العوامل التي تجزم فعلين
النوع الثاني من الجوازم: ما يجزم فعلين؛ أي: الأدوات التي تجزم في غالب الاستعمال فعلين:
نحو: إن تجتهد تنجحْ، ومن يزرني أكرمه، ومتى تسافر أسافرْ معك. وقد يأتي بعض هذه الأدوات في الاستعمال جازمة لفعل وجملة، كما إذا كان جواب الشرط جملة مقرونة بالفاء، أو بـ”إذا” الفجائية، نحو قوله تعالى: {وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدُيرٌ} [الأنعام: 17] وقوله تعالى: {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ بِمَا قَدّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} [الروم: 36] وقد يأتي جازمًا لفعل واحد، كما إذا كان فعل الشرط ماضيًا في محل جزم، وفي الجواب مضارع مرفوع، كما في قول الشاعر:
وَإِن أَتاهُ خَليلٌ يَومَ مَسأَلَةٍ | * | يَقولُ لا غائِبٌ مالي وَلا حَرِمُ |
وعدد هذه الأدوات إحدى عشرة أداة، نص عليها ابن مالك في قوله:
وَاجزِم بِإنَّ وَمَن وَمَا وَمَهمَا | * | أيّ مَتَى أيَّانَ أينَ إذ مَا |
وَحَيثُما أنَّى وَحَرفٌ إذ مَا | * | كإن وَبَاقِي الأدَوَاتِ اسمَا |
وتسمى هذه الأدوات “أدوات الشرط” والشرط في اللغة: الإلزام، وهذه الأدوات تفيد نوعًا من الإلزام؛ لأنها تدل على حصول مضمون جوابها إذا حصل مضمونُ شرطها في المستقبل.
بمعنى: أن المتكلم يعتقد أن حصول مضمون فعل الشرط يترتب عليه حصول مضمون الجواب ضرورةً، نحو: إن تجتهد تنجح، فـ”إنْ” في المثال تدل على تعليق حصول النجاح على حصول الاجتهاد، وهو الشرط، أي: ترتِّب حصولَ النجاح على حصول الاجتهاد في اعتقاد المتكلم وجوبًا.
اتفاق النحويين واختلافُهم حول هذه الأدوات:
اتفق النحويون في هذه الأدوات على شيئين:
الشيء الأول: أنَّ “إنْ” -بكسر الهمزة وسكون النون- حرف وضع لدلالة على مجرد التعليق، أي: تعليق وقوع الجواب على الشرط، وتسمى “أم باب الشرط والجزاء” أو “أم أدوات الشرط”.
الشيء الثاني: أنَّ “أيًّا” و”أين”، و”أيانا” و”أنَّ”، و”حيثما” و”مَن”، و”ما” و”متى”، هذه أسماء تضمنت معنى الشرط. فهذه تسع من الأدوات، وبقي منها اثنتان، هما: “إذ ما”، و”مهما”، وفيهما خلاف.
الخلاف حول إذ ما:
للنحويون في إذ ما مذهبان:
الأول: أنها حرف بمنزلة إنْ يفيد مجردَ التعليق، فإذا قلتَ: إذ ما تقم أقُمْ، فمعناه: إن تقم أقم، وكذا في قول الشاعر:
وإنك إذ ما تأتي ما أنتَ آمرٌ | * | به تلفي مَن إياه تأمر آتيا |
فهي حرف جازم لا محل له من الإعراب بمعنى: إن تأتِ تلفِ، وهذا مذهب سيبويه والمبرد، ومَن وافقهما كابن مالك وابن هشام. ففي كتاب سيبويه، باب: الجزاء، فما يجازَى به من الأسماء غير الظروف: من وما وأيهم، وما يجازَى به من الظروف: أيُّ حين، ومتى وأين، وأنَّى وحيثما، ومن غيرهما: إنْ وإذ ما، وفي المقتضى المجازاة وحروفها، فمن عواملها من الظروف: أين ومتى وأنى وحيثما، ومن الأسماء: مَن وما وأي ومهما، ومن الحروف التي جاءت بمعنى: إن وإذ ما. وهذا يخالف ما نُسب إلى المبرد من القول باسميتها.
المذهب الثاني: أنها اسمُ شرط؛ لأنها في الأصل ظرف زمان زِيد عليه “ما” وضُمن معنى الشرط، مثل “متى” الزمنية التي ضمنت معنى الشرط، فمعناها في المثال: متى تقم أقمْ، وفي البيت: “متى تأتي تلفي” وهذا مذهب ابن السراج، وأبي علي الفارسي، ومَن وافقهما، وحجتهم أنها اسم قبل دخول “ما” عليها والأصل عدم التغيير. وأجيب عن ذلك: بأن التغيير قد تحقق، بدليل أنها كانت للماضي فصارت للمستقبل، فدل على أن معنى الظرفية نزع منها، واعترض على الجواب: بأنه لا يلزم من تغيير زمانها تغيير ذاتها.
وقد رجح ابن مالك القول بحرفيتها، ونص على ذلك بقوله في (الألفية):
….. …… ……. …… …… | * | وَحَرفٌ إذ مَا |
وحجته أنها قبل التركيب معناه حُكم باسميتها؛ لدلالتها على وقت ماضٍ دون شيء آخر يدَّعَى أنها دالة عليه، ولمساواتها الأسماءَ في قَبولها علامات الاسمية، كالتنوين والإضافة إليها، والوقوع موقع المفعول فيه، ومفعول به، وأما بعد التركيب فمدلولها المجمع عليه المجازة وهو من معاني الحروف، ومن ادّعى أن لها مدلولًا زائدًا على ذلك فلا حجةَ له، وهي مع ذلك غير قابلة لشيء من العلامات التي كانت لها قبل التركيب، فوجب انتفاء اسميتها وثبوت حرفيتها.
الخلاف حول مهما:
للنحويين في مهما مذهبان:
الأول: مذهب الجمهور: وهو أنها اسم شرط، بدليل عَوْد الضمير عليها في قوله عز وجل: {وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 132].
الثاني: قول السهيلي وابن يسعون: إنها حرف، قال ابن هشام في (المغني) “ودَعَّم السهيلي أنها تأتي حرفًا بدليل قول زهير:
وَمَهما تَكُن عِندَ اِمرِئٍ مِن خَليقَةٍ | * | وَإِن خالَها تَخفى عَلى الناسِ تُعلَمِ |
قال: فهي هنا حرف بمنزلة إنْ، بدليل أنها لا محل لها”.
وتبعه ابن يسعون واستدل بقوله:
قَد أوبِيَت كُلَّ ماءٍ فَهِيَ ضَاوِيَةٌ | * | مَهما تُصِب أُفُقًا مِن بارِقٍ تَشِمِ |
قال: إذًا لا تكون مبتدأً لعدم الرابط، ولا مفعولًا لاستيفاء فعل الشرط مفعوله، ولا سبيلَ إلى غيرهما، فتعين أنها لا موضعَ لها.
ثم رد ابن هشام عليهما في دعواهما، فذكر أن “مهما” في البيت الأول إما خبر تكن، وإما مبتدأ، واسم تكن ضمير راجع إليها، وفي البيت الثاني مفعول “تصب” و”أفقًا”: ظرف.
المعاني الوضعية لأدوات الشرط:
تنقسم أدوات الشرط من حيث معانيها الوضعية إلى ستة أقسام:
الأول: ما وُضِعَ لمجرد تعليق الجواب على الشرط وهو إن وإذ ما، نحو قوله تعالى: {وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ} [الأنفال: 19] ونحو: إما تقم أقم.
الثاني: ما وضع لدلالة على مَن يعقل ثم ضمن معنى الشرط وهو مَن، نحو قوله تعالى: {مَن يَعْمَلْ سُوَءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123].
الثالث: ما وضع لدلالة على ما لا يعقل ثم ضمن معنى الشرط، وهو ما ومهما، نحو قوله تعالى: {وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ} [البقرة: 197] وقوله تعالى: {وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 132].
الرابع: ما وضع للدلالة على الزمان، ثم ضمن معنى الشرط وهو متى وأيان، كقول الشاعر:
أَنا اِبنُ جَلا وَطَلاعِ الثَنايا | * | مَتى أَضَعِ العِمامَةَ تَعرِفوني |
وقول الآخر:
أيانَ نؤمِّنْك تأمن غيرنا وإذا | * | لم تدرك الأمن منا لم تزل حذرا |
الخامس: ما وُضِعَ لدلالة على المكان، ثم ضمن معنى الشرط، وهو أين وأنَّى وحيثما، نحو قوله تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككّمُ الْمَوْتُ} [النساء: 78] ونحو قول لبيد:
فأصبحتَ أنّى تأتِها تستجِرْ بها | * | كِلَا مَرْكبيَهْا تحتَ رجلك شَاجِرُ |
وقول الآخر:
حيثُما تستقِمْ يقدر الـله | * | لكَ نجاحًا في غادِر الأزمانِ |
السادس: ما هو متردد بين أنواع الاسم الأربعة، وهو أي، فإنها بحسب ما تضاف إليه، فهي في: أيّهم يقم أقُمْ معه، من باب مَن، وفي: أيّ الدواب تركب أركب، من باب ما، وفي: أي يوم تصم أصم، من باب متى، وفي: أيّ مكان تجلس أجلس، من باب أين.
حكم دخول “ما” على تلك الأدوات:
قال ابن عصفور في (المقرب): “وهذه الأدوات منها ما تلزمه مَا وهو: إذ وحيث، ومنها ما لا تلزمه ما وهو: إن وأين وأي وأيان ومتى، ومنها ما لا تلحقه ما وهو: ما بقي”. وهذا معناه أن اتصال “ما” بأدوات الشرط على ثلاثة أضرب:
الضرب الأول: ضرب واجب، فلا تجزم الأداة إلا إذا اقترنت بما، وذلك في إذ ما وحيثما، وإنما وجب زيادة “ما” فيهما؛ لتكفهما عن الإضافة.
فيتأتى الجزم بهما، إذ لا تجتمع الإضافة والجزم؛ لأن المضاف إليه حال محال الاسم فهو واجب الجر، فكيف يجزم؟ وقيل: زيدة “ما” فيهما للفرق بين حالة الجزم وغيرها. وقد أجاز الفراء الجزمَ بهما بدون “ما” وهو مخالف للإجماع.
الضرب الثاني: ضرب ممتنع، وذلك في: أنَّى ومن وما ومهما عند الجمهور، وأجاز الكوفيون إلحاقَ “ما” بمَنْ وأنَّى.
الضرب الثالث: ضرب جائز، وذلك في: إنْ وأي وأين وأيان ومتى، ومنعه بعضُهم في أيان، والصحيح الجواز.
أنواع أسماء الشرط:
تنقسم أسماء الشرط من حيث استعمالها ظروفًا وغيرَ ظروف ثلاثة أقسام:
الأول: ما يُستعمل ظرفًا وهو خمسة أسماء؛ متى وأيان وأين وأنّى وحيثما.
الثاني: ما يستعمل غير ظرف وهو ثلاثة أسماء: من وما ومهما.
الثالث: ما يستعمل ظرفًا وغيرَ ظرف، وهو اسم واحد، وهو أي.
وفيما يلي تفصيل القول في ذلك:
القسم الأول من أسماء الشرط:
ما يستعمل ظرفًا: وهو نوعان: ما يستعمل ظرفًا للزمان، وما يستعمل ظرفًا للمكان:
والذي يُستعمل ظرفًا للزمان اسمان؛ هما: متى وأيان:
1. متى لتعميم الأزمنة أي: تعم الأزمنة، فلا تختص بزمن دون زمن، ومَن شواهدها قول الحطيئة:
متى تأْتِه تَعشُو إِلى ضَوْء نَارِه | * | تجد خيرَ نارٍ عِنْدَها خَيْرُ مُوقِد |
وقول عنترة:
مَتى ما تَلقَني فَردَينِ تَرجُف | * | رَوانِفُ أَليَتَيكَ وَتُستَطارا |
“الروانف”: جمع رانفة، وهي أسفل الأَلية إذا كنت قائمًَا، ومعنى “تستطار” تفزع. وقد ذهب ابن مالك إلى أن متى قد تُهمل حملًا على “إذا” فلا تكون جازمةً، ويأتي بعدها المضارع مرفوعًا، ومثَّل لذلك بالحديث: “إن أبا بكر رجل أسيف، وإنه متى يقوم مقامَك لا يُسمِعُ الناسَ”. وهذا مع التسليم به قليل، وقد منعه أبو حيان.
2. أيَّان -بفتح الهمزة وتشديد الياء-: وبني سُليم يكسرون الهمزةَ، فيقولون: إِيَّانا، وهي ظرف لتعميم الأزمنة كمتى. ومن شواهد الجزم بها قول الشاعر:
إذا النعجةُ الأدماءُ كانت بقفرة | * | فأيانا ما تعدِل به الريحُ تنزلِ |
والأدماء: الشديدة البياض.
والذي يستعمل ظرفًا للمكان ثلاثة أسماء؛ وهي: أين وأنَّى وحيثما:
1. أين لتعميم الأمكنة، أي: تدل على الأمكنة عمومًا فلا تخص مكانًا دون مكانٍ. ومن شواهد الجزم بها قول ابن همام السلولي:
أين تصرف بنا العُداة تجدْنا | * | نصرف العيس نحوها للتلاقي |
وقول الآخر:
صعدة نابتة في حائر | * | أينما الريح تميلها تمِل |
و”الصعدة”: قناة مستوية تنبت كذلك فلا تحتاج إلى تثقيف، و”الحائر”: مجتمع ما.
2. أنَّى: وهي لتعميم الأمكنة أيضًا. ومن شواهد الجزم بها قولُ الشاعر:
خليلي أنَّى تأتياني فأتيَا أخًا | * | غير ما يرضيكما لا يحاول |
3. حيثما: وهي كذلك لتعميم الأمكنة، مثل: أين وأنَّى. وقد تقدم شاهد الجزم بها، وهو قول الشاعر:
حيثما تستقِم يقدر الله | * | لك نجاحًَا في غابر الأزمانِ |
و”الغابر” يطلق على الماضي وعلى الباقي، فهو من الأضداد، والمراد هنا المعنى الثاني.
القسم الثاني من أقسام الشرط: ما لا يُستعمل ظرفًا أو ما يُستعمل غير ظرف؛ وهو ثلاثة: مَن وما ومهما:
1. مَن: هي اسم لتعميم أولي العلم، ومَن شواهد الجزم بها قولُه تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَن يَعْـمَلْ مِثْقَالَ ذَرّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة: 7، 8].
2. ما: وهي لتعميم ما تدل عليه في حال موصوليتها. ومن شواهد الجزم بها قول طَرَفة:
أرى العمرَ كنزًا ناقصًا كلَّ ليلةٍ | * | وَمَا تُنقِص الأيامُ والدهرُ ينفَد |
وهذان الاسمان لا يدلان على زمن معين من أزمان ربط الجواب بالشرط، فَهُما مبهمان في أزمان الربط. وذهب ابن مالك إلى أن “ما” الشرطية قد ترد ظرفَ زمان، فتكون شرطيةً ظرفيةً، واستدل على ذلك بقول الفرزدق:
وما تحيَ لا أرهب وإن كنت جارمًا | * | ولو عَدَّ أعدائي عليَّ لهم زحلا |
والزحل الثأر، والمعنى عند ابن مالك: أي زمان تحيا فيه لا أرغب، كما استدل بقول ابن الزبير:
فما تحيَ لا نسأم حياةً وإن | * | تمت فلا خيرَ في الدنيا ولا العيش أجمع |
والمعنى عنده: أي زمان تحيا فيه لا نسأم حياة فيه. والجمهور على أن “ما” في البيتين لمجرد الشرط، وليس فيهما معنى الظرفية؛ لصحة تقدير “ما” فيهما بالمصدر وحدَهُ، والتقدير: أي حياة تحيا لا أرغب، وأي حياة تحيا لا نسأم، فموضع “ما” فيهما نصب على المفعولية المطلقة لا على الظرفية.
3. مهما: وهي بمعنى “ما” وشاهدها قوله تعالى: {وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 132] والجمهور على أنها لا تخرج عن الشرطية. وزعم ابنُ مالك وجماعة: أنها تخرج عن الشرط إلى الاستفهام، مستدلين بقول عمرو بن ملقط الطائي:
مَهمَا ليَ الليلة مهما ليَ | * | أودَ بنعلي وسربالي |
فهي عندهم في البيت مبتدأ، و”لي”: خبره، والمراد الاستفهام، أي: أي شيء لي الليلة، ثم أعيدت جملة الاستفهام تأكيدًا ولا حجةَ لهم في ذلك؛ لأنه يحتمل أن يكون التقدير “مَه” اسم فعل أمر بمعنى: اكفف، واستؤنِف بعده استفهام بـ”ما” وحدها. كما زعم ابن مالك أن “مهما” تستعمل ظرفًا فتكون شرطيةً ظرفيةً، واستدل على ذلك بقول حاتم:
وإنك مهما تعطي بطنَك سؤله | * | وفرجك نالَا منتهى الذم أجمعا |
وبقول طفيل الغنوي:
نُبئت أن أبا شُتيم يدعي | * | مهما يعِش يَسمعْ بما لَمْ يُسمَع |
لأن التقدير عنده: أي زمن تعطي بطنك فيه سؤله، وأي زمن يعش يسمع، ولا حجةَ لابن مالك في البيتين؛ لصحة تقدير مهما فيهما بالمصدر وحده، فيكون موضعها نصبًا على المفعولية المطلقة لا على الظرفية، والتقدير: أي إعطاء تعطي وأي عيشة يعش.
تنبهان حول مهما:
الأول: من الأحكام الخاصة بمهما: أنها لا تجر بإضافة ولا بحرف جر، فلا يُقال مثلًا: حالَ مهما تذهب أذهب، ولا على مهما تكن أكن، وهذا بخلاف مَن ومَا فإنهما يجران بالإضافة، نحو: غلام مَن تضرب أضرب، وكتاب ما تقرأ أقرأ، وبالحرف نحو: بمَن تثِق أثق، وعما تسأل أَسأل.
الثاني: المختار في مهما أنها بسيطة، وإليه ذهب أبو حيان؛ لعدم قيام دليل على تركيبها، والبصريون يرون أنها مركبة من “ما” مرتين؛ الأولى: شرطية، والثانية: زائدة، فلما ثقل اجتماعهما أبدلت ألف الأولى هاءً، والكوفيون يرون أنها مركبة من “مَه” اسم فعل أمر بمعنى: اكفف، و”مَا” الزائدة وحدث لها بالتركيب معنًى جديدًا لم يكن موجودًا وهو الشرط.
القسم الثالث من أسماء الشرط: ما يُستعمل ظرفًا وغيرَ ظرف: وذلك اسم واحد هو أي:
وهو لفظ عام في ذوي العلم وغيرهم بحسب ما يُضاف إليه، فإن أضيف إلى ظرف مكان فهو ظرف مكان، نحو: أي مكان تجلس أجلس، وإن أضيف إلى ظرف زمان فهو ظرف زمان، نحو: أي يوم تحضر أحضر، وإن أضيف إلى غيرهما فهو غير ظرف، نحو قوله تعالى: {أَيّاً مّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأسْمَآءَ الْحُسْنَىَ} [الإسراء: 110] ونحو قولنا: أي كتاب تقرأ تستفِد.
هل تدخل في الجوازم إذَا؟
لـ”إذا” في الاستعمال العربي وجهان:
الأول: أن تكون للمفأجاة فتختص بالجُمل الاسمية ولا تحتاج إلى جواب، ومعناها الحال لا الاستقبال، نحو: خرجتُ فإذا الأسد بالباب، ونحو قوله تعالى: {فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيّةٌ تَسْعَىَ} [طه: 20] وهي حرف عند الأخفش، وظرف مكان عند المبرِّد، وظرف زمان عند الزجاج.
الثاني: أن تكون لغير مفاجأة، والغالب حينئذٍ أن تكون ظرفًا للمستقبل مضّمنةً معنى الشرط، وتختص بالدخول على الجملة الفعلية، ويكون الفعل بعدها ماضيًا كثيرًا ومضارعًا دون ذلك. وقد اجتمع في أبي ذؤيب:
والنفس راغبة إذا رغّبتها | * | وإذا تُرد إلى قليل تقنع |
والمشهور أن “إذا” الشرطية لا يجزم بها إلا في ضرورة الشعر؛ وذلك لأنها وُضعت للدلالة على زمن شيء محقق الوقوع، كما تقول: أجيئك إذا قدم المسافرون. وأداة الشرط الجازمة إنما تستعمل فيما يحتمل الوقوع وعدمه، فلذلك كان حقها ألا تَجزم المضارعَ في الاختيار، ولم يأتِ الجزم بها إلا في الشعر؛ حملًا لها على متى. وقد صرح بذلك ابن مالك في (الكافية الشافعية) عندما قال:
وشَاع جزمٌ بإذا حملًا على مَتَى | * | وذَا في النثر لم يُستعمل |
ثم قال في الشرح: وشاع في الشعر الجزم بـ”إذا” حملًا على متى. فَمَن ذلك إنشاد سيبويه:
ترفع لي خِندفٌ والله يرفع لي | * | نارًا إذَا خمَدت نيرانُهم تقِد |
وكإنشاد الفراء:
استغنِ ما أغناك ربك بالغنَى | * | وإذا تصبك خصاصةٌ فتحمل |
وقد ظهر الجزم بـ”إذا” في البيت الأول في جواب الشرط “تقدي” وأصله “تقد” بسكون الدال؛ لكنها حركت لأجل القافية، وهذا البيت للفرزدق، و”خِندف”: علَم قبيلة، كما ظهر الجزم في البيت الثاني في فعل الشرط “تصبك” وهذا البيت لعبد القيس البراجمي. وقد أطلق في (التسهيل) القول بمجيء “إذا” جازمةً حيث قال: “وقد يجزم بـ”إذا” الاستقبالية؛ حملًا على متى”، وقال المرادي في شرح هذا الموضع: وظاهر كلام المصنف أنه يجوز في قليل من الكلام، وقد صرح ابن مالك بذلك في كتابه (شواهد التوضيح والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح) فقال: “هو في النثر نادر، وفي الشعر كثير، وجعل منه قوله صلى الله عليه وسلم لعلي وفاطمة رضي الله عنهما: ((إذا أخذتمَا مضاجعكما، تُكبِّرَا أربعًا وثلاثين))”.
هذا، وقد ذهب بعض النحويين إلى جواز الجزم بـ”إذا” في النثر بشرط أن يزاد بعدها مَا، فيصح عندهم أن يقال: إذا مَا تجتهد في أمورك تلقَ الفوز والنجاح.
فالأقوال حول الجزم بها ثلاثة.
هل تدخل في الجواز بـ”كيف”؟
قال المرادي في (شرح التسهيل): “كيف اسم لتعميم الأحوال، وهي من أسماء الاستفهام، وقد يجازَى بها معنًى لا عملًا، فيقال له: كيف تصنع أصنع، ولا يجزم بها، خلافًا للكوفيين، فإنهم يجزمون بها، ولم يسمع، وإنما أجازوه بالقياس، وقد ثبت الرفع بها في قوله تعالى: {يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ} [المائدة: 64] والربط بها قليل، ووافق قطرب الكوفيين، وأجاز بعضهم الجزمَ بها إذا كان معها مَا”.
ومعنى قوله: “لتعميم الأحوال” أنها تدل على عموم الأحوال، فلا تختص بحال دون حال، فهي في الاستفهام يُسأل بها عن كل حال، فيقال مثلًا: كيف أنتَ أصحيح أم سقيم؟ وكيف أنت أجائِع أم شبعان؟ وكيف أنتَ أمقيم أم مسافر؟
وقول النحويين: يجازَى بها معنًى لا عملًا، معناه: أنها تكون شرطًا غير جازم، فتقتضي فعلين متفقي اللفظ والمعنى غيرَ مجزومين، وإنما أن تعمل الجزم بمخالفتها لأدوات الشرط؛ بوجوب موافقة شرطها لجوابها ما لم يكن شرطها المشيئة والإرادة، نحو: كيف تكون وأكون؟
وكيف تعمل أعمل؟ وإذا كان شرطها فعلَ المشيئة لم يشترط في جوابها أن يوافقه. ومن استعمالها شرطًا قوله تعالى: {هُوَ الّذِي يُصَوّرُكُمْ فِي الأرْحَامِ كَيْفَ يَشَآءُ} [آل عمران: 6] وقوله تعالى: {فَيَبْسُطُهُ فِي السّمَآءِ كَيْفَ يَشَآءُ} [الروم: 48] وجوابها في الآيتين محذوف؛ لدلالة ما قبلها عليه.
وقد ظهر مما قدمته أن الجزم بكيف فيه ثلاثة أقوال للنحويين:
الأول: قول جمهور البصريين، وهو أنها لا يجزم بها مطلقًا.
والثاني: قول الكوفيين -ومعهم قطرب من البصريين- وهو جواز الجزم بها قياسًا مطلقًا، فيجوز عندهم أن يقال: كيف تجلس أجلس، ومعنى مطلقًا أي: سواء اتصلت بها مَا أم لم تتصل بها.
والثالث: قول لبعض النحويين، وهو جواز الجزم بها بشرط أن تتصل بها مَا، فيصح عندهم أن يقول القائل: كيفما تجلس أجلس.
هل تدخل في الجواز بـ”لو”؟
سيأتي الحديث بالتفصيل عن هذا الحرف. لكن نورد هنا ما قيل حول الجزم به:
يقول ابن هشام: لغلبة دخول لو على الماضي لم تجزم ولو أريد بها معنى إنْ الشرطية، وزعم بعضهم أن الجزم بها مطرد على لغة، وأجازه جماعةٌ في الشعر منهم ابن الشجري كقوله:
لو يشأ طَارَ بِه ذو مَيَعة | * | لاحق الآطال نَهد ذو خَصل |
وقوله:
تامت فؤادك لو يحزنك ما صنعت | * | إحدى نساء بني ذهل بن شيبان |
وقد خُرج هذا على أن ضمة الإعراب سُكنت؛ تخفيفًا، كقراءة أبي عمرو: “وينصرْكم” [التوبة: 14]، و”يشعرْكم” [الأنعام: 109] “ويأمرْكم” [البقرة: 67]. والأول على لغة مَن يقول: شا يشا بألف، ثم أبدلت همزة ساكنة كما قيل: العأْلم والخأتم.
ويتلخص مما قاله ابن هشام ثلاثة أقوال في ذلك:
الأول: منع الجزم بها شعرًا ونثرًا.
الثاني: إجازة ذلك على لغة.
الثالث: إجازة ذلك في الشعر وحده.
والراجح هو الأول؛ لأن شرط “لو” في الغالب محكوم بعدمه، وكذلك الجواب.
والبيت الأول لامرأة من بني الحارث بن كعب، وقيل: لعلقمة، و”ميعة الفرس”: نشاطه وأول جريه، و”لاحق الآطال” معناه: ضامن الخاصرتين، و”نهد”: أي: جسيم، و”الخصل”: جمع خصلة وهي قطعة من الشعر.
والبيت الثاني للقيط بن زرارة، و”تامت فؤادك”: أزلته، من قولهم: تامه الحب وتيمه، أي: أذله.