الفتح الإسلامي للأندلس، وملامح البيئة والعناصر السكانية
تعريف بالتاريخ الأدبي والبيئي للأندلس:
تُطلق كلمة “الأندلس” على المكان الذي توجد فيه -الآن- دولة أسبانيا ودولة البرتغال، هذه المِنطقة التي تقع في الجنوب الغربي من أوروبا هي التي تسمَّى في لغتنا وثقافتنا “بلاد الأندلس”.
من أين جاءت هذه التسمية “أندلس”؟
يقول الباحثون والمؤرخون -الذين تخصصوا في دراسة التاريخ الأدبي لهذه البلاد: إن هذه البلاد كانت تسمى قبل أن يدخلها المسلمون “زَندليسيا” نسبةً إلى السكان الذين كانوا يسكنونها من قبائل تسمى قبائل “وندلس” أو “الوِندال” -في بعض المصادر، فلما دخل المسلمون هذه البلاد استبدلوا بالواو الهمزةَ وقالوا بدل “وندلس” أندلس، وسموا هذه البلاد باسم القبائل التي تسكنها من قبل أن يفتحها المسلمون ويقطنوها. وأخذ هذا الاسم يتردد في الكتابات العربية ويطلق -كما قلت- على هذه المِنطقة الواقعة في الجنوب الغربي من قارة أوروبا، والتي فتحها المسلمون في العصر الأموي.
الوصف الجغرافي لهذه البلاد:
إن بلاد الأندلس شبه جزيرة تقع في الجنوب الغربي من أوربا -كما قلت- تحيط المياه بها من جميع جهاتها ما عَدَا جهة الشمال الشرقي، في جهة الشمال الشرقي تقع جبال البرانس التي تفصل هذه البلاد عن فرنسا، فمياه البحر الأبيض تحد هذه البلاد من جهة الشرق، ومياه المحيط الأطلسي من الغرب، والشمال الغربي، ومزيج من مياه البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي في الجنوب، وفي جهة الجنوب يقع مضيق جبل طارق ملتقَى البحر الأبيض المتوسط بالمحيط الأطلسي، وهذا المضيق هو فاصلٌ مائي ضيق، يفصل شمالَ إفريقيا عن جنوب أوربا، وهذا المضيق يبلغ عَرْضه في أضيق مواضعه خمسة عشر كيلو مترًا تقريبًا.
البيئة الجغرافية لهذه البلاد بيئة متنوعة، فيها جِبالٌ وفيها هِضاب، وتجري فيها أنهارٌ كثيرة، وعلى ذلك ففيها أماكن خصبة، وأماكن جدباء، وأماكن معتدلة المناخ، وأماكن غير معتدلة المناخ، وهكذا.
السكان الذين كانوا يقيمون في هذه البلاد قبل أن يصلها العرب أخلاطٌ من أجناس شتى؛ منهم الرومان الذين كانوا يحكمون هذه البلاد قديمًا، ثم منهم أيضًا قبائل “الوندال” أو “الوندلس”، ومنهم أيضًا قوم يقال لهم: “القوط”. هذه هي العناصر هي التي كانت تكون السكان الذين كانوا يسكنون بلاد الأندلس أو إسبانيا قبل أن يدخلها المسلمون.
وشبه الجزيرة الأندلسية بهذا الوصف -إذًا- متنوعة الأقاليم، أماكن مختلفة المناخ والطبيعة، سكان أيضًا من أصول مختلفة؛ لا بد أن تكون طباعهم كذلك فيها شيء من الاختلاف، تغلب على بعض الأجزاء في هذه البيئة طبيعة أوربا؛ خاصةً الأماكن القريبة من قارة أوربا، وتغلب على بعض الأماكن طبيعة إفريقيا؛ خاصة في الجنوب، حتى السكان أيضًا بعضهم يماثل غيرَه من الأوربيين، وبعضهم يشابه مجاوريه من سكان شمال إفريقيا، فهذا الامتزاج والتنوع جعل من هذه البلاد ذات طبيعة خاصة.
وكما اختلفت الأجواء والطبائع في تلك البلاد اختلفت الحاصلات الزراعية التي كانت تنتج منها، حتى قالوا: إن أكثر الحاصلات التي تُعرف في مناطق العالم المختلفة كانت تظهر في بلاد الأندلس؛ لأن هناك من الأجواء ما يصلح لكل المزروعات تقريبًا، على أن أكثر المحاصيل التي تجود في هذه البلاد فهي القمح والشعير والأرز، والبقول، والفاكهة، والكروم، والموالح، والزيتون، وهذه كلها تمثل -كانت وما تزال- موارد اقتصادية جيدة لهذه البلاد، وهذه البلاد أيضًا غنية بالمناجم، والموانئ البحرية، والمراعي.
ولذلك كله كانت هذه البلاد مهمة جدًّا للمسلمين، ولَمَّا فتحها المسلمون وجدوا فيها بيئة خصبةً استطاعوا أن ينشروا فيها دينهم، وأن ينشروا فيها لغتهم، وأقاموا في هذه البلاد حضارة إسلامية شامخةً ورائعةً، ما تزال آثارها شاهدة على هذا التاريخ إلى يومنا هذا.
وقد ظل الإسلام والمسلمون في هذه البلاد ثمانية قرون تقريبًا، ثم دالت دولة المسلمين هناك وتغلب عليهم المسيحيون وأخرجوهم منها، وكان لهذا الخروج -بالتأكيد- أسبابٌ وعوامل لا نفصّل القول فيها، ولكنها السنن التي قدرها اللهسبحانه وتعالى وأجراها في كونه، والعوامل التي تصاحب قيام الدول وسقوط الدول، فالاختلاف والتناحر والتنازع والانقسام، وتحوّل ولاة المسلمين إلى مصالحهم الشخصية، وغفلتهم عما يجب عليهم من التوحّد، وتغليب كل مَلك وكل خليفة لمصلحته الشخصية على مصالح العامة، واللهو والغفلة اللتان وقع فيهما المسلمون- كل هذه الأسباب كانت أسبابًا وعواملَ عملت على إسقاط دولة المسلمين والإسلام في هذه البلاد، في المقابل كان المسيحيون المتعصبون يستعدون ويجهزون وتساعدهم البلاد الأوربية لإخراج المسلمين من هذه البلاد، فأخرجوهم منها -كما قلت- بعد حكمٍ ووجود إسلامي استمر في تلك البلاد ثمانية قرون من الزمان، ولله الأمر من قبلُ ومن بعد.
الفتح الإسلامي لبلاد الأندلس:
كانت جيوش المسلمين لا تني تفتح البلاد في أيام الخلفاء الراشدين، وتحت الحكم الأموي، واتسعت رقعة الدولة الإسلامية في العصر الأموي اتساعًا كبيرًا، ووصلت جيوش المسلمين إلى بلاد المغرب العربي، ففتحتها ونشرت الإسلامَ فيها.
وفي عهد الوليد بن عبد الملك كان قائدُه على المغرب موسى بن نصير صاحب فضل كبير في تثبيت الإسلام ونشره في شمال إفريقيا وبلاد المغرب، ووصل موسى بن نصير إلى شاطئ المحيط الأطلسي وتوقف، وكان موسى بن نصير يتطلع إلى أن يعبر المحيطَ؛ ليصل بالإسلام إلى الجهة الشمالية والتي تقع بلاد الأندلس فيها، لكن موسى بن نصير كان مترددًا في ذلك، وكان يخشى على جنوده وعلى جيشه من المخاطرة.
ثم شجّعه على اقتحام المحيط والعبور إلى الجهة الأخرى أنَّ حاكم “سبتة” -وسبتة هذه مدينة وثغر وولاية إفريقية تقع قريبًا من مضيق جبل طارق، وكانت هذه الولاية تابعة لحكَّام أسبانيا- جاء إلى موسى بن نصير، وعَرَضَ عليه تسليمَ هذه الولاية والمساعدةَ في فتح بقية بلاد الأندلس.
المؤرخون يقفون عند هذا التصرف من هذا الحاكم، لماذا فَعَلَ ذلك؟
ويرجعون هذا التصرفَ إلى وجود ضغائنَ بين هذا الحاكم -واسمه “يوليان”- وبين ملك “القوط” الذي كان يحكم بقيةَ البلاد والمسمى في ذلك الوقت “رُزريق”.
اغتنم موسى بن نصير بالتأكيد هذه الفرصة، وأرسل أحدَ محاربيه على رأس قوة صغيرة عبَرت المضيق على سُفن قدَّمها حاكم “سبتة” ونزلت في جنوب شبه الجزيرة بمكانٍ لا يزال يحمل اسم القائد الذي كان قائدًا لهذه المجموعة الصغيرة من الجند، وكان اسمه “طريف”، ثم عادت هذه المجموعة إلى شمال إفريقيا بمعلومات وأخبار طمأنت موسى بنَ نصير، وزادت رغبته في فتح تلك البلاد، كان ذلك سنة واحد وتسعين من الهجرة.
وفي السنة الثانية سنة اثنتين وتسعين من الهجرة، أرسل موسى بن نصير جيشًا كبيرًا بقيادة طارق بن زياد؛ لفتح هذه البلاد، وقد عبَر جيش طارق المضيق البحري الذي يفصل أوربا عن إفريقيا، هذا المضيق الضيق عبره طارق بن زياد، ونزَلَ من جنوب شبه الجزيرة في مكان سُمي باسمه المعروف وهو جبل طارق، والمضيق معروف باسمه أيضًا مضيق جبل طارق.
كان طارق بن زياد قائدًا شجاعًا ومتمرسًا، هزَمَ بجيشه كل الحاميات التي تعرضت له بعد عبوره إلى الشاطئ الآخر، ووصل نبأ هذا القائد المسلم وجيشه إلى ملك “القوط” الذي كان في شمال الجزيرة يُخضِعُ بعضَ الثائرين هناك، عاد هذا الملك إلى “طُليطلة” -عاصمة بلاده في ذلك الوقت- واستعدّ بجيش كبير للقاء طارق بن زياد، والتقى الجيشان في معركة كبيرة انتهت بانتصار المسلمين.
وبعد هذه المعركة الحاسمة أرسل طارق بن زياد بعضَ قادته وجنوده؛ لفتح البلاد والمدن الأسبانية، مثل قرطبة وغرناطة ومالقة، وغيرها من المدن والأقاليم، واتجه بأكثر جيشه إلى عاصمة الدولة “طليطلة” فدخلها، وأسس دولة المسلمين في الأندلس على أنقاض دولة “القوط”.
في عام ثلاثة وتسعين من الهجرة عبر موسى بن نصير إلى الأندلس بجيش جديد، ونزل في مكان آخر غير الأماكن التي نزل فيها طارق بن زياد، ثم أخضع في طريقه عددًا من المدن والأقاليم التي لم تكن قد خَضعت لطارق، مثل: إشبيلية وغيرها، ووصل بجيشه إلى العاصمة التي استقر بها طارق وجيشه.
ويذكر التاريخ: أنه حدثت خصومة بين موسى بن نصير وقائده المظفر طارق بن زياد، يذكرون أن موسى عَنَّفَ طارقًا ولامَه على توغله في البلاد المفتوحة توغلًا كان من الممكن أن يجلب الشر على جيوش المسلمين، وبعضهم يرجع هذه الخصومة إلى أن موسى بنَ نصير حسَدَ هذا القائد على الإنجاز الذي تحقق له.
على أية حال، استطاع المسلمون أن يُخضعوا بلادَ الأندلس لهم وأن يستقروا بها.
استُدعي بعد ذلك موسى بن نصير إلى دمشق للقاء الخليفة الأموي هناك، فأوقف موسى بن نصير الزحفَ وتوجه إلى دمشق؛ للقاء الخليفة، وعاد بعد ذلك وأصلح من شأن الأمور في بلاد الأندلس، وولَّى ابنه عبد العزيز على البلاد، وأصبحت بلاد الأندلس من ذلك الوقت دولةً خاضعةً للسيادة الإسلامية، كان في بداية الأمر يُولّى على هذه البلاد ولاة يُعيّنون من قبل الخليفة في دمشق أو من قبل حاكم شمال إفريقيا، وسُميت الفترة الأولى فترة الولاة.
ثم بعد سقوط دولة الأمويين في المشرق العربي وقيام الدولة العباسية، بدأ تاريخ جديد في بلاد الأندلس؛ إذ إن شابًّا من الأمويين ذا نفس عالية وهمة كبيرة وطموح عجيب استطاع أن ينجو من القتل الذي أعمله العباسيون في الأمويين جميعًا، وأن يهرب من بطش العباسيين، واتجه بعد رحلة ومعاناةٍ إلى بلاد الأندلس، واستطاع هذا الفتى الأموي “عبد الرحمن الداخل” أن ينشئ دولة جديدةً لبني أمية في بلاد الأندلس، وهذا العصر يسمى العصر الأموي في الأندلس أو عصر الإمارة.
ثم بعد فترة حدث ضعف في هذه الإمارة، بعد فترة استمرت حوالي ثلاثة قرون، وبعده بدأ عصرٌ جديد يسمى عصر ملوك الطوائف، وهو يبدأ بسقوط الدولة الأموية في بلاد الأندلس التي أسسها عبد الرحمن الداخل وقيام عدة ممالك مستقلة، تقسمت الأندلس معها إلى طوائف، وكل طائفة لها مَلك، وكل إقليم له مَلك، حتى استولى المرابطون على الأندلس بقيادة يوسف بن تاشفين سنة أربعمائة وثلاث وتسعين من الهجرة، وبعد عصر المرابطين يأتي عصر الموحِّدين، ويبدأ بحكم هؤلاء الموحدين الإفريقيين للأندلس بعد تغلبهم على المرابطين، وينتهي عصر الموحِّدين بسقوط دولتهم وانتزاع المسيحيين الإسبان للكثرة الغالبة من الأقاليم التي كانت في أيدي المسلمين، وانحصار الدولة الإسلامية في الأندلس في جزء جنوبي صغير هو مملكة “غرناطة” وذلك في سنة ستمائة وثمان وستين من الهجرة تقريبًا.
وفي “غرناطة” وحدها يستمر المسلمون ويسمى عصر المسلمين فيها بالعصر الغرناطي، ويبدأ بتأسيس مملكة غرناطة على يد ابن الأحمر، وينتهي بتسليم هذه المدينة إلى الإسبان سنة ثمانمائة وثمانٍ وتسعين من الهجرة.
وبهذا السقوط -سقوط مملكة غرناطة- تُطوَى صفحة المسلمين في بلاد الأندلس، ويخرج المسلمون منها وتعود كما كانت قبل ثمانية قرون دولةً مسيحيةً أوربية، ليس للمسلمين فيها إلا الشواهد التي تنبئ أن المسلمين عبروا من هنا، وأقاموا هنا، وأقاموا مساجدهم، وقامت حضارتهم ومجالس علمهم، هذه الحضارة وهذا العلم الذي كان منارةً لبلاد أوربا كلها في ذلك الوقت من الزمان.
الحضارة الإسلامية والأدب العربي في بلاد الأندلس:
هل نقول: إن السكان الأصليين اعتنقوا الإسلام، وتعلموا اللغة العربية، وهم أصحاب الفضل في هذه الحضارة وهذا الأدب؟ فالحضارة الإسلامية هناك إذًا أبدعها الإسبانيون؟ أم نقول: إن هذه الحضارة وهذا الأدب ينتسب إلى العرب الذين ذهبوا إلى هذه البلاد؟
المؤرخون يقولون: إن المؤرخين الإسبان يتعصبون لجنسهم، ويقولون: إن الأندلسيين إِنْ هُمْ إلا إسبان اعتنقوا الإسلامَ وتعلموا العربية، والمؤرخون المتعصبون للعرب يقولون: إن العرب ذهبوا إلى تلك البلاد، واحتفظوا بأصولهم وبأنسابهم وأنساب قبائلهم، وهم الذين تُنسب إليهم هذه الحضارة وذلك الأدب، وهم عربٌ مسلمون.
والحقيقة التي يجب ألا نغفل عنها: أن المسلمين الذين ذهبوا إلى بلاد الأندلس وفتحوها لم يعيشوا بمعزلٍ عن سكان هذه البلاد الأصليين، فقد حدث تزاوج واختلاط بين العرب الوافدين والمسلمين الفاتحين، وبين سكان البلاد الأصليين، هذه مسألة عادية وجارية في تاريخ الأمم والشعوب، خاصةً إذا كان فترة وجود العرب والمسلمين في هذه البلاد فترةً طويلةً جدًّا ثمانية قرون.
إذن نشأ جِنس، هو بالتأكيد حصيلة هذا الامتزاج من العرب والمسلمين الفاتحين، وهؤلاء السكان الذين كانوا يسكنون في هذه البلاد السكان الأصليين قبل أن يفتح المسلمون بلادهم.