Top
Image Alt

الفرق بين الرواية والشهادة

  /  الفرق بين الرواية والشهادة

الفرق بين الرواية والشهادة

. تعريف الرواية والشهادة:

الرواية -كما تعلمون: أن يروي الراوي خبرًا عن رسول الله صلى الله عليه  وسلم. والشهادة: أن يشهد شاهد بشيء عند القاضي أو عند غير القاضي.

ولا بد أن نتصور -أولًا- معنى الرواية، ثم نتصور معنى الشهادة؛ حتى أذكر الفرق بينهما؛ لأن أهل العلم يقولون: الحكم على الشيء فرع عن تصوره.

الرواية: الإخبار عن شيء عام للناس لا ترافع فيه إلى الحكام. وهذا العموم إنما هو للناس جميعًا، ولا نرفع أمر الرواية إلى الحكام.

فيظهر لنا من هذا التعريف: أن الرواية عبارة عن ذكر خبر يتعلق بجميع الناس، ولا يختص بشخص معين دون شخص، ولا ترافع فيه إلى الحكام، كقول القائل مثلًا: قال رسول الله صلى الله عليه  وسلم: ((إنما الأعمال بالنيات)) فإن معنى هذا الحديث الشريف، ومعنى هذا الخبر النبوي يتعلق بكل أحد، ولك أن تقول: إن السنة القولية تمثل الرواية، فالرواية إخبار عن شيء عام.

الشهادة: الإخبار عن شيء خاص ببعض الناس، ويمكن الترافع فيها إلى الحكام، بمعنى: أن يشهد الشاهد عند الحاكم، أو يرفع المدعي دعوة عند الحاكم يطلب فيها شهادة فلان، أو فلان، أو فلان، أو فلان.

2. بيان أوجه الاتفاق والاختلاف بين الرواية والشهادة:

أ. أوجه الاتفاق:

  • أن كلًّا منهما إخبار: فالرواية إخبار عن شيء عام، والشهادة إخبار عن شيء خاص. وهذا الوجه لم يذكر في التعريف، لكنه معروف سلفًا.
  • يشترط في كل منهما: الإسلام، والعقل، والبلوغ، والعدالة، وضبط الخبر، والمشهود به عند التحمل وعند الأداء.

والشرط طبعًا في الراوي أو في الشاهد وليس في ذات الشهادة ولا في ذات الرواية، وإنما في من يروي وفي من يشهد، أو في من يخبر بالحديث وفي من يخبر بالشهادة.

ب. أوجه الاختلاف:

ذكر أهل العلم أوجهًا كثيرة للفرق بين الرواية والشهادة، وهي على النحو التالي:

الفرق الأول: إن الرواية لا يشترط فيها العدد، بل من الممكن أن يروي الخبر واحد فقط، أو يرويه أكثر من واحد، أما الشهادة فيشترط فيها العدد إلا في أمور يسيرة جدًّا قد يكتفى فيها بشاهد واحد، كأن يشهد شاهد واحد برؤية هلال رمضان، وماعدا ذلك من الأمور المشهود عليها قال أهل العلم: يشترط فيها العدد.

الحكمة في أن الرواية لا يشترط فيها العدد بخلاف الشهادة:

الأولى: أنَّ الأصل في المسلمين الخوف من الكذب على رسول الله صلى الله عليه  وسلم هذا هو الغالب، والقاعدة المستمرة، والأصل، والقاعدة الكلية: أن المسلمين يهابون ويتخوفون من الكذب على رسول الله صلى الله عليه  وسلم لعلمهم أن النبي صلى الله عليه  وسلم حذر من الكذب عليه في قوله صلى الله عليه  وسلم: ((من كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار)) إذن لما كان الغالب من المسلمين مهابة الكذب على رسول الله صلى الله عليه  وسلم اكتفينا برواية الواحد، فالأصل في هذا الواحد الذي ينقل لنا خبر الرسول أن يكون صادقًا، وأن يكون بعيدًا عن الكذب على رسول الله صلى الله عليه  وسلم بخلاف الشهادة، فإن شهادة الزور قد توجد بين الناس، بخلاف الرواية عن النبي صلى الله عليه  وسلم لأن الرواية عن النبي نقل لدين النبي صلى الله عليه  وسلم أما شهادة الزور فقد يكذب الإنسان، وقد يشهد زورًا؛ لهذا قال أهل العلم: يشترط في الشهادة العدد بخلاف الرواية، هذه حكمة في هذا الفرق بين الرواية والشهادة.

الثانية: أن بين كثير من المسلمين عداوات تحملهم على شهادة الزور، وهذا أمر مشاهد، وأمر ملموس، فإن ترك الإنسان نفسه وقع في شهادة الزور، بخلاف الرواية عن النبي صلى الله عليه  وسلم فما وجدنا مسلمًا بينه وبين رسول الله صلى الله عليه  وسلم عداوة أبدًا، بل الأصل المحبة بين المسلمين وبين رسولهم صلى الله عليه  وسلم.

الثالثة: أن الحديث قد ينفرد به راو واحد -كما قلت لكم- يعني: قد يسمع الحديث من الرسول صلى الله عليه  وسلم راوٍ واحد فقط، فلو لم يقبل -لو قلنا: لا بد من وجود عدد- فهذا يؤدي إلى أننا لا نقبل رواية الراوي الواحد الذي سمع من رسول الله صلى الله عليه  وسلم مباشرة، ولو لم نقبل رواية الراوي الواحد ما هي النتيجة؟ النتيجة غير محمودة: تعطلت الأحكام، هب أن حكمًا شرعيًّا لم يسمع به إلا راو واحد، ونحن نقول: لا نقبل رواية الراوي الواحد، هذا -لا شك- يؤدي إلى تعطل الأحكام، وذلك لندرة الأدلة القطعية في الشريعة الإسلامية.

تنبيه:

ندرة الأدلة القطعية ليس قدحًا في الشريعة أبدًا، بل هو ميزة من مميزات الشريعة الإسلامية؛ فإن الله تبارك وتعالى أراد أن يترك فسحة في النصوص يفهمهما المجتهدون والعلماء من باب التوسعة على المكلفين، وهنا يتأتى خبر: “اختلاف أمتي رحمة” يعني: في النصوص التي تقبل الاجتهاد، فكون الأدلة الظنية كثيرة هذا يعطي فسحة وسعة على المكلفين.

وذلك بخلاف الشهادة؛ فإن في عدم قبولها فوت حق واحد على شخص واحد، هب أن شاهدًا واحدًا شهد أمام القاضي أو أمام الحاكم أو أمام ولي الأمر، ورد الحاكم أو القاضي شهادة هذا الشاهد، ما هو الأثر المترتب على رد هذه الشهادة؟ فوات مصلحة لشخص واحد -وهو المشهود له، بخلاف لو رددنا الخبر الذي رواه راو واحد عن رسول الله، فإن ذلك يؤدي إلى تعطل الأحكام، والأحكام -لا شك- تعم جميع المكلفين، وجميع المسلمين إلى قيام الساعة؛ من هنا قال أهل العلم: إنَّ الرواية لا يشترط فيها العدد بخلاف الشهادة.

الفرق الثاني: أن الرواية لا تشترط فيها الذكورية مطلقًا، بمعنى: ليس بلازم أن يكون راوي الخبر عن رسول الله ذكرًا، بل من الجائز أن يروي الخبر عن رسول الله أنثى، وهذا واقع ومشاهد، وهذه أحاديث سيدتنا عائشة رضي الله  عنه.

قال العلماء: بخلاف الشهادة في بعض المواضع. يعني: هناك مواضع لا تقبل في شهادة المرأة.

فرواية المرأة مقبولة كرواية الرجل تمامًا بتمام لا فرق في ذلك، أما شهادة المرأة فقد تقبل في بعض المواطن، خاصة في الأمور التي تتعلق بالنساء، والأمور التي لا يقف على حقيقتها إلا النساء، كالشهادة بالرضاعة، والولاء، والولادة، والنسب، ونحو ذلك، لكن هناك بعض المواضع في الفقه الإسلامي لا تقبل فيها شهادة المرأة، ليس هذا قدحًا في حق المرأة أبدًا، فمن المواقع التي لا تقبل فيها شهادة المرأة، مثل شهادة المرأة في قضايا الحدود والجنايات ونحو ذلك.

الفرق الثالث: أن الرواية لا يُشترط فيها الحرية بخلاف الشهادة، فيصح للعبد أن يروي خبرًا عن رسول الله صلى الله عليه  وسلم، وكم من عبيد رووا أخبارًا عن رسول الله صلى الله عليه  وسلم! لأنه ليس بلازم في الراوي أن يكون حرًّا، بل ربما كان عبدًا وهو أورع وأتقى وأقرب لله من حرٍّ، فالمعول عليه هو شروط الرواية، سواءٌ تحققت في حر أو في عبد؛ بخلاف الشهادة، لأن أداء الشهادة فيه معنى الولاية؛ لأن الذي يشهد كأنه ولي على هذه الشهادة، يشهد عند القاضي بكذا، فله نوع ولاية حال أداء الشهادة، والعبد مسلوب من هذه الولاية، وربما تحت ضغط شهد لسيده شهادة زور، أو شهادة غير حق، أو نحو ذلك؛ إذن لا يُشترط في الرواية الحرية بخلاف الشهادة؛ لأن أداء الشهادة فيه معنى الولاية، والعبد مسلوب من الولاية، فالرقيق لا تقبل شهادتهم، سواء كان مبعضًا أو مكاتبًا، خلافًا للإمام أحمد -رحمه الله.

الفرق الرابع: أنه لا تقبل شهادة من جرَّت شهادته إلى نفسه نفعًا، هب أن إنسانًا بشهادته يحقق لنفسه مصلحة، أو يدفع عن نفسه مضرة، هذا تقبل شهادته؟ قال أهل العلم: لا تقبل؛ لأن تحقيق المنفعة لنفسه ودفع الضرر عنها قد يجره إلى أن يشهد زورًا، فسدًّا للذريعة قال العلماء: لا تقبل شهادته، هذا بخلاف الرواية: فقد تجر للإنسان نفعًا وقد تدفع عنه ضررًا، ومع ذلك تُقبل؛ نظرًا لأن الرواية حكمها عام لا تختص بشخص دون شخص.

الفرق الخامس: أنَّ الشهادة إنَّما تصح بدعوى سابقة، يعني: لا بد أن أرفع أمري إلى القضاء، وأطلب شهادة الشهود، بخلاف الرواية: فإن الراوي، أو من سمع الخبر من رسول الله صلى الله عليه  وسلم أو من غيره له أن يتبرع برواية هذا الخبر فيقول: قال رسول الله صلى الله عليه  وسلم كذا، بخلاف الشاهد، لا يأتي الشاهد ويقول: أشهد بكذا، أو أشهد أن لفلان على فلان كذا، أو نحو ذلك.

الفرق السادس: أن الرواية يجوز أخذ الأجرة عليها، بخلاف الشهادة، يعني: من حق الراوي أن يقول: سأروي لكم خبرًا عن رسول الله صلى الله عليه  وسلم على أن تعطوني على ذلك أجرًا؛ إذن الرواية يجوز أخذ الأجرة عليها بخلاف الشهادة؛ لأن أخذ الأجرة على الشهادة هذه تهمة وشبهة، فدفعًا لهذه التهمة وتلك الشبهة قلنا: الشهادة لا يجوز أخذ الأجرة عليها بخلاف الرواية، قالوا: إلا إذا احتاج الشاهد إلى مركوب، يعني: وسيلة مواصلات يصل بها عند القاضي ليشهد بالشهادة، فحينئذ له أن يأخذ أجرة المواصلة فقط.

الفرق السابع: أن الراوي إذا روى شيئًا -تأملوا هذا- ثم رجع عنه سقط ولا يعمل به، يعني: لو أتى الراوي وقال: قال رسول الله صلى الله عليه  وسلم كذا، وبعد فترة رجع عن هذه الرواية وقال: أنا غير متأكد من هذه الرواية التي رويتها لكم، هل يعمل بالرواية بعد رجوعه فيها؟ قال أهل العلم: لا يُعمل بها، وتسقط حينئذ الرواية.

بخلاف الشاهد إذا رجع عن شهادته بعد الحكم لم ينقض الحكم، هب أن الشاهد وصل عند القاضي وقال: أشهد أن لفلان على فلان كذا، وبعد فترة رجع في الشهادة، قال: ليس لفلان عند فلان كذا، هل رجوعه في الشهادة ينقض الحكم الأول؟ قال أهل العلم: لا ينقض الحكم الأول؛ لتأكد الأمر، ولجواز صدق الشاهد في الشهادة وكذبه في الرجوع وعكسه؛ ومن ثم قال أهل العلم: فلا ينقض الحكم بأمر مختلف فيه.

الفرق الثامن: أن الرواية لا يُشترط فيها البصر، يعني: يجوز أن يروي الخبر عن رسول الله صلى الله عليه  وسلم شخص غير مبصر كفيف لا يرى، فقد ثبتت رواية الحديث ممن ابتلي بذهاب البصر من الصحابة، وقد مرت الإشارة إلى هذا الأمر قبل ذلك، وممن ابتلي بذهاب البصر من الصحابة رضي الله  عنهم وقبلنا خبرهم: عبد الله ابن أم مكتوم، هذا الصحابي الجليل الذي نزل فيه: {عَبَسَ وَتَوَلّىَ (1) أَن جَآءَهُ الأعْمَىَ} [عبس: 1- 2] فكان غير مبصر، ومع ذلك حديثه وروايته مقبولة، فلا يشترط في الرواية البصر.

أما الشهادة فيُشترط فيها البصر عند الإمام أبي حنيفة -رحمه الله- الإمام أبو حنيفة يقول: شرط فيمن يشهد أن يكون مبصرًا؛ وعليه فشهادة الأعمى عند أبي حنيفة مرفوضة وغير مقبولة، لماذا؟ قال: لأن الشاهد يحتاج إلى التمييز بين المشهود له والمشهود عليه عند الأداء.

الشافعية قالوا: شهادة الأعمى لا تقبل أيضًا إلا في مواضع، وعدوا منها هذه المواضع: النسب، وله أن يشهد بالملك المطلق، وتقبل شهادة الأعمى كذلك في الترجمة.

أما المالكية والحنابلة فقالوا: تقبل شهادته فيما طريقه السماع، بشرط أن يكون عارفًا بالصوت، وكان هذا الأعمى له حاسة تمييز الأصوات؛ بحيث إذا سمع فلانًا قال: هذا صوت فلان، وهذا صوت فلان، وهذا صوت فلان؛ وعليه فتجوز شهادة الأعمى عند المالكية والحنابلة في النكاح، وفي الطلاق، وفي البيع، وفي الإيجارة، وفي النسب، وفي الوقف، وفي الإقرار، وفي نحو ذلك من الأشياء التي فيها صيغة، والصيغة لا شك تقال بصوت، وهذا الأعمى له قدرة وتمييز على هذه الأصوات.

الفرق التاسع: أن الرواية لا يقدح فيها العداوة والقرابة، يعني: لو أن شخصًا روى حديثًا، هذا الحديث قد يفيد قريبًا له، أو قد يضر قريبًا له، فهل هذا يقدح في الرواية ونقول: لا تقبل روايته؟

قال أهل العلم: الرواية لا يقدح فيها العداوة والقرابة؛ لأن حكمهما عام لا يختص بشخص دون شخص، بخلاف الشهادة، فالشهادة يقدح فيها العداوة والقرابة، فليس للإنسان أن يشهد لقريبه؛ ولذلك نص أهل العلم على أنه ليس للابن أن يشهد على أبيه، ولا الأب على ابنه، ولا الزوج على زوجته، ولا الزوجة على زوجها، ونحو ذلك؛ لأن في ذلك إما قرابة وإما عداوة، فالعداوة والقرابة في الشهادة مرفوضة، أما في الرواية فغير مرفوضة.

error: النص محمي !!