الفرق بين النسخ وبين ما يشبهه، وشروط النسخ
التعريفات الثلاثة التي أوردها ابن قدامة -رحمه الله- في روضته:
التعريف الأول:
هو قوله -رحمه الله-: النسخ هو: رفع الحكم الثابت بخطاب متقدم بخطاب متراخ عنه. وهذا التعريف اختاره ابن قدامة -رحمه الله-.
“رفع الحكم الثابت بخطاب متقدم بخطاب متراخ عنه”، فلا بد من وجود خطاب ثابت بخطاب شرعي متقدم، فجاء خطاب آخر من الشارع فجأة، وهو متأخر عن الأول، فرفع ذلك الحكم.
هذا حاصل تعريف ابن قدامة الأول من التعريفات الثلاثة “رفع الحكم الثابت بخطاب متقدم بخطاب متراخ عنه”.
فلا بد من وجود خطاب ثابت بخطاب شرعي متقدم، فجاء خطاب آخر من الشارع وهو متأخر عن الخطاب الأول فرفع ذلك الحكم.
وبالمثال يتضح المقال: الله سبحانه وتعالى قد حكم بأن عدة المتوفى عنها زوجها حول كامل، وذلك ثابت بخطاب شرعي، وهو قول الله تعالى: {مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة: 240] وبعد ذلك بزمن رفع هذا الحكم بخطاب متأخر عنه، وهو قوله تعالى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] فالخطاب المتأخر ينسخ الخطاب المتقدم. وعلى ذلك فالنسخ عند ابن قدامة قطع لدوام الحكم فجأة، لا بيان انتهاء مدته.
والفرق بينهما كالفرق بين فسخ الإجارة وانقضاء مدتها، فلو استأجر شخص منزلًا مثلًا سنة كاملة، فإن المستأجر والمؤجر يعلمان عند ابتداء العقد أنه عند انتهاء السنة سيرتفع حكم الإيجار، لكن لو انهدم المنزل فجأة في أثناء السنة، فإن للمستأجر الفسخ مع عدم علمه عند ابتداء العقد بانهدام المنزل، وهذا هو فسخ الإجارة، فيقاس على ذلك نسخ الحكم. هذا هو التعريف الأول لابن قدامة وبيانه.
التعريف الثاني:
أما التعريف الثاني الذي أورده ابن قدامة في روضته فقد عبر عنه بقوله: “وقال قوم: “النسخ كشف مدة العبادة بخطاب ثان”.
وهذا التعريف الذي أورده ابن قدامة نسبه الغزالي في (المستصفى)، وابن الحاجب في (مختصره) إلى الفقهاء فهو تعريف الفقهاء للنسخ: كشف مدة العبادة بخطاب ثان.
وسبب اختيارهم لهذا وعدولهم عن التعريف الأول هو أن الحكم على كلام الفقهاء راجع إلى كلام الله تعالى، وكلام الله قديم، والقديم لا يرفع ولا يزال.
وأجيب عن ذلك بأن المرفوع تعلق الحكم النسبي لا ذاته، يعني المرفوع في الحكم هو تعلقه، وليس ذات الحكم.
التعريف الثالث:
وهو تعريف المعتزلة، قال ابن قدامة -رحمه الله-: وحَدَّ المعتزلة النسخ بأنه: “الخطاب الدال على أن مثل الحكم الثابت بالنص المتقدم زائل على وجه لولاه لكان ثابتًا”. وهذا التعريف أورده أبو حامد الغزالي في (المستصفى) أيضًا.
وقولهم في التعريف: “الخطاب الدال” كالجنس يشمل النسخ وغير النسخ، وعبروا بالخطاب دون النص يعني قالوا: النسخ هو الخطاب ولم يقولوا: هو النص الدال حتى يشمل اللفظ يعني يشمل النسخ اللفظ والفحوى والمفهوم؛ إذ يجوز النسخ بمثل ذلك.
وقول المعتزلة: “على وجه لولاه لكان ثابتًا” أتوا به في التعريف للاحتراز عن الخطاب الدال على زوال الحكم المتقدم الذي له وقت محدَّد.
وقد بينا ذلك والحمد لله عند شرحنا لتعريف أبي إسحاق الإسفرائيني والتعريف الآخر للنسخ.
فقولهم: “على وجه لولاه لكان ثابتًا” أتوا به للاحتراز عن الخطاب الدال على زوال الحكم المتقدم الذي له وقت محدد.
مثال ذلك: قول الله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] فإن هذا لا يكون نسخًا. لو قلت مثلًا: لا تصوموا بعد الغروب بعد أن قال الله تعالى: { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] فإن هذا لا يكون نسخًا؛ لأنه وإن كان دالا على زوال الحكم الثابت بخطاب متقدم، لكن لا يكون على وجه لولاه لكان ثابتًا.
وقد أورد ابن قدامة -رحمه الله- على تعريف المعتزلة اعتراضات كثيرة، وناقش تعريفهم هذا، وانتصر في النهاية لتعريفه الأول الذي اختاره، وهو أن النسخ: “رفع الحكم الثابت بخطاب متقدم بخطاب متراخ عنه”.
تعريف الناسخ:
أما تعريف الناسخ فيطلق لفظ الناسخ على الله تعالى فيقال: نسخ فهو ناسخ. ومن ذلك قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106] وقوله تعالى: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} [الحج: 52] وهذا هو الإطلاق الأول، فلفظ الناسخ يطلق على الله تعالى.
وقد يطلق على الآية أنها ناسخة؛ فيقال مثلًا: آية كذا نسخت كذا، فهي ناسخة، فهذا إطلاق ثانٍ للناسخ.
وقد يطلق على كل طريق يعرف به نسخ الحكم من خبر الرسول صلى الله عليه وسلم وفعله وتقريره. وهذا إطلاق ثالث.
وقد يطلق على الحكم فيقال: وجوب صوم رمضان نسخ وجوب صوم عاشوراء فهو ناسخ.
وقد يطلق على المعتقد لنسخ الحكم فيقال: فلان ينسخ القرآن بالسنة أي يعتقد ذلك فهو ناسخ.
ذكر هذه الإطلاقات الآمدي في كتابه (الإحكام في أصول الأحكام).
فلفظ الناسخ يطلق على الله تعالى، ويطلق على الآية، ويطلق على كل طريق يعرف به نسخ الحكم، ويطلق على الحكم، ويطلق على المعتقد لنسخ الحكم.
هذا، وقد اتفق العلماء على أن إطلاق اسم الناسخ على الحكم، وعلى المعتقد للنسخ مجاز، وإنما الخلاف في أنه حقيقة في الله تعالى أو في الطريق المعرف لارتفاع الحكم.
فعند المعتزلة: الناسخ في الحقيقة هو الطريق، حتى إنهم قالوا في حده أي: حد الطريق الناسخ: “قول صادر عن الله تعالى أو عن رسوله أو فعل منقول عن رسوله يفيد إزالة مثل الحكم الثابت بنصٍّ صادر عن الله تعالى أو فعل منقول عن رسوله صلى الله عليه وسلم مع تراخيه عنه على وجه لولاه لكان ثابتًا”.
وأما عند غيرهم فالناسخ في الحقيقة إنما هو الله تعالى أو خطابه الدال على ارتفاع الحكم، وإنما سمي ناسخًا مجازًا. قال الآمدي -رحمه الله-: وحاصل النزاع في ذلك آيل إلى اللفظ.
تعريف المنسوخ:
المنسوخ هو: “الحكم السابق المرتفع”. وله أمثلة كثيرة نذكر بعضها:
المثال الأول: ارتفاع وجوب صوم عاشوراء بوجوب صوم رمضان، فصوم عاشوراء منسوخ، وصوم رمضان ناسخ.
والدليل على ذلك ما رواه عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((كان يوم عاشوراء يصومه قريش في الجاهلية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه في الجاهلية، فلما قدم المدينة صامه، وأمر بصيامه، فلما فرض رمضان ترك يوم عاشوراء، فمن شاء صامه، ومن شاء تركه)).
فصوم عاشوراء منسوخ، وصوم رمضان ناسخ فالمنسوخ هو: “الحكم السابق المرتفع”.
المثال الثاني: ارتفاع حكم الوصية للوالدين والأقربين الثابت في قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 180]
هذا نسخ بآية المواريث على رأي بعض الفقهاء، أو بحديث: ((لا وصية لوارث)) على رأي آخر.
المثال الثالث: ارتفاع حكم التربص حولًا كاملًا عن المتوفى عنها زوجها، وقد أشرنا إليه قريبًا، وذلك ثابت في قوله تعالى: { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة: 240] فهذا منسوخ بالتربص أربعة أشهر وعشرا، الثابت في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا }[البقرة: 234].
المثال الرابع: ارتفاع وجوب تقديم الصدقة بين يدي مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم الثابت في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} [المجادلة: 12] فهذا منسوخ بقوله تعالى: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المجادلة: 13].
الفرق بين النسخ وبين غيره من المتشابهات:
النسخ بمعناه السابق قد يتشابه مع غيره من أساليب البيان؛ لذا حفلت كتب المتقدمين ببيان الفروق بين النسخ وبين غيره من أساليب البيان، ومن أهم الموضوعات التي حفلت بها كتب المتقدمين بيان الفرق بين النسخ والتخصيص، ثم بيان الفرق بين النسخ وبين البداء:
أولًا: الفرق بين النسخ والتخصيص:
قبل بيان الفرق بين النسخ والتخصيص لا بد أن نقدم بمقدمة، وهي: أن السلف يطلقون اسم النسخ على ما يطلقه عليه الأصوليون وعلى التخصيص والتقييد، فالجميع يسمونه نسخًا كما نبه عليه غير واحد من أهل العلم.
قال العلامة ابن القيم -رحمه الله- في أوائل كتابه (إعلام الموقعين): مراد عامة السلف بالناسخ والمنسوخ رفع الحكم بجملته تارة، وهو اصطلاح المتأخرين، ورفع دلالة العام والمطلق والظاهر وغيرها تارة، إما بتخصيص أو بتقييد أو حمل مطلق على مقيد، وتفسيره وتبيينه، حتى إنهم ليسمون الاستثناء والشرط والصفة نسخًا؛ لتضمن ذلك رفع دلالة الظاهر وبيان المراد.
فالنسخ عندهم وفي لسانهم هو بيان المراد بغير ذلك اللفظ، بل بأمر خارج عنه، ومن تأمل كلام السلف رأى من ذلك فيه ما لا يحصى، وزال عنه به إشكالات أوجبها حمل كلامهم على الاصطلاح الحادث المتأخر؛ فالسلف لم يفرقوا بين النسخ والتخصيص، ويجعلون النسخ أعم من التخصيص.
أما الأصوليون فلا يطلقون النسخ على التخصيص، ولا التخصيص على النسخ، فتعريف النسخ عند الأصوليين هو ما تقدم.
تعريف التخصيص:
وتعريف التخصيص في اصطلاحهم متعدد، فعرفه ابن السبكي في (جمع الجوامع) بأنه: “قصر العام على بعض أفراده”.
وعرفه أبو الحسين البصري بأنه: “إخراج بعض ما يتناوله الخطاب”.
وعرفه ابن الحاجب بأنه: “قصر العام على بعض مسمياته”.
والذي ينظر في هذه التعريفات يجد أنها قريبة من بعضها، وليس بينها فرق كبير.
ومن أمثلة التخصيص: قول الله تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق: 4] مع قوله جل شأنه: { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234].
والناظر في الآية الثانية يفهم بحسب الظاهر أن عدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشر مطلقًا؛ أي سواء أكانت المتوفى عنها زوجها حاملًا أو غير حامل، بينما تنص الآية الأولى على أن عدة الحامل وضع الحمل.
ومن ثم قال العلماء: إن الآية الأولى مخصصة للآية الثانية، وعليه فالمتوفى عنها زوجها تعتد أربعة أشهر وعشرًا، ما لم تكن حاملًا، وإلا فعدتها بوضع الحمل.
والحق أن المتأمل في تعريف كل من النسخ والتخصيص يدرك أن التخصيص يشارك النسخ في بعض الخصائص، ويخالفه في البعض الآخر؛ فالتخصيص يشارك النسخ من حيث إن كلا منهما فيه قصر للحكم على بعض مشتملاته، هذا وجه الشبه أو المشاركة بين النسخ والتخصيص؛ فكل منهما فيه قصر للحكم على بعض مشتملاته، إلا أن التخصيص: قصر الحكم على بعض أفراده. والنسخ: قصر له على بعض الأزمان. وهذا فرق دقيق، فانتبهوا له.
الفروق بين النسخ والتخصيص:
- النسخ يدل على أن المنسوخ كان مرادًا ابتداء، بخلاف التخصيص فإنه يدل على أن ما خرج عن العموم لم يكن مرادًا بالحكم ابتداء، وإن دل عليه اللفظ وضعًا.
- النسخ قد يرد على الأمر بمأمور واحد؛ يعني الشارع يأمر بشيء واحد ثم يرد عليه النسخ فيزيله، بخلاف التخصيص فلا يرد على الأمر بمأمور واحد، بل لا بد أن يكون المأمور به متعددًا.
وفي هذا يقول الشيخ الشنقيطي -رحمه الله-: النسخ يدل على الشيء الواحد كنسخ استقبال بيت المقدس ببيت الله الحرام؛ فالمنسوخ شيء واحد، بخلاف التخصيص فلا يدخل إلا في عام له أفراد متعددة، ويخرج بعضها بالمخصص، ويبقى بعضها الآخر. انتهى كلامه -رحمه الله-.
- أن النسخ لا يكون إلا بخطاب من الشارع أي: بدليل من الكتاب والسنة، بخلاف التخصيص فإنه يكون بالأدلة العقلية والنقلية.
- الناسخ لا بد وأن يكون متراخيًا عن المنسوخ كما بينا، بخلاف المخصص فإنه يكون مقارنًا للمخصص، أو متراخيًا عنه.
هذا، وذهب بعض الأصوليين إلى أن القول بأن التخصيص لا يكون إلا بمقارن، فلو تأخر عن وقت العمل بالعام كان هذا المخصص ناسخًا للعام بالنسبة لما تعارضا فيه، كما إذا قال الشارع مثلًا: اقتلوا المشركين. وبعد وقت العمل به قال: لا تقتلوا أهل الذمة.
ووجهة نظرهم في ذلك: أن المقصود بالمخصص بيان المراد بالعام، فلو تأخر عن وقت العمل به لزم تأخير البيان عن وقت الحاجة، وذلك لا يجوز، فلم يبق إلا اعتباره ناسخًا.
- النسخ يجعل المنسوخ غير صالح للاحتجاج به، أما التخصيص فلا يخرج العام عن كونه حجة في الباقي بعد التخصيص فالباقي من العام بعد التخصيص حجة، بخلاف النسخ فإنه يجعل المنسوخ غير حجة.
- أنه لا يجوز النسخ بالقياس، أما التخصيص بالقياس فجائز.
- أن النسخ رفع الحكم بعد أن ثبت، بخلاف التخصيص فإنه لا يرفع الحكم بالكلية، بل يرفعه فقط عن بعض أفراد العام.
- يجوز نسخ شريعة بأخرى، ولا يجوز تخصيص شريعة بأخرى.
- النسخ يجوز وروده على العام وإن لم يبقَ تحته شيء، بخلاف التخصيص فلا يجوز إيراده على العام بحيث لا يبقى تحته شيء.
الفرق بين النسخ والبداء:
تعريف البداء:
“البداء” بفتح الباء يطلق في لغة العرب على معنيين:
المعنى الأول: الظهور بعد الخفاء، كما يقول المسافرون: بدا لنا سور المدينة. ويعنون أنه ظهر بعد أن كان خافيًا.
ومن الآيات التي استعمل فيها القرآن البداء بهذا المعنى أي: معنى الظهور بعد الخفاء قول الله تعالى: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزُّمَر: 47]
أي: ظهر لهم من عذابه وانتقامه ما لم يقدروا حدوثه.
ومن ذلك أيضًا قوله جل شأنه: {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا} [الجاثية: 33].
هذا المعنى الأول من المعنيين للبداء في اللغة.
المعنى الثاني: نشأة رأي جديد لم يكن موجودًا. فالبداء معناه نشأة رأي جديد لم يكن موجودًا.
قال في القاموس: وبدا له في الأمر: ظهر له ما لم يظهر أولًا، والاسم البداء أي نشأ له فيه رأي. ومن ذلك قوله تعالى: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآَيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} [يوسف: 35].
وواضح أن البداء بالمعنيين السابقين بمعنى الظهور بعد الخفاء ونشأة الرأي الجديد بعد أن لم يكن موجودًا، فهو يستلزم سبق الجهل وحدوث العلم، وكلاهما محال على الله تعالى.
ويشهد لذلك العقل والنقل:
أما العقل فإنه يقرر نتيجة النظر الثاقب الصحيح في هذا الكون أن الله عز وجل متصف أزلًا وأبدًا بالعلم الواسع المحيط بكل شيء، كما هدانا النظر الصحيح في هذا الكون إلى أن الله سبحانه لا يمكن أن يكون حادثًا ولا محلًّا للحوادث، وإلا لكان ناقصًا. وعليه فلا يكون إلهًا؛ إذ الجاهل عاجز عن أن يخلق هذا الكون بهذا النظام المعجز الدقيق، وقد ثبت أن في هذا الكون عجائب: شمس، وقمر، ونجوم، وكواكب، وليل، ونهار، كلٌّ في فلكه سابح.
قال الله تبارك وتعالى: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40].
فيستحيل إذن عليه سبحانه الجهل والحدوث، وكلاهما يستلزم البداء فالعقل الحكيم يحكم باستحالة ذلك على الله تعالى، تعالى الله علوًّا كبيرًا عما يقولون.
أما الأدلة النقلية فآيات كثيرة وكلها تثبت استحالة البداء على الله تعالى، وتثبت كذلك إحاطته تعالى بكل شيء علمًا، وأنه هو الخالق لا غير، والقديم المتصرف في ملكه كيف يشاء.
من ذلك قول الله تعالى في سورة النساء: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النساء: 176]،
وقوله: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59] وقوله تعالى: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرعد: 8].
وقوله: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد: 22].
إلى غير ذلك من الآيات التي تصف الله تعالى بالعلم المحيط؛ فالله عز وجل منزه عن أن يوصف بالبداء؛ لأن البداء ينافي إحاطة علم الله سبحانه وتعالى بكل شيء، ولكنه غير منزه عن النسخ؛ لأن النسخ لا يعدو أن يكون بيانًا لمدة الحكم الأول أي: المنسوخ على نحو ما سبق في علم الله تعالى، وإن كان دفعًا لهذا الحكم بالنسبة لنا.
وعليه، فلا علاقة بين النسخ والبداء؛ لأن النسخ ليس فيه تغيير لعلم الله تعالى، بخلاف البداء فإنه يفترض هذا التغيير؛ فالنسخ يقوم على تغيير في المعلوم مع ثبات العلم نفسه على ما كان منذ الأزل، والبداء يقوم على تغيير في العلم نفسه.
وعلى الرغم من وجود هذه البراهين الساطعة العقلية والنقلية ضلَّ أقوام سفَّهوا أنفسهم فأغمضوا عيونهم عن النظر في كتاب الكون الناطق، وصموا آذانهم عن سماع كلام الله تعالى، وكلام نبيه الصادق صلى الله عليه وسلم وزعموا أن النسخ ضرب من البداء أو يستلزم البداء، فقالوا: لولا مصلحة ونشوء رأي جديد ما نسخ من أحكامه، وبدل من تعاليمه، ونسوا أو تناسوا أن الله تعالى حين نسخ بعض أحكامه ببعض ما ظهر له أمر كان خفيًّا عليه، وما نشأ له رأي جديد كان يفقده من قبل، وإنما كان سبحانه وتعالى يعلم الناسخ والمنسوخ أزلًا من قبل أن يشرعهما لعباده، بل من قبل أن يخلق الخلق، ويبرأ السماء والأرض، إلا أنه -جلت حكمته- علم أن الحكم الأول الذي نسخ منوط بحكمة أو مصلحة تنتهي في وقت معلوم، وعلم بجانب هذا أن الناسخ يجيء في هذا الميقات المعلوم منوط بحكمة أو مصلحة أخرى.
ولا ريب أن الحكم والمصالح تختلف باختلاف الناس وبتجدد ظروفهم وأحوالهم، وأن الأحكام وحكمها، والعباد ومصالحهم، والناسخ والمنسوخ، كانت كلها معلومة لله تعالى من قبل ظاهرة لديه ولم يخفَ شيء منها عليه، والجديد في النسخ إنما هو إظهاره تعالى ما علم لعباده لا ظهور ذلك له على حد التعبير المعروف شئون يبديها ولا يبتديها والله تعالى ما كان ينسى أبدًا قال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64].
ومن هنا لما خفي الفرق بين النسخ والبداء على بعض فرق اليهود والرافضة، أنكرت اليهود النسخ، وأسرفوا في الإنكار لاستلزامه في زعمهم البداء وهو محال.
والحق أن هذا الفهم من قبل اليهود فهمٌ سقيم؛ لما ذكرناه من أنه لا تلازم بين النسخ والبداء لوضوح الفرق بينهما.
أما الرافضة، فأثبتوا النسخ ثم أسرفوا في إثبات البداء اللازم له في زعمهم، ونسبوه إلى الله تعالى في صراحة ووقاحة -تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا- وقد تمسكوا في ذلك بأمرين:
الأمر الأول: قوله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39] وهذا يدل على أن الله تعالى أثبت ثم بدا فمحا.
الأمر الثاني: ما نقلوه عن أهل البيت، فقد نقلوا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: لولا البداء لحدثتكم بكل ما هو كائن إلى يوم القيامة.
ونقلوا كذلك عن جعفر الصادق رضي الله عنه أنه قال: ما بدا على الله في شيء كما بدا له في إسماعيل عليه السلام، فإنه أمر بذبحه ثم بدا له.
ونقلوا عن موسى بن جعفر أنه قال: البداء ديننا ودين آبائنا في الجاهلية.
الجواب عن الأمر الأول:
يجاب عن الأمر الأول بأن هذه الآية لا حجة فيها على إثبات البداء؛ وذلك لأن المراد من الآية هو محو المنسوخ وإثبات الناسخ، ومحو السيئات بالحسنات، كما قال تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] ومحو الحسنات بالردة على ما قال تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ} [البقرة: 217] ومحو المباحات وإثبات الطاعات على ما قاله أهل التفسير، أو محو ما يشاء من الآجال أو الأرزاق وإثبات غيرها.
ويجب الحمل على ذلك جمعًا بينه وبين الأدلة القاطعة الدالة على امتناع الجهل في حق الله تعالى.
الجواب عن الأمر الثاني:
وهو ما نقلوا عن أهل البيت وعن علي رضي الله عنه؛ فإن هذا من المفتريات التي انتحلها الكذاب الثقفي على أهل البيت؛ لأنه كان يدعي العصمة لنفسه وعلم الغيب؛ فإذا ما افتضح أمره وظهر كذبه قال: إن الله وعدني بذلك، غير أنه بدا له، وأسند ذلك إلى أهل البيت مبالغة في ترويج أكاذيبه.
فإن قالوا: إذا كان النسخ جائزًا كان البداء جائزًا؛ لأن النسخ والبداء بمعنى واحد.
قلنا: هذا الجواب باطل؛ لأن النسخ يخالف البداء في حقيقته؛ لأن النسخ رفع الحكم أو رفع مثل الحكم على ما قدمناه من الاختلاف في حده، أما البداء فإنه ظهور ما كان خفيًّا على ما قدمناه أيضًا فالحقيقتان مختلفتان.
وأيضًا، فإن النسخ لا يؤدي إلى إضافة أمر مستحيل إلى الله تعالى، بخلاف البداء فإنه يؤدي إلى إضافة أمر مستحيل إلى الله تعالى وهو الجهل، وذلك في حقه تعالى مستحيل.
وقد عقد العلماء مسائل للتفرقة بين النسخ والبداء منهم: أبو الحسين البصري والآمدي والشيرازي وابن برهان وابن حزم وابن قدامة وغيرهم.
شروط النسخ:
للنسخ شروط، منها ما هو متفق عليه، ومنها ما هو مختلف فيه.
أولًا: الشروط المتفق عليها:
الشروط المتفق عليها كثيرة، أهمها ما يأتي:
الشرط الأول: أن يكون المنسوخ حكمًا شرعيًّا لا عقليًّا أصليًّا، كالبراءة الأصلية التي ارتفعت بإيجاب العبادات، كما وضحنا ذلك والحمد لله.
الشرط الثاني: أن يكون النسخ بخطاب شرعي.
وعلى ذلك، فارتفاع الحكم بموت المكلف لا يكون نسخًا، بل هو سقوط تكليف؛ إذ ليس المزيل خطابًا رافعًا لحكم خطاب سابق، ولكنه قد قيل أولًا الحكم عليك ما دمت حيًّا فوضع الحكم قاصر على الحياة فلا يحتاج إلى رفعه.
الشرط الثالث: ألا يكون الخطاب المنسوخ حكمه مقيدًا بوقت معين، أما لو كان مقيدًا بوقت معين فلا يكون انقضاء وقته الذي قيد به نسخًا له، وذلك كقوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] وقد شرحنا ذلك والحمد لله.
الشرط الرابع: أن يكون الناسخ منفصلًا عن المنسوخ، متأخرًا عنه؛ فإن المقترن بالشرط والصفة والاستثناء لا يسمى نسخًا بل تخصيصًا كما سبق وبينا.
هذه أهم الشروط المتفق عليها للنسخ.
ثانيًا: الشروط المختلف فيها:
وهناك شروط مختلف فيها كثيرة، نذكر منها ما يأتي:
الشرط الأول: أن يكون قد ورد الخطاب الدال على ارتفاع الحكم بعد دخول وقت التمكن من الامتثال.
الشرط الثاني: أن يكون النسخ ببدل مساوٍ للمبدل منه أو بما هو أخف منه كما سيأتي إن شاء الله.
الشرط الثالث: أن يكون الناسخ مثل المنسوخ في القوة أو أقوى منه لا دونه؛ لأن الضعيف لا يزيل الأقوى، وهذا مما قضى به العقل بل دل الإجماع عليه؛ فإن الصحابة } لم ينسخوا نص القرآن بخبر الواحد.
الشرط الرابع: أن يكون الناسخ والمنسوخ نصين قاطعين؛ إذ لا يجوز نسخ خبر الواحد بخبر الواحد وبالمتواتر، أما نسخ المتواتر بخبر الواحد فقد اتفق العلماء على عدم جوازه.
الشرط الخامس: أن يكون نسخ القرآن بالقرآن والسنة بالسنة.
الشرط السادس: أن يكون الخطاب المنسوخ حكمه مما لا يدخله الاستثناء والتخصيص.
الشرط السابع: أن يكون الناسخ مقابلًا للمنسوخ مقابلة الأمر بالنهي والمضيق بالموسع.
تلك أهم الشروط المختلف فيها.
والراجح -والله أعلم- أنه لا اعتبار لهذه الشروط كما قاله الآمدي في كتابه (الإحكام في أصول الأحكام).
حكمة النسخ:
الحكمة من النسخ تتمثل في النقاط التالية:
أولًا: تحقيق مصالح العباد التي هي مقصود الشارع، وحيث كانت هذه المصالح مختلفة باختلاف الناس، ومتغيرة بتغير أحوالهم، ومتبدلة بتبدل الأزمنة، فقد تشرع بعض الأحكام لمصالح اقتضتها أسباب معينة، ثم تزول تلك المصالح فيكون من المناسب أن ينتهي الحكم، ولا يبقى بعد زوال هذه المصالح.
ثانيًا: ابتلاء المكلف واختباره بالامتثال وعدمه.
ثالثًا: تطور التشريع إلى مرتبة الكمال.
رابعًا: إرادة الخير للأمة والتيسير عليها.