العُشْر: حقيقته، والألفاظ ذات الصلة به، وأحكامه
حقيقته، وتعريفه:
“العشور” هي بالجملة: ما تفرضه الدولة على الأموال التجارية الصادرة من البلاد الإسلامية، والواردة إليها، أو هي التي ينتقل بها التجار بين أقاليمها.
و”العاشر”: مًن ينصبه الأمام على الطريق ليأخذ الصدقات، أو المكوس، أو العشور، من التجار، وليأمنوا به من اللصوص؛ فكأن له إذًا وظيفتيْن: الحماية، والجباية. ولا يقتصر عمله على أخذ الصدقات الواجبة على المسلمين, بل يجبي أيضًا ما يجب علي الذِّمّيين، والمستأمَنين.
وهو مشتق من قولهم: “عَشَّر المال” أي: أخذ عُشره. ويقال: “عشَّر القوم” إذا أخذ عشر أموالهم؛ فهي تسمية للشيء باعتبار بعض أحواله وهو: أخذه العشرَ كاملًا من الحربي لا من المسلم والذمي. فهو لا يأخذ العُشر كاملًا إلاّ من الحربي، ويأخذ نصفه من الذمي، وربعه من المسلم؛ ومع ذلك سُمِّي: “عاشرًا”.
فـ”العاشر”: مَن يجبي ضريبة العشور مهما اختلف سعرها، أو مهما اختلف مقدارها.
وفي (المعجم الوسيط): “عَشَر القوم عُشْرًا”، أو عَشْرًا، وعُشُورًا: أخذ عُشْر أموالهم. ويقال: “عَشَر المالَ”: أخذ عُشره مكسًا، فهو عاشر. و”العَشَّار” من يأخذ على السلع مكسًا.
وذكر الشيخ عبد الوهاب خلاف في كتابه: (السياسة الشرعية) قول القاضي أبي يوسف في كتاب “الخراج”: “حدثنا عاصم بن سليمان عن الحسن قال: كتب أبو موسى الأشعري إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنهم أجمعين-: أنّ تجارًا من قبلنا من المسلمين يأتون أرض الحرب فيأخذون منهم العشر، فكتب إليه عمر: “خُذ أنت منهم كما يأخذون من تجّار المسلمين. وخُذ من أهل الذِّمّة نصف العشر، ومن المسلمين من كل أربعين درهمًا درهمًا -أي: رُبع العشر-؛ وليس فيما دون المائتيْن شيء. فإذا كانت مائتيْن ففيها خمسة دراهم، وما زاد فبحسابه، كما هو الحال في الزكاة”.
وعلى هذا درجت الحكومات الإسلامية من عهد عمر، فأُقيم “العاشر” عند ممرّ التجار بأموال التجارة الصادرة من البلاد الإسلامية أو الواردة إليها، فإن كان التاجر مسلمًا، أُخذ منه رُبع العشر على قدْر الواجب في الزكاة. وإن كان ذميًّا، أُخذ منه نصف العشر. وإن كان حربيًّا، عومل كما يعامِلُ قومُه تجارَ المسلمين. فإن كانوا يأخذون منهم العشر، أُخذ منه، أو نصف العشر أخذ منه، أو ربع العشر كذلك. وإن لم يُعلم ما يأخذونه، أُخِذ منهم العشر”، انتهى كلام القاضي أبي يوسف في (السياسة الشرعية) للشيخ عبد الوهاب خلاف.
فكأنّ العُشر -على هذا الأساس- هو: ما يأخذه العاشر مطلقًا.
ويَشترط الفقهاء في العاشر: أن يكون مسلمًا. وسبب هذا الشرط: خضوع تجار المسلمين لهذه الضريبة؛ فلا تسند وظيفة العاشر لغير المسلم، لكي لا يكون له ولاية على المسلم، وقد قال الله تعالى: {وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء: 141].
فهذا المال يحتاج إلى تعدادٍ، أو حصر وتصنيف، ونحو ذلك، ليُعرف مقدار الواجب عليه. ولا يُقبل خبر الذمي في ذلك، قياسًا على الزكاة. ويصعب تحقيق هذا الشرط في العصر الحديث، حيث يَعمل في الجمارك التي حلّت محل التّعْشِير موظّفون ذميون.
وهكذا، فإنّ “العُشر” في الاصطلاح يطلق على معنيَيْن.
هذان المعنيان هما: عُشر التجارات والبيعات، وعُشر الصدقات، أو زكاة الخارج من الأرض. ويقتصر كلامنا هنا على بحث عُشر التجارة. أمّا عُشر الخارج من الأرض، فمحلّه الكلام عن زكاة الزروع والثمار ضمن تفصيل أحكام الزكاة، وهي -كما قررنا- أهم الموارد المالية في النظام المالي الإسلامي.
إذًا، عُشر التجارة هو: ما يُفرض على أموال أهل الذمة المُعدّة للتجارة، إذا انتقلوا بها من بلد إلى بلد داخل بلاد الإسلام.
وهناك ألفاظ كثيرة ذات صلة بكلمة “العُشر”، أو بمصطلح “العشر” منها:
“الزكاة”، وقد عرفناها من قبل بأنها لغة: النماء، والزيادة، وأنها في الاصطلاح تُطلق على أداء حق يجب في أموال مخصوصة، على وجْه مخصوص. ويعتبر في وجوبه: النصاب، والحوْل، فيما عدا الزروع والثمار؛ فزكاتها يوم حصادها تقريبًا.
والزكاة تجب في مال المسلم، سواء أكان للتجارة أم غيرها.
أمّا العُشر، فلا يجب إلاّ في الأموال التجارية. ويؤخذ أيضًا من الذمي -كما أشرنا.
مصطلح آخَر هو: “الجزية”، وهي: ما لزم الكافر من مالٍ لأمْنه واستقراره تحت حكم الإسلام، وصوْنه مالًا وعرضًا ودمًا، وسائر حقوقه التي يحميها له الإسلام.
ووجْه الصلة بين العُشر والجزية: أنّ كلًّا منهما يجب على أهل الذمة وأهل الحرب بأمانٍ، ويُصرف في مصارف الفيء.
والفرق بينهما: أنّ الجزية توضع على الرءوس، أمّا العشر فيوضع على الأموال التجارية التي يمرّ بها التاجر على العاشر.
من المصطلحات أيضًا ذات الصلة بموضوع العشور أو العُشر: “الخراج”، وهو: ما وُضع على رقاب الأرض من حقوق تؤدَّى عنها كما سيأتي.
ووجْه الصلة بين العُشر والخراج: أنّ كلًا منهما يجب على غير المسلم، ويُصرف في مصارف الفيء؛ ولذلك أَطلق عليه بعض الفقهاء: “الجزية العشرية”.
والفرق بينهما: أن الخراج يوضع على رقبة الأرض، أما العُشر فيوضع على الأموال التجارية.
منها أيضًا: “الخُمس”، وهو: اسم للمأخوذ من الغنيمة، والرِّكاز، وغيرهما ممّا يُخمس. والخمس يجب في كلّ مال فاء إلى المسلمين، سواء كان عقارًا أو منقولًا. أمّا العُشر فلا يجب إلاّ في الأموال التجارية التي ينتقل بها التاجر الذمي أو المستأمَن.
ومن المصطلحات ذات الصلة: “الفيء”, وهو -كما رأينا قبل قليل- لغة: الرجوع، أو هذا أحد معانيه الكبيرة. وفي الاصطلاح: ما ردّه الله تعالى على أهل دينه، أو على المسلمين من أموال مَن خالفهم في الدِّين بلا قتالٍ، إمّا بالجلاء، أو بالمصالحة على جزية، أو غيرها…
فبَيْنَ الفيء والعشور عمومٌ وخصوصٌ: فالفيء أعمّ من العشور.
هذا؛ وقد تكلم الفقهاء طويلًا عن الأشخاص الذين تُعَشّر أموالهم، وشروط من يُفْرَض عليهم العشر، والمدة التي يجزئ عنها العشر، ووقت استيفائه، ومن له هذا الحق، وطُرق استيفائه، وشروط العاشر، وما يجب أن يراعيه في جباية العشور، وبخاصة الرفق بأهل العشر، وأخيرًا مسقِطات العشر.
وقد ذهب الفقهاء إلى أنّ العشر المأخوذ من تجار أهل الحرب وأهل الذمة يُصرف في مصارف الفيء. كما أشاروا أيضًا إلى: أنّ العشر وسيلةٌ لهداية غير المسلمين من الحربيِّين إلى الإسلام، إذ بدخولهم بعد أخذ العشر منهم إلى دار الإسلام للتجارة، يطّلعون على محاسن الإسلام؛ فيحملهم ذلك على الدخول فيه.
والعشرُ موردٌ ماليٌ تستعين به الدولة الإسلامية في الإنفاق على المصالح العامة؛ فهو وسيلة لزيادة المال ونمائه؛ إذ إن السماح لغير المسلمين بدخول دار الإسلام، والتنقل بتجاراتهم في مقابل عشر، يؤدّي إلى تنمية أموالهم وزيادتها.
كما قال الدهلوي: “لأنّ النمو لا يتم إلاّ بالتردّد خارج البلاد. والعشر وسيلة لزيادة التبادل التجاري بين الدولة الإسلامية والدول الأخرى”.
قال السرخسي: “إنّا إذا عاملناهم بمثل ما يعاملوننا به، كان ذلك أقرب إلى مقصود الأمان واتّصال التجارات”.
الأموال التي تخضع للعشر:
لا يجب العشر إلاّ في الأموال المعدّة للتجارة بوجه عام، كالأقمشة، والزيت، والحبوب، والذهب، والفضة، ونحو ذلك… أما الأمتعة الشخصية وما ليس مُعدًا للتجارة، فلا عُشر فيه.
رَوَى يحيى بن آدم عن السائب بن يزيد قال: “كنت أُعَشِّر مع عبد الله بن عتبة زمان عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكان يأخذ من أهل الذمة عشور أموالهم فيما اتّجروا فيه”.
ويختلف مقدار ما يُؤخذ من العشر باختلاف الأشخاص الذين يخضعون له، فهو على الذمي يخالف ما على الحربي، بينان ذلك على النحو الآتي:
أولًا: المقدار الواجب في تجارة الذمي:
ذهب الحنفية والحنابلة إلى: أنّ الواجب في مال الذمي هو نصف العشر، لقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “يؤخذ ممّا يمرّ به الذمي نصف العشر”. وكان ذلك بمحضر من الصحابة من غير نكير.
وذهب المالكية إلى: أنه يجب في مال الذمي العشر كاملًا، ويُستثنى من ذلك ما يجلبه من طعام إلى المدينة المنورة ومكة المكرمة، فيؤخذ منه نصف العشر.
وإن اختلف المالكية في المراد بالطعام الذي يخضع لهذا التخفيف, فقيل: الحنطة والزيت، ولكن المقرّر في المذهب أنه جميع المُقتات أو ما يجري مجراه كالحبوب، والأدهان، أو الزيوت.
وذهب الشافعية -وهو: قول ابن نافع وابن القاسم من المالكية- إلى: أن قَدْر المشروط على أهل الذمة من العشور منوطٌ برأي الإمام.
ثانيًا: المقدار الواجب في تجارة الحربي:
ذهب الحنفية إلى: أنه يؤخذ من الحربي مثل ما يأخذه الحربيون من تجار المسلمين. فإن علمنا أنهم يأخذون منّا العشر، أخذنا من تجّارهم العشر. وإن أخذوا نصف العشر، أخذنا من تجّارهم مثل ذلك. واستدلوا لذلك بقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأبي موسى الأشعري: “خُذ أنت منهم كما يأخذون من تجّارنا”؛ ولأنّ ذلك أدعى لهم إلى المخالطة بدار الإسلام، فيرَوْا محاسن الإسلام، فيدعوهم ذلك إلى الإسلام.
وفي حالة عدم العلم بمقدار ما يأخذونه من تجّار المسلمين، يؤخَذ من تجارهم العُشر.
وذهب المالكية إلى: أنه لا فرْق بين تجّار أهل الحرب وأهل الذمة في المقدار الواجب عليهم إذا مرّوا بتجارةٍ على العاشر؛ فيؤخَذ منهم العشر من غير الطعام، ونصف العشر إذا جلبوا الطعام وما في معناه إلى مكة والمدينة.
وذهب الشافعية في الأصح -وهو: قول ابن نافع وابن القاسم من المالكية- إلى: أن تقدير العشور التي تؤخَذ من التاجر الحربي متروكٌ إلى اجتهاد الإمام حسب ما تقضي به المصلحة العامة.
وذهب الحنابلة إلى: أنه يجب على الحربي العشر دفعةً واحدةً، سواء عَشَّروا أموال المسلمين إذا دخلت إليهم أم لا، لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أخذ من أهل الحرب العشر، واشتُهر ذلك عنه ولم يُنْكَر، وعمل به الخلفاء الراشدون بعده.
ولعل من المفيد أن نشير إلي بعض جوانب هذا الموضوع:
أولًا: العُشْر، والعُشُور:
يجب عدم الخلط بين العشور كضريبة تجارية تُفرض على المنقولات، وبين العُشر وهو الزكاة التي تُفرض على الخارج من الأرض. هذه ثابتة بالكتاب والسّنة والإجماع، يقول الله تعالى: {وَأَقِيمُواْ الصّلاَةَ وَآتُواْ الزّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرّاكِعِينَ} [البقرة: 43]، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((فيما سقَتِ السماء والعيون أو كان عفيًّا: العُشر، وفيما سُقِي بالنضح: نصف العشر)).
أما العشور التي نحن بصددها، فهي ثابتة باجتهاد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، ولم ينكره أحد من الصحابة، فصار إجماعًا، كما سنعرف بعد قليل من عَرْض أدلّة مشروعية العشور؛ لكني هنا أنبِّه إلى: أنهما مختلفان في النواحي الآتية:
- من حيث الدليل، كما رأينا.
- من حيث المحلّ: فالعشر يجب في الخارج من الأرض فقط، أمّا العشور فتجب في الأموال التجارية مهما كان نوعها إذا انتقل بها صاحبها.
- ومن حيث المكلَّف بدفعه: فالعشر زكاة لا تجب إلاّ على المسلم، أمّا العشور فتجب على المسلم والذمي والمستأمَن.
ثانيًا: هناك فرق بين المكس والعشور:
فـ”المكس”: ما يأخذه أعوان الدولة من أشياء أو سلعٍ معيّنة عند بيعها، أو عند إدخالها المدن. وجمْعها: مكوس. قال ابن الأثير: “هو الضريبة التي يأخذها الماكس، وهو العاشر”. وقال البغوي والحافظ: “صاحب المكس هو: الذي يأخذ من التجار إذا مرّوا عليهم مكسًا باسم العشر”. وقال المنذري: “أما الآن فإنهم يأخذون مكسًا باسم “العشر”، ومكوسًا أُخَر ليس لها اسمٌ, بل شيء يأخذونه حرامًا وسحتًا، ويأكلونه في بطونهم نارًا. حجّتهم فيه داحضة عند ربهم، وعليهم غضب، ولهم عذاب شديد”.
وقد يراد بالمكس أو العشور: تلك الضرائب الجائرة التي كانت تسود العالم حين ظهور الإسلام؛ فقد كانت تؤخذ بغير حق، وتُنفق في غير حق، ولا توزّع أعباؤها بالعدل. ولم تكن تُنفق في مصالح الشعوب, بل في مصالح الحكام وأعوانهم. ولهذه العشور إذًا أصل في الجاهلية يفعله ملوك العرب والعجم.
وفي (التبيين) ما ورد في ذم العَشَّار محمول على من يأخذ أموال الناس ظلمًا.
وقد وردت أحاديث وآثارٌ تذم المكس وتتوعّد صاحبه، منها: قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يدخل الجنة صاحبُ مكس))، وقوله: ((صاحب المكس في النار)) يعني: العاشر.
ورُوِي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قوله: “إن صاحب المكس لا يُسأل عن شيء. يؤخَذ كما هو، فيُرمى به في النار”. ورَوَى أبو عبيد عن ابن عتاهية أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إذا لقيتم عاشرًا فاقتلوه))، وهو الذي يأخذ الصدقة بغير حق. وبعض هذه الأحاديث والآثار عند أحمد، وأبي داود، والحاكم، عن عقبة بن عامر رضي الله عنه وغير ذلك مما تجده في كتب الفقه والحديث والسياسة الشرعية.
هذا, ومن المقررات الإسلامية العامة والمتفق عليها: أنه لا يجوز أخذ أموال الناس بغير حق؛ فهو ظلم تأباه أحكام الشريعة الإسلامية كلها. وإذا حدث أن تعدّى عمال الدولة حدودهم وأخذوا جزءًا من أموال الناس بغير حق، وقد يأخذونه لأنفسهم، فإن هذا واقع تحت الوعيد الوارد في ذم المكس أو المكوس كما رأينا.
أمّا أن تحتاج الدولةُ إلى المال، ولا تستطيع مواردها الوفاء بحاجتها، فتفرض الضرائب لسدّ هذه الحاجة وتجبيها لصالح الجميع؛ فلا يدخل هذا في نطاق المكس.
والأحاديث الواردة في ذم المكس ليست صريحة في منع مطلق الضريبة؛ وإنما هي تحذير للولاة من التعدي على أموال الناس بغير حق. ومن ذلك: ما جاء من الوعيد على عامل الزكاة الذي يأخذ من الناس أكثر ممّا يجب عليهم؛ فهذا جوْر، وظلم، وغلول.
أمّا العشور الذي وضعها عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأقرّه عليها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, فهي تُفرض وتُجبى بالعدل. وتختلف عن المكوس التي تؤخذ من الناس ظلمًا؛ ولذا ورد النهي عنها، والتغليظ على العاملين عليها.
وجملة القول: أنّ من المكوس ما هو مذموم ومنهيّ عنه، ومنها ما هو غير ذلك، وأنّ المكوس المذمومة أو المنهيّ عنها هي غير نصف العشر الذي فرَضه عمر على تجارة أهل الذمة. وكذلك هي غير العشر الذي ضرَبه على أموال أهل الحرب بمحضر من الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم- ولم ينكره عليه أحدٌ منهم، فكان إجماعًا سكوتيًّا.
وفي ضوء هذا، يمكن أن نفهم طبيعة المكوس المذمومة والمنهي عنها، والتي وردت في شأنها نصوصٌ تحرّمها وتغلظ من أمرها، كما رأينا طرفًا منها قبل قليل.
ثالثًا: نشأة العشور:
وحينئذٍ يكفي أن أقول لكم: إنّ هذه العشور أو هذه الضرائب، كانت معروفة قبل ظهور الإسلام؛ فقد عرفها اليونان. وكانت ضريبة البضائع والمحاصيل الأجنبية عند حكومة الجمهورية في أثينا اثنيْن في المائة. وكانت تُعرف عند الروم، والفُرس، ومصر القديمة. وقد زاد إيراد الحكومة المصرية منها في عهد الاحتلال الروماني، وذلك بسبب الإصلاحات التي أدخلها الرومان على أحوال البلاد المالية، ولاتّساع العلاقات التجارية مع سكان النوبة الذين يُصدِّرون إلى مصر أفخر السِّلع، وهي بالتالي تصدرها إلى العالَم؛ وبذلك تحصل على رسوم مزدوجة: رسم الصادر والوارد. وكانت معروفةً عند المسيحيِّين؛ فقد كان رجال البابا في أول نشأة زعامته الدينية ينتهزون الفرصة لتوكيد سلطانه الزمني، فيفرضونها لصالح الكنيسة، ويقرّرون العقوبة على المخالِف لتعاليمها، لا فرق في ذلك بين الأمير ورعيته.
هذا, ولم تكن العشور موجودة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ولا في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه لأن نشأة الدولة وبداية تكوينها لم تكن تسمح بوجودها. أما في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد امتدّت الفتوحات شرقًا وغربًا، واتّسع سلطان الدولة الإسلامية، وصار من بين سكانها ذمِّيّون يقومون بالأعمال التجارية، ويستفيدون من مرافق الدولة، ويَجْنون من ذلك أرباحًا طائلة، إلى جانب رعاية دول أخرى بتجاراتهم إلى الدولة الإسلامية؛ فظهرت هذه الضريبة الجديدة، وكانت موردًا من موارد الدولة الإسلامية. ومن المنطق أن يعود للدولة جزءٌ ممّا يجنيه التجار من تجارتهم، وهذا ما فعَله الإسلام في العشور، وهو ما يأخذ به النظام الاقتصادي الحديث من فرض الرسوم الجمركية على البضائع أو على السلع التي تدخل إلى البلاد في كل بلاد الدنيا.
ويدل على فرضها في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما روى عاصم بن سليمان عن الحسن، قال: “كتب أبو موسى الأشعري إلى عمر بن الخطاب: إنّ تجارًا من قِبَلنا من المسلمين يأتون أرض الحرب فيأخذون منهم العشر. فكتب إليه عمر: “خذْ أنت منهم كما يأخذون من تجّار المسلمين، وخذْ من أهل الذمة نصف العشر، وخذ من المسلمين من كل أربعين درهمًا درهمًا، وليس فيما دون المائتين شيء”.
وروى أبو عبيد عن عاصي بن سليمان عن الشعبي قال: “أوّل مَن وضع العشر في الإسلام: عمر. ولو كانت في العشور سُنّة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لذُكرت، ولكان عمر رضي الله عنه أوّل المتّبعين لها، خصوصًا وأنّ الشريعة الإسلامية نظّمت في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ما يجب على المسلم من زكاة، كما نظّمت الجزية الواجبة على الذمي. أما العشور فقد وضعها عمر باعتباره وليّ أمر المسلمين له الحق في تنظيم كافة شئونهم”.
رابعًا: أدلة مشروعية العشور:
وردت آثارٌ كبيرةٌ تدل على أنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه وضع العشور، ولم ينكر ذلك أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فحصل بذلك إجماع سكوتي. وهو دليل شرعي معتبَر عند كثير من الفقهاء، خاصة في صدر الإسلام، لحرص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية. فهم يوافقون على ما يتّفق مع قواعدها، ويعارضون ما يعارضها.
ومن الآثار الدالة على فرض العشور: ما رواه أحمد بن حنبل عن سفيان، عن هشام، عن أنس بن سرين قال: “بعثني أنس بن مالك إلى العشور، فقلت له: تبعثني إلى العشور من بين عمّالك؟ قال: أما ترضى أن أجعلك على ما جعلني عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه؟: أمرني أن آخذ من المسلمين ربع العشر، ومن أهل الذمة نصف العشر”. وهذا كان بالعراق.
وعن أنس بن سرين أيضًا قال: “أرادوا أن يستعملوني على بعض مواطن العشور فأبيْت، فلقيَني أنس بن مالك فقال: ما يمنعك؟ فقلت: العشور أخبث ما عمل الناس. فقال: لا تمتنعْ! عمر صنَعه، فجعل على أهل الإسلام ربع العشر، وعلى أهل الذمة نصف العشر، وعلى المشركين ممن ليس له ذمة العشر كاملًا”.
وسئل أحمد بن حنبل: على أي سنة يؤخذ من أهل الذمة نصف العشر؟ قال: “لا أدري. إلاّ أنه فعَل عمر رضي الله عنه”.
وعن مالك بن أنس، عن بن شهاب، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه: “أنّ عمر بن الخطاب كان يأخذ من النبط من الحنطة والزيت نصف العشر، يريد بذلك أن يكثر الحمل إلى المدينة”، أي: أنه كان يغري التجار بحمل الطعام إلى المدينة، وذلك بخفض قيمة العشور أو الجمارك عليها؛ وهو ما يطلق عليه: “التسهيلات أو التخفيضات الجمركية”. “ويأخذ من القطنية -أي: الثياب ونحوها- العشر”.
وعن مالك أيضًا، عن ابن شهاب، عن السائب بن يزيد أنه قال: “كنت غلامًا عاملًا مع عبد الله بن عتبة بن مسعود على سوق المدينة في زمان عمر بن الخطاب، كان يأخذ من النبط العشر”.
فهذه الآثار دلّت على: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أخذ العشور، واشتهر ذلك بين الصحابة، وعمل به الخلفاء الراشدون بعده والأئمة في كل عصر من غير نكير. فأي إجماع أقوى من هذا؟.
وقد ورد في (الموسوعة الفقهية الكويتية) أن الفقهاء استدلوا لمشروعية العُشر على غير المسلم بالسّنة، والإجماع، والمعقول.
أما السّنّة: فقوله صلى الله عليه وسلم: ((إنما العشور على اليهود والنصارى، وليس على المسلمين عشور)). فالحديث يدل على: أنه لا يؤخذ من المسلم مال سوى الزكاة، ويؤخذ من اليهود والنصارى عشر التجارات كما تؤخذ منهم الجزية.
أما الإجماع: فقد قلنا: بعث عمر بن الخطاب رضي الله عنه العشار ليأخذوا العشر بمحضر من الصحابة -رضوان الله عليهم- ولم يخالفه في ذلك أحد؛ فكان إجماعًا سكوتيًّا.
وأمّا المعقول: فالتاجر الذي ينتقل بتجارته من بلدٍ إلى آخَر يحتاج إلى الأمان والحماية من اللصوص وقطاع الطريق. والدولة الإسلامية تتكفّل بتأمين ذلك عبر طُرقها وممراتها التجارية. فالعشر الذي يؤخذ من التاجر هو في مقابل تلك الحماية، والانتفاع بالمرافق العامة للدولة الإسلامية.
خامسًا: مبررات العشور، وشروطه:
أولًا: مبررات العشور:
يمكن ردّ المبررات التي جعلت ولاة الأمور في الدولة الإسلامية يفرضون العشور إلى ما يلي:
1. الأمان:
إذا أخرج المسلم مال التجارة إلى المفاوز أو الصحارى، احتاج إلى حماية الإمام، فيثبت له حق أخذ العشور لأجل الحماية. وكذلك الذمي -بل أكثر- لأنّ طمع اللصوص في أموال أهل الذمة أكثر وأبْيَن. وأرى أن المستأمَن يحتاج إلى الحماية أكثر؛ ولذا ينطبق هذا المبرر عليه.
ولعل جعل العشور مقابل الأمان يحوّلها إلى نوع من الضرائب الإسلامية تُدفع مقابل نفع معيّن يحصل عليه المموّل، وهو الفائدة التي تعود عليه من الأمان؛ ولذلك وجبت العشور على غير المسلم لحصوله على هذا الأمان.
والحقيقة أنّ توفير الأمن عامل هامٌ وقويٌ ومهم في تنمية أموال الناس وحفظ أرواحهم، وغالبًا لا يتحقّق هذا الأمن إلاّ بجهود تبذلها الدولة، وتنفق عليه جزءًا من أموالها حتى يستطيع التجار وغيرهم القيام بأعمالهم مطمئنِّين، ومقابل هذا الأمان يُلزَمون بدفع جزءٍ من أموالهم للدولة.
وما دام رأس المال جبانًا -كما يقال- وما دام الأمان مبررًا لأخذ العشور من المكلّفين؛ فإنه يجب أن يكون وليّ الأمر ومَن ينصبه على العشور قادرًا على الحماية من اللصوص والقطّاع؛ لأن الحماية بالجباية. وهذا طبيعي؛لأن وليّ الأمر يأخذ جزءًا من مال الناس بمقابل، فإذا لم يكن قادرًا على أداء هذا المقابل -وهو الحماية- فلا يجوز له أخذ العشور. وسنرى أن الجزية أيضًا فُرضت على أهل الذمة مقابل حمايتهم، فإذا لم تتمكّن الدولة من ذلك سقطت الجزية.
2. استفادة التجار من مرافق الدولة:
فلا تجب العشور على المكلّفين إلاّ إذا اتّجروا في بلاد الإسلام، أو بينها وبين دار الحرب؛ لأنهم في هذه الحالة سوف يستفيدون من مرافق الدولة المختلفة كالطُّرق، والجسور، والمواصلات ونحوها. وهم لا ينتقلون من بلَد لآخر إلاّ لطلب الربح؛ فتجب العشور مقابل انتفاعهم بمرافق الدولة في دار الإسلام. فالعشور تجب في مال كلِّ تاجر: الكبير والصغير، الذكر والأنثى، المسلم وغير المسلم، ممّن يحصل على هذا الانتفاع بهذه المرافق والخدمات العامة.
لقد فرضت العشور على هؤلاء جميعًا وإن تفاوتت النسبة، وذلك لتنقّلهم للتجارة بين أقاليم الدولة الإسلامية، أو بينها وبين الدول المجاورة، ولاستفادتهم بالمرافق العامة؛ فأهل الذمة صولحوا على الجزية إذا قرُّوا في بلادهم، لكن إذا خرج أهل مصر مثلًا بتجارتهم إلى الشام، أو أهل الشام إلى العراق، أو أهل العراق إلى المدينة أو اليمن، أو ما أشبه ذلك، وجبت عليهم العشور لأنهم لو استقرّوا في بلادهم لمّا حققوا ربحًا مثل الربح الذي يحصلون عليه بانتقالهم من إقليم إلى آخَر,. وبديهي أنه لو لم يكن ثمَّة ربحٌ ما تحمّلوا مخاطر هذا التنقل أو الترحال من بلد لآخر؛ ولذلك إذا أقاموا في بلادهم واتّجروا فليس عليهم شيء غير الجزية إلا إذا خرجوا من بلادهم، وضربوا في البلاد، وأداروا أموالهم للتجارة، حينئذٍ تجب عليهم العشور.
ولذلك أيضًا اختلف فقهاء المالكية حول سبب وجوب العشور عليهم، هل بسبب دخولهم الإقليم، أم بسبب ما يعوّضونه من دخولهم؟ أي: هل بسبب إتاحة وسائل الربح لهم، أم لا بد من تحقيق الربح فعلًا؟:
فمنهم من قال -وهو: ابن حبيب أحد فقهاء المالكية الكبار- بوجوب العشر على ما دخلوا به. وابن القاسم من المالكية أيضًا يرى: أن الواجب عليهم: عشر ما أفادوه، ولا يتحقّق ذلك إلا بعد البيع.
ويترتب على ذلك -كما هو معلوم-: أنه لو دخل الذمي ببضاعة أو عين، ثم أراد الرجوع قبل أن يبيع أو يشتري، فابن حبيب يوجب عليه العشور، وابن القاسم لا يوجبه؛ لأنه لم ينتفع من دخوله البلاد، لأن الأخذ منه في نظير النفع لا في دخول البلاد.
والذي أراه: أن الأخذ برأي ابن حبيب أوْلى، لأن العشور مقابل الأمان الذي حصل عليه، وتمكينه من الاستفادة من مرافق الدولة، وإتاحة وسائل الربح له، سواء حقق ربحًا أو لم يحقق. فالقول بوجوب العشور عليه إذا حقق ربحًا من تجارته يُدخل الدولة في تفاصيل هي في غنىً عنها، وأيضًا في منافسة غالبًا ما تكون غير مشروعة وغير متكافئة، بين هؤلاء وبين التجار المقيمين من المسلمين أو من غيرهم. صحيح أنّ هذا التاجر الذي دخل بلادنا بتجارته قد يتمكّن من بيع سلعته وقد لا يتمكّن، وقد يبيعها بربح أو بخسارة، وقد يدّعي أنه باعها بخسارة في حين أنه باعها بربح، بل قد يخرجها بعد دخولها البلاد لكي يبيعها في إقليم آخَر، لكن القول بوجوب العشر في حالة الربح فقط يدفع الدولة إلى ملاحقة التجار لتحصيل حقّها منه بعد البيع، وقد يصعب عليها تحصيله كاملًا.
كما أنّ القول بأنه يجب عليه عشر ما أفاده من ربح، يعطيه مزيةً على مواطني الدولة من المسلمين الذين يدفعون العشور على أموالهم التجارية، لا فرق بين رأس المال والدّخل؛ ومن ثَمَّ يحب أن يعامل الذمي كذلك، فيؤخذ منه عشور ما معه.
والآثار الدالة على وجوب العشور تدل على أنّ العاشر يأخذها حين مرور التجار عليه، دون نظر إلى تحقّق الربح أو عدمه. والعمل الآن يجري على رأي ابن حبيب لأنه رأي عمليٌ؛ فالدولة تحصل حقها بمجرد دخول المموّل البلاد من أي منفذ بري أو بحري أو جوي، وهو أنسب مكان لتحصيل الرسوم الجمركية أو العشور.
3. العامل الاقتصادي:
حيث تهدف الدولة من فرض ضريبة العشور إلى نفع اقتصادي للبلاد، كحماية إنتاج البلاد من منافسة السلع الأجنبية، كما تهدف من تخفيضها إلى تشجيع المورّدين على استيراد السلع الضرورية إليها.
ويدل على ذلك: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خفّض الضريبة من عشرة في المائة أو العُشر، إلى خمسة في المائة أو نصف العشر على السلع التي تحتاجها المدينة المنورة عاصمة الدولة الإسلامية. أمّا السلع التي لا تحتاج إليها الدولة، والتي يمكن تسميتها سلعًا كمالية أو ترفيهية، فقد أبقت الرسوم عليها كما هي، أي: أبقت عليها العشر كاملًا، بقصد حماية اقتصاد البلاد الإسلامية، خاصةً وأنّ البلاد المجاورة للدولة الإسلامية كانت أكثر منها تقدمًا في المجال الاقتصادي. ولا لوم على الدولة في ذلك، إذا نظرت إلى مصلحة شعبها، وفرضت من الضرائب ما تراه لازمًا لذلك؛ وهذا عامل مرتبط بسيادة الدولة على إقليمها.
والخلاصة:
أن الأمان الذي يحصل عليه التاجر، وتمكينه من الانتقال بتجارته بين أقاليم الدولة الإسلامية، أو بينها وبين دار الحرب، وحرْص الدولة على حماية اقتصادها، كلّ ذلك يُعدّ مبررًا لفرض ضريبة العشور. أمّا في العصر الحديث، فإن الدول تفرض الضرائب الجمركية استنادًا إلى هذه المبررات، وإلى تغذية خزائنها بالأموال، حيث تعدّ هذه الجمارك موردًا رئيسًا من مواردها المالية تدخل موازناتها العامة للدفاع عن البلاد، وللإنفاق عن المرافق وسائر الخدمات العامة.
شروط وجوب العشور:
لا تجب العشور إلاّ بعد تحقق الشروط الآتية:
الشرط الأول: يجب أن يكون المال للتجارة:
أي: يجب أن يكون صاحب المال قاصدًا الاتجار حين مروره على العاشر. فإذا لم يكن كذلك، فليس عليه شيء، حتى ولو كان معه مال كثير. فلو مر مثلًا صاحب المال ببهائمه متنقلًا بها إلى مكان آخَر للرعي أو للاستقرار في بلد آخَر، ومرّ على العاشر بطريقه، فليس عليه شيء لَعدم تحقق شرط الاتّجار.
وهذه الفكرة مطبّقة في العصر الحديث؛ فلا تُفرض ضريبة الجمارك على البضائع التي تعبر البلاد إلى بلدٍ آخَر وهو ما يُسمى بـ”الترانزيت”، ولا تُفرض غالبًا على الأشياء اليسيرة، ولا على الأشياء التي تعدّ للاستعمال الشخصي وليس لها طابع تجاري. ولا يؤثِّر على هذا الشرط كون صاحب المال تاجرًا في بلده؛ المهم: أن يتحقق هذا الشرط أثناء مروره على العاشر بأن يكون الغرض من انتقاله إلى بلد آخَر هو التجارة.
فالعشور إذًا لا تجب إلاّ في مال التجارة. ولكن اختلف العلماء حول سبب الوجوب، هل هو الاتجار فعلًا؟ أم لا بد من الإذن لصاحب المال بممارسة التجارة؟ أم لا تجب عليه الضريبة إلاّ بالشرط؟:
يرى الإمام مالك وكثير من العلماء وجوب العشور على تجّار أهل الذمة بمجرد الاتّجار. ويرى الشافعي عدم وجوب العشور عليهم إلاّ إذا صولحوا عليه، وشُرط عليهم ذلك.
الترجيح:
وأرى الأخذ برأي مالك ومن معه من العلماء؛ لأنه رأي عملي، ويحقق مصلحة للأمة في مجموعها. فالعشور لا تجب على هؤلاء إلاّ بحصولهم على مقابل وهو: الأمان، والاستفادة من مرافق الدولة -كما تقرر قبل قليل-. فإذا تحقّق هذا المقابل للتاجر الذمي، وجبت العشور، سواء شرط عليه ذلك أم لا. ولا حاجة لأَنْ يؤذن له بذلك، باعتباره مواطنًا ما لم يكن هناك تنظيم عام لهذه المهنة، بحيث لا تجوز مزاولتها إلاّ لمن أُذن له، وفي هذه الحالة يستوي المسلم والذمي.
والقول بوجوب العشور إذا شُرط عليهم ذلك يُضيع على الدولة تعشير أموال كثيرة يحملها تجارٌ لم يُشترط عليهم أداء العشور. وقول الشافعي -رحمه الله- بذلك مبنيّ على: أنّ أساس فرض العشور على أهل الذمة صلْح عمر معهم، ولئنْ قيل بهذا في زمن عمر، فإنّ الصلح معهم على ذلك ليس بلازم على مرّ العصور، كما أصبحوا مواطنين يخضعون لما يخضع له بقية المواطنين.
وبالنسبة للمستأمَن، فإنه لا يدخل دار الإسلام إلاّ بالأمان، ومعنى ذلك: الإذن له بالدخول فقط، فإذا دخل بأموالٍ تجارية وجبت عليه العشور بمجرد دخوله لأنه قد ثبت حق الأخذ منه بالحماية، وقد تحققت بمجرد دخوله.
الشرط الثاني: يجب أن يمرّ صاحب المال على “العاشر”:
فكون صاحب المال تاجرًا لا يكفي لوجوب هذه الضريبة عليه؛ بل يجب أن يمرّ على العاشر بتجارته؛ فلا تجب عليه العشور إلاّ بالانتقال بها من بلد إلى آخَر في بلاد المسلمين، كأن ينقل تجارته من الشام إلى مصر، أو إلى العراق، أو إلى الحجاز، أو إلى اليمن، ونحو ذلك… فأهل الذمة لا يطالَبون أثناء إقامتهم إلاّ بالجزية، حتى لو قاموا بأعمال تجارية، لكن لو مرّوا بمالٍ تجاري على العاشر وجبت عليهم العشور. وكذلك الحربي لا تجب عليه ضريبة العشور إلاّ إذا مر على العاشر. فلو دفع العشور ثم مكث في بلاد المسلمين يبيع ويشتري، فلا يُعَشّر مرة ثانية. وكذلك لو أراد الخروج بمالِه، ولو باع واشترى مرارًا، ما دام دفع العشور حين دخوله البلاد.
فضريبة العشور إذًا تُستحقّ إذا مرّ التاجر على العاشر. ولذا لو مر المسلم على العاشر ولم يعلم به، فلا تسقط عنه العشور، لوجوبها بالمرور، ولخضوعه لسلطان الدولة الإسلامية. أما الحربي إذا مرّ بماله ولم يَعلم به “العاشر” حين دخوله دار الإسلام وخروجه منها إلى دار الحرب، ثم عاد مرة ثانية إلى دار الإسلام، يسقط العشر عنه عن المرة الأولى ما لم يكن قد دفع العشور من قبل. ومعنى هذا: أن العشور تجب عليه وتُستوفَى منه حين مروره داخلًا دار الإسلام أو خارجًا منها. وبما أنه أجنبيٌ وليس للمسلمين ولاية عليه بعد دخوله دار الحرب، فلا تُستوفى منه العشور، بخلاف رعايا الدولة الإسلامية المسلمين والذميِّين فتُستوفى منهم العشور بعد علْم الدولة بالأموال التي لم تُعشّر.
وفي العصر الحديث، إذا تحققت الدولة من تهريب الأموال إلى البلاد، فإنها تستوفي الرسوم الجمركية إلى جانب العقوبات الرادعة، سواء كان صاحبها مواطنًا أو أجنبيًّا؛ وهذا يتمشى مع رأي الفقهاء بالنسبة للمسلم والذمي الذي يتمكّن من الإفلات من العاشر، فتؤخذ منه العشور إذا عَلمت الدولة بذلك وتمكّنت من الأخذ منه، وأولى من المسلم والذمي باعتبارهما مواطنَيْن. التاجرُ الأجنبي فتستوفي منه الدولة الضريبة الجمركية إذا تأكدت من تهربه في مرة سابقة، وأمكنها إثبات ذلك وظفرت بماله.
الشرط الثالث: يجب أن يكون المال ظاهرًا:
فيقول عمر بن عبد العزيز رحمه الله لزريق بن حيان: “انظر مَن مرّ عليك من المسلمين، فخذ ما ظهر من أموالهم العيْن، وممّا ظهر من التجارات من كل أربعين دينارًا دينارًا. وإذا مرّ عليك أهل الذمة، فخذ ممّا يُديرون من تجاراتهم من كل عشرين دينارًا دينارًا”.
ويقول زياد بن حُذير: “أول من بعث عمر بن الخطاب رضي الله عنه على العشور: أنا. قال: فأمرني ألاّ أفتش أحدًا. أمّا الأموال الباطنة التي في بيته فلا تُعشّر ولو أُخبر بها العاشر”.
فالعشور إذًا تجب على الأموال المنقولة التجارية الظاهرة، بحيث يتمكّن العاشر من رؤيتها، إذ هي الأموال التي مرّ بها صاحبها على العاشر. وليس المقصود بالأموال الظاهرة هنا الأموال الزكوية التي تَجبي الدولة زكاتها كالمواشي، والخارج من الأرض؛ فالنقود -وفْق هذا المفهوم- أموال باطنة، ومع ذلك إذا مرّ بها على العاشر اعتُبرت أموالًا ظاهرة، ووجبت ضريبة العشور عليها.
والقول بوجوب العشور في الأموال الظاهرة التي يراها العاشر: دليلٌ على الرفق بالمموّل. فلا يتعنت العاشر ويؤذي أصحاب الأموال، فهو مأمور بعدم تفتيشهم إلاّ إذا رأى أن هذه المعاملة الحسنة سوف تؤدي إلى ضياع جزء من أموال الدولة؛ فعليه أن يعمل احتياطاته وألاّ يمكِّن التجار من تهريب أموالهم.
الشرط الرابع: يجب أن يبلغ المال نصابًا:
وذلك بمعنى: أنه لا تفرض ضريبة العشور على المال القليل. والحدّ الأدنى الخاضع لها محدّد بنصاب الزكاة، وما دونه عفوٌ لا يؤخذ عنه شيءٌ، سواء كان المموّل مسلمًا أو غير مسلم.
وإعفاء القليل من المال من ضريبة الجمارك في العصر الحديث: تطبيقٌ لِمَا أخذ به الإسلام. ولمّا كانت العشور ضريبةً تجاريةً، فإن أموال التاجر تُجمع بعضها إلى بعض بالقيمة، ثم تُفرض عليها الضريبة، ويُعتبر النصاب بالنسبة لمجموع أموال التاجر التي يمر بها على العاشر لا بالنسبة لكل مالٍ على حدة، خصوصًا إذا كان كلّ نوع من هذه الأموال أقلّ من النصاب. فالقول بجمع أمواله على بعضها فيه حفظ حقّ بيت المال، ولولا ذلك لأمكن لبعض التجار إحضار أنواع كثيرة من البضائع قيمة كلّ منها أقلّ من النصاب؛ وبذلك يتمكّنون من التهرب من دفع العشور.
ويجري العمل الآن على ضوء هذه الفكرة، فتُجمع أموال التاجر على بعضها مهما تعدّدت أنواعها، فإذا تجاوز مجموعها حدّ الإعفاء فُرضت عليها الضريبة الجمركية.
هذا؛ وقد اشترط أبو حنيفة لوجوب العشر في أموال التجارة: أن يكون ممّا يبقى في أيدي الناس حولًا، كالتمر، والزبيب، والأقمشة. وأمّا ما لا يبقى في أيدي الناس حولًا، فلا يجب فيه العشر، كالخضروات، والفاكهة، ولو كانت قيمتها بالغة للنصاب، لأن العاشر يأخذ من عين ما يمرّ به عليه.
وذهب الصاحبان من الحنفية -أقصد: أبا يوسف ومحمد بن الحسن- إلى: عدم اشتراط هذا الشرط. فيجب العشر في كلّ ما أُعِدّ للتجارة، سواء كان يبقى في أيدي الناس أو لا يبقى كالخضروات والفواكه، لأن هذه الأموال محتاجة إلى الحماية كغيرها من الأموال التجارية، ولأن المعتَبر في مال التجارة معناه وهو: ماليّته وقيمته لا عيْنه.
بقي أن أشير إلى: أنّ العشر قد وجب بالشرع، فاعتبر له نصاب، واختلف القائلون باشتراط النصاب في مقدراه:
فذهب بعضهم إلى أنّ مقدار النصاب عشرون دينارًا مِن ذَهب، أو مائتا درهم من فضة. واستدلوا لذلك بقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه: “خذْ أنت منهم كما يأخذون من تجار المسلمين. وخذ من أهل الذمة نصف العشر, ومن المسلمين ربع العشر, ومن كل أربعين درهمًا درهمًا، وليس فيما دون المائتيْن شيء”.
وذهب آخَرون -وهم الحنابلة في الصحيح من المذهب- إلى: أن مقدار النصاب عشرة دنانير من ذهب، أو مائة درهم من فضة، سواء كان التاجر حربيًّا أو ذميًّا؛ لأن ذلك المأخوذ مال يبلغ واجبه نصف دينار، فوجب اعتباره كالعشرين في حق المسلم.
وفي رواية أخرى عن أحمد، يرى فيها: أنّ مقدار النصاب بالنسبة للتاجر الذمي عشرون دينارًا من ذهب، وبالنسبة للحربي عشرة دنانير.
وبعض الحنابلة يذهبون إلى أن مقدار النصاب بالنسبة للتاجر الذمي عشرة دنانير من ذهب، وبالنسبة للحربي خمسة دنانير.
على حين يرى المالكية وابن حامد من الحنابلة: عدم اشتراط النصاب لوجوب العشر في الأموال التجارية التي يمرّ بها الذمي أو الحربي، فيجب العشر في قليل الأموال وكثيرها.
الشرط الخامس: الفراغ من الدّيْن:
وهذا شرطٌ عند الحنفية، وعند الحنابلة، وأبي عبيد القاسم بن سلام، لأن التاجر الذمي الذي يؤخَذ منه العشر يُشترط أن تكون أمواله غير مشغولة بدَين ثبت عليه. فهذا الدّيْن حقٌ، أو هذا العشر حقّ يُعتبر له النصاب والحول، فيمنعه الدّيْن كالزكاة.
واختلفوا في قبول قول الذمي إذا ادّعى أنّ عليه ديْنًا: فذهب بعضهم إلى: أنه يَحلِف ويُصَدق فلا يؤخذ منه شيء، لأنه من أهل دارنا فيُصدَّق بالحلف كما يُصدّق المسلم. وذهب أحمد وأبو عبيد إلى: أنه لا يُقبل قوله إلاّ ببيِّنة من المسلمين، لأن الأصل براءة ذمّته منه. وأمّا التاجر الحربي، فلا يُشترط لتعشير أمواله التجارية هذا الشرط، لأن الدّيْن يوجب نقصًا في الملك، وملك الحربي ناقص، ولأن دينه لا مُطالب له في دارنا.
عدالة تقدير هذه العشور -أو الضريبة الجمركية:
حسْبُنا أن هذه الضريبة تُحصّل مرة واحدة في السنة حتى لو مرّ صاحب المال على العاشر أكثر من مرة، ما لم يخرج من حدود الدولة الإسلامية إلى البلاد المجاورة، أي: إلى أرض الحرب. فإن خرج ثم عاد -ولو بنفس التجارة- تحصّل منه الضريبة على الأموال التي أتى بها؛ وذلك لأنه عندما يرجع فإنه يرجع بأمان جديد، كأنّ ما يُدفع من عشور هو مقابل لما يَتمتع به الذمي في دار الإسلام من حقوق؛ كالأمان، والاستفادة من مرافق الدولة، وحمايتها، وغير ذلك كما ذكرنا بالتفصيل قبل قليل.
وأخيرًا؛ فإن العاشر كان يُقَوِّم البضائع المارّة عليه بعدالة تامة، وبدون زيادة على صاحب المال أو نقصان لحقِّ الدولة. ويخيِّرُ المموِّلَ بيْن أن يبيع له بهذه القيمة، أو أن تُدفع الضريبة وفقًا لذلك، وفي عدالة مطلقة. فقد روى زياد بن جدير: أنه مر عليه رجل ذمِّيّ ومعه فرَس فقوَّمها بعشرين ألْفًا، فقال: أعطني الفرس وخُذ تسعة عشر ألْفًا، أو أمسك الفرس وأعطني ألفًا. قال: فأعطاه ألْفًا وأمسك الفرَس”.
هذا يدلّ على عدالة تقدير الضرائب الجمركية في الدولة الإسلامية التي اتّخذت القيمة أساسًا لفرْضها، ولم تفرض الضريبة على أساس النوع. كما طبّقت قاعدة المعاملة بالمثْل، ووضع حدٍ أدنى للإعفاء من الضريبة، تشجيعًا للتجارة بين الدولة الإسلامية والبلاد المجاورة لها؛ وهذه هي أحدث المبادئ التي تسود نظام الضرائب الجمركية في العصر الحديث.
كما لم يلجأ العاشر إلى تفتيش التجار كما هو متّبَع الآن في بعض المناطق الجمركية؛ فقد نهى عمر بن الخطاب عن ذلك. وعن زياد هذا قال: “أول ما بعث عمر بن الخطاب رضي الله عنه على العشور: أنا. قال: فأمرني ألاّ أفتِّش أحدًا”.
ويتّضح لنا: أنّ عشور التجارة هي ما نطلق عليه الآن: “الضرائب الجمركية”، وهي ضريبة عينيّة لا تراعي شخص المكلف. كما أنها كانت ضريبة قيمة، تُفرض على أساس نسبة مئوية معيّنة من قيمة السلعة، ولا تختلف من سلعة إلى أخرى، إلاّ على الخمور، والخنازير؛ فإنها تُضَعّف لغرض دينيّ وهو: الحد من دخول هذه الأصناف المحرّمة، والتي لا يستعملها المسلمون.
وعلى العموم، فإن هذه الضرائب الجمركية التي فُرضت في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم تكن أداة للحماية؛ حيث لم تكن للدولة الإسلامية في ذلك الوقت من الصناعات ما يتطلّب فرْض ضرائب حامية, بل كانت الضريبة مساهمة في نفقات إقامة الأمن الداخلي الذي يتمتع به دافعو هذه الضريبة داخل أرض الإسلام.
هكذا يتضح لنا ما في الضريبة الجمركية من عدالة إسلامية، في نشأتها وفي مقدّراتها.