Top
Image Alt

الفتوح في العراق وفارس والشام والجزيرة في خلافة عمر رضي الله عنه

  /  الفتوح في العراق وفارس والشام والجزيرة في خلافة عمر رضي الله عنه

الفتوح في العراق وفارس والشام والجزيرة في خلافة عمر رضي الله عنه

بنهاية عصر الصديق رضي الله  عنه لوحظ قلة عدد القوات الموجودة على جبهة العراق، مما ألزم المثنى بالتحرك، وسفره إلى المدينة، وطلبه من الصديق إرسال قوات إلى العراق؛ حتى يتمكن المثنى من مواصلة الفتوحات في العراق.

كانت هذه الأيام هي آخر أيام الصديق رضي الله  عنه فوصى الصديق الفاروق: أنه عند موته يندب الناس الفاروق للجهاد في العراق، والذهاب مع المثنى، وبالفعل توفي الصديق رضي الله  عنه وتولى الفاروق رضي الله  عنه وبمجرد أن وُلِّي بدأ في ندب الناس، ودعوتهم للذهاب إلى العراق، والجهاد على جبهة العراق.

استمر هذا الحال ثلاثة أيام في المدينة، وهو دعوة الناس للذهاب والجهاد في الجبهة العراقية، لم يظهر أحد، في اليوم الرابع تقدم أحد المسلمين وهو يسمى أبو عبيد مسعود الثقفي؛ فانتدبه الفاروق ليكون أميرًا على تلك القوات، التي سوف تذهب إلى العراق، وبدأ يكثر أعداد الناس التي أتت ودخلت في هذا الجيش الذي سوف يتوجه إلى العراق لمواصلة الفتوحات فيه، وهنا حدثت -إن صح التعبير- مناقشة جدال بين الفاروق عمر، وبين أهل الحل والعقد في المدينة وكبار الصحابة؛ حيث أُشير على عمر بأن يتخير صحابيًّا لقيادة هذا الجيش بدلًا من أبي عبيد .فرد عمر بقوله:

إنما أؤمر أول من استجاب، إنكم سبقتم الناس بنصرة هذا الدين، وإن هذا هو الذي استجاب قبلكم.

ثم دعاه فوصّاه؛ ليس هذا فحسب بل إنه كتب إلى أبي عبيدة بن الجراح أن يرسل من كان بالعراق ممن قدم مع خالد بن الوليد؛ فجهّز عشرة آلاف مقاتل، وأرسلهم وعليهم هاشم بن عتبة، بهذه الصورة تكون الاستعدادات قد بدأت تتم لهذه الجبهة، وكان عليها أبو عبيد بن مسعود الثقفي.

وقعة النمارق:

تقول الروايات: إن رستم أرسل أميرًا له يقال له: جابان، هذا الأمير كان معه اثنان من النواب، والتقوا جميعًا مع أبي عبيد بن مسعود الثقفي، الذي تولى الجبهة والذي جاء بالقوات من المدينة.

وهذا خلاف أبي عبيدة بن الجراح، فالتقوا مع أبي عبيد بمكان يقال له: النمارق، هذا المكان بين الحيرة والقادسية، فاقتتلوا هناك قتالًا شديدًا، وهزم الله الفرس، ووقع نائبي جابان أسيرين في يدي المسلمين، ولكنهما خدعا الجنود، وأخذا أمانًا من بعض المسلمين وفرا.

ولكن استطاع المسلمون أن يمسكوا بهما وأن يعيدوهما إلى أبي عبيدة؛ أحد النائبين قُتل، والآخر قالوا له: هذا الأمير اقتله، قال: وإن كان الأمير، فإني لا أقتله وقد أمّنه رجلٌ من المسلمين.

في هذا نظر: هؤلاء إنما انتصروا بالحفاظ على عهودهم ومواثيقهم وذممهم، لم يكن في هذه العهود والمواثيق أي خلل،هكذا كانت عادتهم وهكذا علمهم دينهم، وهكذا تعلموا من رسول الله صلى الله عليه  وسلم.

على أية حال، تم النصر للمسلمين، وفرَّ الفرس، وركب أبو عبيد في آثار من انهزم منهم، وقد لجئوا إلى مدينة كسكر، وتجمعت قوات هناك، وحاولوا قتال أبي عبيد؛ فقهرهم أبو عبيد وغنم منهم شيئًا كثيرًا، وأموال عظيمة ولله الحمد، وبعث بخُمس ما غنم من المال والطعام إلى عمر بن الخطاب رضي الله  عنه.

كذلك حدث تجمُّع آخر في مكان بين كسكر والصفّادية، كان رستم قد جهَّز بعض الجيوش وأرسل مع الجالينوس؛ لما بلغ أبو عبيد ذلك أعجل بالقتال، ووصل إلى هذه المنطقة، واقتتل مع الفرس قتالًا شديدًا؛ فانهزمت الفرس، وهرب الجالينوس إلى المدائن، وفرت القوات أيضًا إلى مكان يسمى بارُسمه قوات الفرس؛ فبعث أبو عبيد المثنى بن حارثة، وسرايا أخرى إلى متاخم تلك الناحية؛ لإكمال حركة الفتوحات والتطهير من الفرس فيها كانت منطقة تسمى نهر الوجور ونحوها. وتم فتح أغلب هذه المناطق صُلحًا وقهرًا، وضُربت الجزية والخراج على من لم يدخلوا في الإسلام، وغنم المسلمون الأموال الجزيلة والعظيمة.

موقعة الجسر:

إن رستم أرسل جيشًا كثيفًا جدًّا عليهم حاجبه “جازويه”، وأعطاه راية تعرف باسم راية أفريدون، وكان الفرس يتيمنون بهذه الراية؛ كذلك حملوا معهم راية كسرى، وهذه الراية كانت من جلود النمر، وكان عرضها ثمانية أذرع، عندما وصلوا للقاء المسلمين حدث أنه كان يفصل بينهم وبين المسلمين جسر فوق نهر؛ فحدثت المراسلات بين جند المسلمين والفرس؛ فأرسل الفرس للمسلمين: إما أن تعبروا إلينا، وإما أن نعبر إليكم. قال المسلمون لأميرهم وهو أبو عبيد بن مسعود الثقفي مرهم فليعبروا هم إلينا.

وهذا عسكريًّا هو الأفضل، وهنا ظهرت روح الشجاعة والإيثار في أبي عبيد بن مسعود الثقفي. قال لهم: الفرس ليسوا بأجرأ على الموت منا، ونحن حريصون على الشهادة.

ومن ثم آثر أبو عبيد أن يعبر هو والمسلمين إليهم، وبالفعل عبروا إليهم واقتحموا إليهم؛ فاجتمعوا في مكان ضيق، واقتتلوا في هذا المكان، قتالًا شديدًا لم يُعهد مثله.

ولكن حدث أن جاءت الفرس بقوات عظيمة، وعلى رأسها الفيلة، وعلى الفيلة جلاجل، وهي أدوات نحاسية من النحاس ومن الحديد، تتخبط في بعضها فتحدث أصواتًا؛ هذه الأصوات تحدث إزعاجًا شديدًا لخيل المسلمين؛ فتفر خيل المسلمين من أمام فيلة الفرس كلما سمعت هذه الجلاجل، ولا تثبت في ميدان المعركة، وإذا حمل المسلمين على الفرس لا تتقدم خيولهم على الفيلة تتخوف من هذه الأصوات، ومن ثم تمكن الفرس من رشق خيل المسلمين بالنبل؛ فقتلوا منهم خلقًا كثيرًا، ومع ذلك قتل المسلمون من الفرس حوالي ستة آلاف.

وهنا أشار أبو عبيدة على المسلمين أن يقتلوا الفيلة أولًا. فبالفعل بدء بقتل الفيلة وقدمت الفرس بين أيديهم فيلًا عظيمًا أبيض؛ فتقدم له أبو عبيد، وضربه بالسيف فقطع زلومته؛ فحمي الفيل، وصاح صيحة هائلة، وحمل على المسلمين، وضرب أبو عبيد فألقاه على الأرض، ووقف فوقه، بوضع قدميه عليه. وتقول الروايات: إن أبا عبيد أوصى بستة من بعده يتولون قيادة جيش الإسلام، لو حدث له مكروه؛ قُتل كل هؤلاء الست، حتى تولى الجيشَ المثنى بنُ حارثة بمقتضى الوصية أيضًا، يعني هو من الأسماء التي ذكرها أبو عبيد بن مسعود الثقفي لتولي أمر المسلمين عند موته.

تقول بعض المصادر: إن امرأة أبي عبيد كانت تسمى دومة، رأت منامًا يدل على ما وقع للمسلمين، لما رأى المسلمون ذلك، وأن هذه الرؤيا بدأت تتحقق وهنوا وضعفوا، بالرغم من أنهم كانوا لم يبق لهم إلا الظفر بالفرس، لكنهم ضعف أمرهم وذهب ريحهم، وولوا مدبرين؛ فساقت الفرس من خلفهم، وأتبعوهم قتلًا، فقتلوا منهم بشرًا كثيرًا، وجاء الناس إلى الجسر؛ وحاولوا أن يعبروا الجسر الممدود فوق النهر؛ ليعودوا مرة أخرى.

عاد البعض، ولكن انكسر الجسر ووقع الكثير من المسلمين في مياه النهر، وفرَّ الكثير من المسلمين في الفيافي والقفار، وتابعهم الفرس ليقتلوهم.

وقيل: إنه غرق في نهر الفرات نحوًا من أربعة آلاف.

وكان للمثنى بن حارثة الذي تولى قيادة الجيوش موقف عظيم ومشرف، حيث وقف هو ومجموعة من الأبطال الشجعان من قوات المسلمين، ونادوا: أيها الناس -يعني: على هيئتكم لا تتخوفوا- ووقفوا ليحموا ظهور المسلمين، و جُرح الكثير من المسلمين، وقُتل الكثير، وغرق الكثير من المسلمين، وذهب بعضهم في البرّية، لا يُدرى أين ذهب، ومنهم من رجع إلى المدينة النبوية.

ووصل الأمر للفاروق عمر بن الخطاب، وكان يخطب على المنبر، فجاءه من أخبره الخبر سرًّا.

وتقول الروايات: إن الفارق رضي الله  عنه لم يُؤنِّب أحدًا من الناس على ما حدث سواء الهروب أو الهزيمة.

لأن الأمر واضح كان أقوى وأعتى من قدرات المسلمين، وهذا هو قدر الله، وقدر الله كائن مهما كان.

وانشغل الفرس في تلك المرحلة بأمر ملكهم؛ لأن البعض أراد أن يولي أحدهم، والبعض أراد شخصًا آخر، وهكذا كانت هناك بعض الخلافات بين الفرس، هذه الخلافات كان سببًا في أن يصرفوا أنظارهم عن المسلمين في تلك المرحلة.

وقعة البويب:

وهذه الوقعة اقتصَّ فيها المسلمون من الفرس نظير ما حدث للمسلمين في موقعة الجسر، لما سمع الفرس بكثرة الجيوش والإمداد التي أتت للمثنى- أعد الفرس العُدة وجمعوا قوات عظيمة، وتوافَوا في مكان لهم يُسمى البويب قريب من الكوفة، وكان بينهم وبين المسلمين نهر الفرات، فراسلوا المسلمين، وقالوا لهم: إما أن تعبروا إلينا، وإما أن نعبر إليكم؛ فقال المسلمون: بل اعبروا إلينا؛ فعبرت الفرس إليهم، وتوافقوا. كان ذلك في شهر رمضان.

وهنا وضع المثنى خطة تقوم على مجموعة أفكار:

  • ‌أ.   أفطرت القوات المسلمة المحاربة، حيث عزَم المثنى عليهم بذلك، وهذه رخصة؛ ليكون هذا الأمر أقوى لهم، وأشد لهم ولعزيمتهم على حرب الفرس، وعبّأ الجيش، وجعل يمر على كل راية من رايات الأمراء، ويعظهم ويحثهم على الجهاد والصبر والصمود.
  • ‌ب.   المثنى أخبرهم أنه سيكبر ثلاث تكبيرات؛ فإذا كبر الرابعة فاحملوا على الفرس؛ فقابل المسلمون ذلك بالسمع والطاعة، لما كبَّر أول تكبيرة عاجلتهم الفرس وحملت على المسلمين، واقتتلوا قتالًا شديدًا، يعني: لم ينتظر المسلمون حتى تكبَّر التكبيرات الأربعة، فرأى المثنى خللًا في بعض الصفوف في جبهة اليمين؛ فبعث إليهم رجلًا يقول لهم: الأمير يقرأ عليكم السلام ويقول لكم: لا تفضحوا العرب والمسلمين اليوم، فاعتدلوا في القتال وشدوا أنفسهم. فرأى ذلك المثنى، وأعجبه ذلك فضحك من هذا التصرف، وبعث إليهم يقول: يا أيها المسلمون، عاداتكم انصروا الله ينصركم، واستمر المثنى والمسلمون يدعون الله بالظفر والنصر.

وهنا فكر المثنى في أن الحرب لن تنتهي إلا بالقضاء على قائدهم مهران، فحمل المثنى وبعض الأبطال على قائدهم هذا؛ ليحرِّكوه من موقفه، ويستطيعوا القضاء عليه؛ فأزاله عن موضعه، حتى دخل الميمنة، ولكن حمل عليه غلام من بني تغلب نصراني -هكذا تقول الروايات- وقتل مهران وركب فرسه، وترتب على ذلك أن هربت الفرس، وركب المسلمون أكتافهم، وقتلوهم كل قتلة.

وتحرك المثنى فوقف على الجسر ليمنع هروب الفرس؛ وليتمكن منهم المسلمون؛ فركبوا أكتافهم بقية ذلك اليوم، وتلك الليلة؛ فقتل منهم عدد كبير، وغنم المسلمون منهم مالًا جزيلًا وطعامًا كثيرًا، وبعثوا بالبِشارة والأخماس إلى عمر رضي الله  عنه وقُتل من سادات المسلمين أيضًا جمع كثير، وترتب على هذه الموقعة إنه ذلت رقاب الفرس، وتمكن المسلمون والصحابة من الإغارة في بلادهم فيما بين الفرات ودجلة؛ فغنموا شيئًا عظيمًا لا يمكن حصره، وكانت هذه الواقعة بالعراق نظير موقعة اليرموك بالشام.

error: النص محمي !!