، وسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله: ((من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاءه كره لقاءه، فقالوا: أينا لا يكره الموت؟))، فكشف لهم النبي صلى الله عليه وسلم عن المعنى، وليس كل ما قدّر حصره بمقدر تعلَّق الحكم به، كما تقول في التواتر: أن يكون عددًا يستحيل تواطؤهم على الكذب، قال: وفي ذلك إبطال قول النظر إلى إبطال النظر في معنى العموم؛ لجهل المدة التي يقع فيها النظر.

وقال القاضي أبو الطيب في شرح (الكفاية): ولا يوجب التوقف أبدًا، أي: إن البحث عن المخصص لا يوجب عليك أن تتوقف في الآية العامة، أو في اللفظ العام أبدًا، بل هو كالحاكم يتوقف حتى يسأل عن عدالة الشهود، فإذا وجد ما يقدح في عدالتهم، لم يحكم بشهادتهم، أما إذا لم يجد ما يقدح في عدالتهم، فعليه أن يحكم بشهادتهم، ويجوز أن يكون النظر الأول هو الواجب دون التكرار، كالمجتهد تنزل به الحادثة.

قال الشيخ في (شرح الإلمام): الموجبون للبحث عن المخصص، إن أرادوا به أنه لا بد للمجتهد من نظره فيما تأخر من النصوص، أو ما يتيسر له مراجعته مما ستعرفه باحتمال التخصيص؛ فذلك صحيح، وإن أرادوا به التوقف حتى يقع على ما لعله لم يبلغه من النصوص، ولا يشعر به مع قرب المراجعة؛ فلا يصح ذلك، والدليل عليه: أن علماء الأنصار ما برحوا يفتون بما بلغهم، من غير توقف على البحث في الأمصار والبلاد عمَّا لعله أن يكون تخصيصًا.

وبهذا يجاب عن قول القائل بالوجوب: إنه لو كان كذلك لكانت رتبة الاجتهاد ممكنة لكل أحد حصلت له أهلية الاجتهاد؛ لأنا أولًا شرطنا أن يكون أهلًا للاجتهاد، وذلك يقتضي اطلاعه على جملة من النصوص زائدة، لا يصل إليها من له أدنى أهلية، أي: أننا شرطنا في المجتهد أن يكون له أهلية اجتهاد، وأهلية الاجتهاد هذه تحصل عندما يحصل جملة من العلوم؛ منها العلم بمبادئ اللغة، ومنها العلم بأحوال الرواة، ومنها العلم بأسباب ورود الأحاديث، وبأسباب النزول، وبالناسخ والمنسوخ، وعلمه أيضا بأصول الفقه، وخاصة باب القياس، وعلمه بالمسائل المجمع عليها، فكل ذلك علوم ونصوص يجب على المجتهد أن يحصّلها، وهذه العلوم لا يصل إليها من له أدنى رتبة من الاجتهاد، بل لا يصل إليها إلَّا من له الأهلية الكاملة.

سبب الخلاف في هذه المسألة “وهي مسألة وجوب البحث عن مخصص”:

مسار الخلاف في وجوب البحث أمران:

أحدهما: التعارض بين الأصل والظاهر.

والثاني: عدم المخصص، هل هو شرط في العموم، أو التخصيص من باب المعارض؟

فيه قولان يؤخذان مما سبق، كما في تخصيص العلة، ويقول الصيرفي: إن التخصيص مانع، فيتمسك بالعموم ما لم ينتهض المانع، أي: ما لم يوجد المانع، ما لم يوجد التخصيص، يتمسك بالعموم؛ لأن الأصل عدم المانع، وابن سريج يقول: “عدمه شرط فلا بد من تحققه”، أي: أن عدم التخصيص شرط في العمل باللفظ العام، فعندئذ يجب التحقق من عدم التخصيص حتى نعمل به، ولا نتحقق من عدم التخصيص إلًَّا بعد البحث عنه.

إذًا على كلام الإمام الصيرفي، أن التخصيص مانع فيتمسك بالعموم ما لم يوجد هذا المانع، ووجود التخصيص، هو الذي يمنع العمل بالعام، وعند عدم وجوده، فلا مانع من العام.

أما غير الصيرفي، كابن سريج، فإنه يقول: عدم التخصيص شرط، والشرط كما هو معلوم، أنه يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم، فلا بد من تحقق عدم التخصيص؛ الذي هو الشرط، حتى يعمل بالعموم.

وحاصله: أن ابن سريج، يقول: صيغ العموم لا تدل على الاستيعاب إلَّا عند انتفاء القرائن، وانتفاء القرائن شرط، فلا بد من البحث، هكذا نقله ابن السمعاني في كتابه: (القواطع)، وقال القاضي أبو الطيب: إنما يدل على العموم صيغة مجردة، والتجرد لم يثبت، قال: وهذا كما تقول: إذا شهد عند الحاكم شاهدان لا يعرف حالهما، فإنه يجب السؤال عن عدالتهما، ولا يجوز الحكم بهذه الشهادة قبل السؤال؛ لأن البينة هي الشاهدان مع العدالة، وليست البينة هي الشاهدان فقط.

وعلى ذلك، فهل يؤول القول بوجوب البحث في المخصص، إلى القول بالوقوف في صيغ العموم؟

يلزم على المصحح -من قول ابن سريج، والجمهور- القول بالوقف في صيغ العموم، فإنا لم نعتقد أن اللفظ ظاهر في العموم، ولا يجري عليه حتى يبحث عن المخصص، فقد ترك القول بالعموم، وصار إلى مذهب الواقفية، وعلى هذا جرى “ابن فورك” في كتابه -وهو من الواقفية- فقال: غلط علينا بعض الفقهاء، وزعم أن المذهبين يفترقان، فإن أبا العباس -يقصد ابن سريج- يُمضي العموم إذا عُدم دليل الخصوص، ونحن نقول بدلالة غير نفس الكلام، قال: وليس الأمر كذلك عندنا، بل نقول: اللفظ مشترك، ولا نهجم على أحدهما إلَّا بتبين وبحث، أي: أن اللفظ مشترك بين العام والخاص، ومعلوم أنه لا بد في المشترك من وجود قرينة تدل على أحد المعنيين، فلا نتسرع في الكلام بالعموم، أو في الكلام بالخصوص، إلَّا بعد البحث والتبيُّن، فإن وجدنا ما يخص العموم عملنا به ورجعنا إلى نفس الكلام بالقرينة.

ولهذا قال ابن برهان في (الأوسط): بناء الخلاف في هذه المسألة على حرف، وهو أن اعتقاد العموم عندنا يؤدي إلى القول بالاستغراق والقول بالوقف، وعند المخالف: لا يفضي إلى ذلك، ولهذا اختار هو قول الصيرفي، والجواب: أن مذهب ابن سريج، والواقفية، قد اتفق على ترك الهجوم على إمضاء الكلام على العموم قبل البحث، إلَّا أن ابن سريج يمضيه على عمومه، إذا عُدم الدلائل الخاصة من نفسه من غير قرينة، والواقفية يقولون: لا بد من قرينة على خصوص حكم الاستيعاب.

قال “إلكيا” في (المدارك): ظن الواقفية أن ابن سريج يوافقهم على مذهبهم، فإنه قال: الألفاظ تطلق، والقصد منها المعاني التي تحتها، فيكون الكلام عامًّا في اللفظ والمعنى جميعًا، وقد يكون عامَّ اللفظ، والمراد به معنى دون معنى، فإذا ورد الكلام نظرنا؛ فإن كان هناك دلائل تدل على أنه لمعنى دون معنى صير إليه، أي: أنه إذا كانت هناك دلائل تدل على الخصوص فنصير إلى الخصوص، وإلَّا-أي: وإن لم توجد قرائن تدل على الخصوص- أجري على عمومه، قال: وذكر الشافعي -رحمه الله- في كتاب: (أحكام القرآن): ما يومئ إليه –أي: ما يشير إليه إشارة خفيفة- فإنه قال: “وعلى أهل العلم عند تلاوة الكتاب والسنة طلب الدلائل؛ ليفرقوا بين الحتم وغيره في الأمر والنهي، فنص الإمام الشافعي هنا على وجوب طلب الدلائل المميزة بين مواقع الكلام، ولم يكلهم إلى نفس الكلام؟

قال: وهذا الظن غلط؛ لأن أبا الحسن يرى أن اللفظ ظاهر في العموم، والظاهر يفيد الظن، والظن إنما ينتفي بالبحث عن المخصصات، والواقفية، لا يرون عامًّا لا ظاهرًا ولا نصًّا، بل إنهم إما أن يكون العامُّ ظاهرًا، وإما أن يكون نصًّا.

وقال الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني: القول بالتوقف على التخصيص ليس هو بقول الوقف؛ لأن القائلين بالعموم طلبوا ما يمنع إجراؤه على ظاهره، فإن لم يجدوا ما يوجبه عملوا بظاهر لفظه، وأصحاب الوقف طلبوا دليله الذي يبين مراده، فإن لم يجدوا لم يعملوا بشيء منه، وقال أبو الطيب الطبري: ليس هذا بآيل إلى قول الوقف في الصيغ، كما ظن بعض العلماء؛ لأن ابن سريج يقول: إذا لم يجد في الأصول ما يخصه حمله على العموم، والأشعري لا يقول ذلك، ويتوقف فيه على الدليل، أي: أن الإمام الأشعري يتوقف في العام على الدليل، وحينئذ فيفترق المذهبان:

قال القاضي سليم في (التقريب): نحن نفارق الواقفية في الصيغ من وجهين:

أحدهما: أنا إذا لم نجد في الأصول قرينة التخصيص، أجري اللفظ على عمومه، والأشعرية لا يقولون بذلك، لكن يتوقف حتى يدل الدليل على أحد الأمرين:

هل هذا الدليل يدل على العموم، أو على الخصوص؟

الوجه الثاني: أنا نطلب الدليل لإخراج ما ليس بمراد باللفظ، والأشعري يطلب الدليل؛ لمعرفة ما هو مراد باللفظ؛ فهو لبيان المحال دون بيان العموم.

إذًا، يفترق مذهب الواقفية عن مذهب القائلين بوجوب البحث عن المخصص.

الإمام الصيرفي -رحمه الله- في الكتاب المذكور في موضع منه، يقسّم العامَّ إلى قسمين:

أحدهما: ما يمكن استعماله في جميع أفراده، فحكمه العموم حتى يعلم ما يخصه الدليل، ولا يترك شيئًا يقع عليه الاسم إلَّا لزم حكمه.

والثاني: ما لا يقدر المخاطب أن يأتي بعموم ما اشتمل عليه، فلا يلزم من ذلك إلَّا ما وقف عليه؛ لأنه ليس بعضه أولى من بعض؛ إذ الكل معجوز عنه، كقولنا: لا تناموا، ولا تأكلوا، ولا تشربوا، فعدم الأكل، وعدم الشرب، وعدم النوم، لا يقدر على الامتناع منه دائمًا، فلا بد عندئذ من التوقف للعجز عن دوام ذلك، فلا بد وأن نتوقف عن العمل بهذا النهي، حتى يتبين لنا ما المراد بقوله: لا تناموا، أو لا تأكلوا، أو لا تشربوا؟ وما المدة التي نحن منهيين عنها؟ فإن هذا مما لا يقدر على الامتناع فيه دائمًا، فلا بد من التوقف للعجز عن دوام ذلك، وفيها قول آخر، وهو أنظرها، أنه ممتنع من الذي نهى عنه أبدًا، حتى يغلب عليه.                

error: النص محمي !!