العُمْرَى
العمرى في اللغة: “أن يدفع الرجل إلى أخيه دارًا ونحوها، ويقول له: هذه الدار لك عمرك -أي: مدة حياتك- أو عمري أنا مدة حياتي، أو عمر أينا مات؛ رجعت الدار إلى أهله”, هذا تعريف لغوي, وهي بِضَمّ العَين وسُكون الميم وألف ممدودة.
وعند الفقهاء, عرفها الحنفية والحنابلة بأنها: “جَعْلُ المالك شيئًا يملكه لشخص آخر”. أي: شخص آخر هو عمر أحدهما يَقولُ له: أعطيتك هذه الدار لتَسْكُنها طوال عمرك؛ ثم ترجع بعد ذلك لي، أو أعطيتك لتسكنها طوال عمري؛ فإذا مت فأرجعها إلى ورثتك.
والمالكية والشافعية عرفوها بأنها: جعل المالك شيئًا يملكه لشخص آخر عمر هذا الشخص؛ أي: حَدَّدها المالكية والشافعية بأنّ العُمرى مرتبطة بعمر هذا الشخص, الذي هو أٌعطي الدار لينتفع بها طوال عمره.
حكم العمرى:
ذهب الفقهاء إلى جوازها في الجملة؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم: ((من أعمر عمرى, فهي للذي أعمرها)) أي: الذي أُعطيت له؛ لينتفع بها ((حيًّا وميتًا ولعقبه)) هذا الحديث أخرجه مسلم من حديث جابر, ولقوله صلى الله عليه وسلم: ((العمرى جائزة لأهلها)) أي: من يَمْلُك أن يهب, يملك أن يعمر غيره.
إذًا: حقيقة العمرى أنها نوعٌ من الهبة يشترط فيها ما يشترط في سائر الهبات من الإيجاب والقبول؛ إلا أن الفقهاء اختلفوا في كونها تمليك عين أو تمليك منفعة، على ثلاثة أقوال:
أحدها: ذهب إليه الجمهور, وهم الحنفية والشافعية والحنابلة، وقالوا: إنّها تَمْلِيكُ عينٍ في الحال, أو كما عبروا “هبة مبتوتة”, فتَنْتَقل إلى “المُعْمَر” بفتح الميم وسكون العين وضم الميم، وهو الشَّخْصُ الذي سُلِّمت له لينتفع بها عمره، واستدلوا بحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: ((أيها الناس، أمسكوا عليكم أموالكم ولا تفسدوها)), وفي رواية: ((ولا تُعمروها؛ فإنه من أعمر عُمرى فهي للذي أعمرها)) أي: للذي أعطيت له لينتفع بها عمره حيًّا وميتًا ولعقبه. وفي لفظ: ((قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالعمرى؛ أنها لمن وُهبت له)). هذه أدِلّتُهم, فهي تملِيكٌ في الحال أي: هبة مبتوتة؛ هذا ما ذهب إليه الجمهور -الحنفية والشافعية والحنابلة.
القول الثاني: ذهب إليه المالكية, فقالوا: ليس للمُعْمَر فيها إلا المنفعة. إذًا: ليست هبة مبتوتة ولا تمليك عين؛ فإذا ماتَ الشَّخْصُ المُعمر عادت إلى المعمر؛ إذا كان حيًّا أو إلى ورثته إذا كان قد مات.
واستدلوا بما روي عن ابن القاسم قال: “سمعت مكحولًا يسأل القاسم بن محمد عن العُمرى، ما يقول الناس فيها؟ قال القاسم: ما أدركت الناس إلا على شروطهم في أموالهم، وما أعطوا”.
وعن ابن العربي المالكي: “لم يختلف العرب في العمرى ونحوها”, أي: العمرى وما في حكمها، أي: الألفاظ التي تقتضي أن شخصًا يعطي شخصًا شيئًا لينتفع به عمره، إذا قال بلفظ العمرى أو بلفظ المنحة طوال عمره… إلى آخره, وأضاف معنى “لم يختلف العرب في العمرى ونحوها” أنها على ملك أربابها، ومنافعها لمن جعلت له, أي: ليس للشخص المعمر إلا المنفعة.
وقالوا: إن التمليك لا يتأقت, فالتمليك يقتضي نقل الملكية، وهل يصحُّ أن يبيع الشخص شيئًا إلى مدة؟ فقاسوها على البيع, فالبيع ما دام لا يَجُوز إلى مُدّة كذلك العمرى لا تجوز إلى مدة؛ فيحمل قول المعمر هنا على تمليك المنافع، لو قال له: أعمرتك هذه الدار, أي: تملك منافع الإقامة فيها؛ لأن هذا هو الذي يحصل للتوقيت.
القول الثالث: أنه إذا قال: هي عمرى لك ولعقبك؛ كانت الرُّقْبى ملكًا للمعمر الذي يسلمه الدار لينتفع بها، فإذا قال: هي عمرى لك ولعَقِبك، أي: لأولادك وذريتك من بعدك كانت الرُّقبى ملكًا للمعمر، وإذا لم يذكر العقب عادت الرقبى ملكًا بعد موت المُعْمَر للمُعْمِر أو لورثته إن كان حيًّا.
هذا القول قال به داود وأبو ثور، وهو في الحقيقة قول يُمكن تأييده؛ لأنّ ابن رُشد من المالكية رأى أن الحق أنه يجب أن يكون الحكم إذا صرح بالعقب مخالفًا لما إذا لم يصرح بذكر العقب، على ما ذهب إليه أهلُ الظّاهر؛ فكأنهم -أهل الظاهر- نظروا إلى الألفاظ.