القرآن الكريم المصدر الأول للتربية الإسلامية
مقدمة عن مصادر التربية الإسلامية:
إن التربية الإسلامية هي التنظيم النفسي، والاجتماعي الذي يؤدّي اعتناق الإسلام إلى تطبيقه كليًّا في حياة الفرد والجماعة؛ فالتربية الإسلامية ضرورة حتمية لتحقيق الإسلام كما أراده الله أن يتحقق، وهي بهذا المعنى تهيئة النفس الإنسانية لتحمل هذه الأمانة، وهذا يعني بالضرورة أن تكون مصادر الإسلام هي نفسها مصادر التربية الإسلامية، وأهمها: القرآن، والسُّنة.
فالمصدر الأصلي للتربية الإسلامية القرآن الكريم، والسُّنة الشريفة، ولنتحدث عن نزول القرآن الكريم وسوره المكية، والمدنية، وفترة نزوله، كما نتحدث عن السُّنة الشريفة من حيث أقسامها القوليّة، والفعلية، والتقريرية، فهذا معروف لدى طلاب العلم، وله مجاله المعروف في علوم القرآن، والحديث، وما نريده هنا: أن نؤكّد أن هذا المصدر الأصلي للتربية الإسلامية هو أساس التربية إلى يوم القيامة؛ لأنه من الله عز وجل خالق الإنسان، وواضع أصول تربيته، وهو سبحانه وتعالى العليم بخلقه وبما ينفعهم: {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِير} [المُلك: 14].
ومن ثمَّ يجب أن تَسبق التوجيهات التربوية الربانية- لدى المسلمين- كل نظريات التربية، وعلم النفس في الشرق والغرب؛ لأنها من خالق الإنسان الذي يعلم ما ينفعُه وما يضرُّه؛ فالحقيقة في مجال تربية الإنسان وتزكيته لا تتحقق أبدًا في غير ما أوحى الله به لتربية عباده، فلا يتحقق اليقين والصدق والنفع الدائم في غير الكتاب والسُّنة.
أما المصادر الفرعية للتربية الإسلامية، والتي تشمل اجتهادات المسلمين في الحقل التربوي؛ سواء أكانوا فقهاء، أم مؤرِّخين، أم متصوّفة وغيرهم، أمثال: القابسي، وابن سحنون، وابن عبد البر، وابن حزم، والغزالي، وابن تيمية، وابن خلدون، وغيرهم.
وتبدو إسهامات المسلمين في حقل التربية غزيرة، لكنها تجمع الصحيح، والسقيم بالمعايير الإسلامية، بخاصة كتابات البعض في عصور الضعف والتخلف؛ ففيها تكرار فضلًا عن آراء تحمل أوهامًا تسرَّبت من ثقافات غير إسلامية، وقبِلها المسلمون.
وهذا الفكر التربوي الذي قدَّمه المسلمون لا نقبله مطلقًا، ولا نأخذ منه إلا ما يتفق مع القرآن الكريم والسُّنة الشريفة، وما يحقق المنفعة في تربية المسلمين؛ فالانتقاء والتحليل ضروريٌّ لآراء المسلمين، وهذا اتجاه أكّده القرآن الكريم، الذي بين أهمية الدليل والبرهان، وإعمال العقل عندما نتناول الاجتهادات البشرية القابلة للصواب والخطأ؛ إذ لا عِصْمة لغير أنبياء الله وخاتمهم مُعلِّم هذه الأمة صلى الله عليه وسلم. وللأسف قد نرى من المسلمين من يذكُر آراءً تربوية لا تَمُتّ إلى الكتاب والسُّنة بِصلة؛ وإنما تنسب إلى بشرٍ يخطئون ويصيبون، ويُقطع بأنها الصَّواب في مجال التربية الإسلامية؛ لأن اسم صاحبها يُسبق بأحد الألقاب الدينية، أو يُنسب إلى أحد المذاهب، وهذا لونٌ من التعصب يرفضه الإسلام؛ لأن الكتاب والسُّنة هما المعيارُ لكل صواب، وهما المُقَدَّمان على كل اجتهاد.
ولا شك أن الاجتهاد ضروري في حقل التربية الإسلامية؛ لأن النصوص محدودة، والضروريات والمستجدات التربوية غير محدودة تتجدّد أحيانًا بتجدّد الزمان، والمكان.
ومن ثمّ فالمصادر الفرعية توسع دائرة التربية الإسلامية بشرط الالتزام بالضابِطَيْنِ السّابِقَيْنِ، وأعني بهما أن يكون الاجتهاد تحت مظلَّة الكتاب، والسُّنة، وأن يحقِّق نفعًا للمسلمين، وبهذا تكتسب التربية الإسلامية مرونةً أمام المتغيرات، وتُغيِّر وتجدِّد من أساليبها، وطرائقها مع المحافظة والالتزام بأهدافها، ومبادئها الأساسية، النابعة من القرآن الكريم والسُّنة الشريفة.
وبالمحافظة والتجدُّد تبقى التربية الإسلامية السبيل الأوحد لنهضة إسلامية، تُعلي من شأن الدِّين، وتدعو إليه، وتنفع المسلمين في الأُولى والآخرة.
القرآن الكريم:
ونبدأ بالقرآن الكريم وأثره التربوي في نفْس الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة؛ فالقرآن قد ترك أثرًا لا شك فيه في تربية نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته، وقد شهدت بذلك السيدة عائشة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: في وصفه: «كان خلقه القرآن» بل إن شهادة الحق جل جلاله قد سبقت كل شهادة قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} [الفرقان: 32].
فها هنا إشارتان تربويتان:
الأولى: تثبيت الفؤادِ وترسيخ الإيمان.
الثانية: تعليم الترتيل في قراءة القرآن، وفيها نزلت توصيات تربوية صريحة من الحق جل جلاله إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وذلك في قوله تعالى: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِه * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَه * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَه} [القيامة: 16 – 19].
وحياة الرسول صلى الله عليه وسلم في سِلمه وحربه، وفي داره وبين رجاله كلها تشهد بما شهدت به السيدة عائشة، والمسلمون جميعًا من أنه كان خُلُقه القرآن؛ فأدعيته مُستَقاة من القرآن تَارةً باللفظ وتارةً بالمعنى. أما أصحابه فقد أخذوا أنفسهم بتطبيق القرآن مع تعلُّمه، حتى قال قائلهم: كنا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نجاوز السورة من القرآن حتى نحفظها، ونعمل بها، فتعلَّمنا العِلم، والعمل جميعًا، وكان للقرآن وقْعٌ عظيم، وأثرٌ تربويٌّ بالِغٌ في نفوس المسلمين حتى شغلهم عن الشِّعر، – وكانوا من أشدِّ الناس تعلقًا به-، وعن الحكم والكهانة، وأخبار الفروسية، وأخبار العرب في جاهليتهم.
أما أسلوب القرآن التربوي: فقد كان للقرآن أسلوبٌ تربويٌّ رائعٌ، ومزايا فريدة في تربية المرء على الإيمان بوحدانية الله، وباليوم الآخر. إنه يفرض الإقناع العقلي مقترنًا بإثارة العواطف، والانفعالات النفسية، فهو بذلك يُربي العقل والعاطفة جمعيًا، متماشيًا مع فطرة الإنسان في البساطة، وعدم التكلف، وطرق باب العقل مع القلب مباشرة.
يبدأ القرآن من المحسوس المشهود المسَلَّم به كالمطر، والرياح، والنبات، والرعد، والبرق، ثم ينتقل إلى استلزام وجود الله، وعظمته، وقدرته، وسائر صفات الكمال، مع اتخاذ أسلوب الاستفهام أحيانًا، إما للتقريع، وإما للتنبيه، وإما للتحبيب والتذكير بالجميل، أو نحو ذلك، مما يُثير في النفس الانفعالات الربانية، كالخضوع، والشكر، ومحبة الله، والخشوع له، ثم تأتي العبادات والسلوك المِثالي تطبيقًا عمليًّا للأخلاق الربانية.
هذه -لَعَمْري- أفضل طريقة اهتدَى إليها علم النفس لتربية العاطفة؛ إنها تكرار إثارة الانفعالات مع تجارب سلوكية مشحونة بهذه الانفعالات مصحوبة بموضوع معين، حتى يصبح عند المرء استعداد لاستيقاظ هذه الانفعالات، كلما أثير هذا الموضوع، وهل العاطفة إلا ذلك الاستعداد الوجداني الانفعالي؟! فإذا رُبي مع العاطفة سلوك مثالي تتطلبه تلك العاطفة، فقد بلغت التربية ذروتها في توحيد النفس، واستنفاد طاقتها لخير الإنسانية.
ولعل أوضح مثالٍ على هذا الأسلوب التربويّ القرآني يتضح في “سورة الرحمن”؛ حيث يُذكِّرنا الله جل جلاله بنعمه ودلائل قدرته، بادئًا من الإنسان، وقدرته على التعليم، إلى ما سخَّر الله له من الشمس، والقمر، والنجم، والشجر، والفاكهة، والثمر، وما خلق من السماء، والأرض، وعند كل آية أو عدَّة آيات استفهام يضع الإنسان أمام الحسِّ والوجدان، وصوت القلب والضمير، فلا يستطيع أن يُنكر ما يحسّ به ويستجيب له عقله وقلبه، وقد تكرر هذا الاستفهام: {فَبِأَيِّ آلاَء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَان} [الرحمن: 21]. إحدى وثلاثين مرة في هذه السورة، وفي كل مرة يُثير انفعالًا يختلف بحسب الآية التي تسبقه.
هذه نُبذة عن أسلوب القرآن التربوي، وحسْبنا هنا أن نبيِّن أن القرآن قد بدأ نزوله بآياتٍ تربويَّة، فيها إشارة إلى أن أهمّ أهدافه تربية الإنسان بأسلوب حضاري فكري، عن طريق الاطلاع والقراءة، والتعلُّم، والملاحظة العلمية لخَلق الإنسان منذ كان علَقة في رحم الأم، قال تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَق * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَق * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَم * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَم * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَم} [العلق: 1 – 5].
وأن الله تعالى أقسم أحدَ عشرَ قسَمًا؛ ليقرِّر أن النفس الإنسانية قابلة للتربية، والتزكية والتسامي، قال تعالى: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاَهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} [الشمس: 1 – 10].
وفيما يلي نستعرض التربية في القرآن الكريم، قال الله عز وجل: {وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} [الإسراء: 9]. فلم يدعِ القرآن شيئًا من أمور الناس في دنياهم إلا وله فيه ذكر، كما بيَّن الله في هذا القرآن ما يُقيم أمر الإنسان ويضمن له السعادة في الدنيا، والفوز في الآخرة.
ولقد وضع القرآن للإنسان دستور حياته، وهو دستورٌ كاملٌ للإنسانية يشتمل على العقائد، والعبادات، والمعاملات، والآداب الفردية والاجتماعية، بأسلوب واضح، وحجة قوية؛ بحيث يصلح لكل الأجناس، ولكل زمان ومكان؛ فمنهجه من صنع الخبير العليم الذي أحكم كلّ شيءٍ صنعه، وهو منهجٌ تتضَاءَل بجانبه قُوَى العقول البشرية، وتتقاصر دُونه كل الجهود البشرية.
السور التي تختص بأمور التربية في القرآن:
لقد أرْسَى القرآن العظيم في عمومه قواعد الأخلاق الكريمة، لكن هناك سورًا منه اختصَّت بالتربية، وعنيت بالأمر بمكارم الأخلاق، واشتملت على النهي عن القبائح والمنكرات مع الأمر بالمعروف، وتضمَّنت الآداب العامة التي ينبغي لكل مسلم أن يتحلّى بها، نجد ذلك في “سورة النساء”، و”سورة النور”، و”سورة لقمان”، و”سورة الأحزاب”، و”سورة الحجرات”، و”سورة الطلاق”، وفيما يلي بيانٌ موجزٌ لما اشتملت عليه كل سورة من هذه السور في مجال التربية الإسلامية.
1. سورة “النساء”:
سورة النساء إحدى السور المدنية الطويلة، وهي مليئة بالأحكام الشرعية، التي تنظِّم الشئون الداخلية، والخارجية للمسلمين، وهي تُعنى بجانب التشريع كما هو الحال في السور المدنية، وقد تحدَّثت السورة الكريمة عن أمورٍ هامّة تتعلّق بالمرأة، والبيت، والأسرة، والدولة، والمجتمع، ولكن معظم الأحكام التي وردت فيها كانت حول موضوع النساء؛ ولهذا سُمِّيت سورة “النِّساء”.
تحدثت السورة الكريمة عن حقوق النساء والأيتام، وبخاصة اليتيمات في حجور الأولياء والأوصياء، فقرَّرت حقوقهنَّ في الميراث، والكسب، والزواج، واستنقذتهنَّ من عَسَفِ الجاهلية وتقاليدها الظالمة المهينة، وتعرضت لموضوع المرأة فصانت كرامتها، وحفظت كيانها، ودعت إلى إنصافها بإعطائها حقوقها التي فرضها الله تعالى لها كالمهر، والميراث، وإحسان العشرة، كما تعرضت بالتفصيل إلى أحكام المواريث على الوجه الدقيق العادل، الذي يكفل العدالة ويحقق المساواة، وتحدّثت عن المحرَّمات من النساء بالنسب، والرضاع، والمصاهرة. وتناولت السورة الكريمة تنظيم العلاقات الزوجية، وبيَّّنت أنها ليست علاقة جسد وإنما علاقة إنسانية، وأن المهر ليس أجرًا ولا ثمنًا، وإنما هو عطاء يُوثق المحبة، ويُديم العشرة، ويربط القلوب.
ثم تناولت حق الزوج على زوجته، وحق الزوجة على زوجها، وأرشدت إلى الخطوات التي ينبغي أن يسلكها الرجل لإصلاح الحياة الزوجية، عندما يبدأ الشِّقاق والخلاف بين الزوجين، وبيَّنت معنى “قِوامة الرجل”، وأنها ليست قوامة استعباد وتسخير، وإنما هي قوامة نصحٍ وتأديب، كالتي تكون بين الراعي ورعيته.
ثم انتقلت من دائرة الأسرة إلى دائرة المجتمع، فأمرت بالإحسان في كل شيء، وبيَّنت أن أساس الإحسان التكافل، والتراحم، والتناصح، والتسامح، والأمانة، والعدل، حتى يكون المجتمع راسخ البنيان قويّ الأركان.
ومن الإصلاح الداخلي انتقلت الآيات إلى الاستعداد للأمن الخارجي الذي يحفظ على الأمة استقرارها وهدوءها، فأمرت بأخذ العُدَّة لمكافحة الأعداء، ثم وضَعت بعض قواعد المعاملات الدولية بين المسلمين والدول الأخرى المحايدة أو المعادية. واستتبع الأمر بالجهاد حملة ضخمة على المنافقين، فهم نابتة السوء وجُرثومة الشرِّ التي ينبغي الحذر منها، وقد تحدثت السورة الكريمة عن مكايدهم وخطرهم. كما نبَّهت إلى خطر أهل الكتاب، وبخاصة اليهود وموقفهم من رسل الله الكرام.
ثم ختمت السورة الكريمة ببيان ضلالات النصارى في أمر المسيح عيسى بن مريم؛ حيث غالوا فيه حتى عبدوه ثم صلبوه مع اعتقادهم بألوهيته، واخترعوا فكرة التثليث فأصبحوا كالمشركين الوثنيين، وقد دعتهم الآيات إلى الرجوع عن تلك الضلالات إلى العقيدة السَّمحة الصافية “عقيدة التوحيد”، وصدق الله حيث يقول: {وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَـهٌ وَاحِدٌ} [النساء: 171].
2. “سورة النور”:
سورة النور من السور المدنية، التي تتناول الأحكام الشرعية، وتُعنى بأمور التشريع، والتوجيه، والأخلاق، وتهتم بالقضايا العامة والخاصة، التي ينبغي أن يُرَبَّى عليها المسلمون أفردًا وجماعات، وقد اشتملت هذه السورة على أحكام هامة، وتوجيهات عامة تتعلق بالأسرة التي هي النواة الأولى لبناء المجتمع الأكبر.
وَضَّحت السورة الآداب الاجتماعية التي يجب أن يتمسك بها المؤمنون في حياتهم الخاصة، والعامة، كالاستئذان عند دخول البيوت، وغضّ الأبصار، وحفظ الفروج، وحرمة اختلاط الرجال بالنساء الأجنبيات، وما ينبغي أن تكون عليه الأسرة المسلمة، والبيت المسلم من العفاف والستر، والنزاهة والطهر، والاستقامة على شريعة الله؛ صيانة لحرمتها، وحفاظًا عليها من عوامل التفكك الداخلي، والانهيار الخُلقي، الذي يهدم الأمم والشعوب.
وقد ذُكرت في هذه السورة الكريمة بعض الحدود الشرعية التي فرضها الله كحدّ الزّنا، وحد القذف، وحد اللعان، وكل هذه الحدود إنما شُرعت تطهيرًا للمجتمع من الفساد والفوضى، واختلاط الأنساب، والانحلال الخُلقي، وحفظًا للأمة من عوامل التردِّي في بؤرة الإباحية والفساد، التي تسبب ضياع الأنساب، وذهاب العِرض والشرف.
وباختصار؛ فإن هذه السورة الكريمة عالجت ناحية من أخطر النواحي الاجتماعية، هي “مسألة الأسرة” وما يحفُّها من مخاطر، وما يعترض طريقها من عَقَبَات ومشاكل، تؤدِّي بها إلى الانهيار ثم الدمار، هذا عدا ما فيها من آداب سامية، وحِكم عالية، وتوجيهات رشيدة إلى أسس الحياة الفاضلة الكريمة، ولهذا كتب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى أهل الكوفة يقول لهم: “علِّمُوا نِساءَكم سورة النور”.
3. “سورة لقمان”:
وقد سُمِّيت سورة لقمان لاشتمالها على قصة لقمان الحكيم، التي تضمَّنت فضيلة الحكمة وسر معرفة الله تعالى وصفاته، وذم الشرك، والأمر بمكارم الأخلاق، والنهي عن القبائح والمنكرات، وما تضمّنته كذلك من الوصايا الثمينة التي أنطقه الله بها، وكانت من الحكمة والرشاد بمكان.
4. “سورة الأحزاب”:
أما سورة الأحزاب فهي من السور المدنية، التي تتناول الجانب التشريعي لحياة الأمة الإسلامية، شأن سائر السور المدنية، وقد تناولت حياة المسلمين الخاصة، والعامة، وبالأخص أمر الأسرة، فشرّعت الأحكام بما يكفل للمجتمع السعادة والهناء، وأبطلت بعض التقاليد، والعادات الموروثة مثل: “التبنِّي، والظِّهار، واعتقاد وجود قلبين لإنسان، وطهَّرت الناس من رواسب المجتمع الجاهلي، ومن خرافات وأساطيرموهومة كانت متفشية في ذلك الزمان، ونجد في هذه السورة من الموضوعات التربوية ما يلي:
أولًا: التوجيهات والآداب الإسلامية.
ثانيًا: الأحكام والتشريعات الإلهية.
أما الأولى: فقد جاء الحديث عن بعض الآداب الاجتماعية كآداب الوليمة، وآداب الستر والحجاب وعدم التبرج، وآداب معاملة الرسول صلى الله عليه وسلم واحترامه إلى آخر ما هنالك من آداب اجتماعية.
وأما الثانية: فقد جاء الحديث عنها في بعض الأحكام التشريعية مثل حكم الظهار والتبنِّي، والإرث، وزواج مطلَّقة الابن من التبنِّي، وتعدُّد زوجات الرسول الطاهرات والحكمة منه، وحكم الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم وحكم الحجاب الشرعي، والأحكام المتعلِّقة بأمور الدعوة إلى الوليمة إلى غير ما هنالك من أحكام تشريعية.
5. “سورة الحجرات”:
سورة مدنيَّة، وهي على وَجَازتها سورة جليلة ضخمة، تتضمن حقائق التربية الخالدة، وأسس المدنيَّة الفاضلة، حتى سمّاها بعض المفسّرين “سورة الأخلاق”.
ابتدأت السورة الكريمة بالأدب الرفيع الذي أدّب الله به المؤمنين، تجاه شريعة الله وأمر رسوله، وهو ألا يُبْرِمُوا أمرًا، أو يُبدو رأيًا، أو يَقْضُوا حكمًا في حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم حتى يستشيروه، ويستمسكوا بإرشاداته الحكيمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيم} [الحجرات: 1].
ثم انتقلت إلى أدب آخر، وهو خفض الصوت إذا تحدّثوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم تعظيمًا لقدره الشريف، واحترامًا لمقامه السامي؛ فإنه ليس كعامّة الناس، بل هو رسول الله ومن واجب المؤمنين أن يتأدّبوا معه في الخطاب مع التوقير، والتعظيم، والإجلال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات: 2].
ومن الأدب الخاص إلى الأدب العام، تنتقل السورة لتقرير دعائم المجتمع الفاضل، فتأمر المؤمنين بعدم السّماع للإشاعات، وتأمر بالتثبت من الأنباء والأخبار، لا سيَّما وإن صدرالخبرعن غيرعدْل أو متهم، فكم من كلمة نقلها فاجر فاسق سببت كارثة من الكوارث، وكم من خبر لم يتثبّت منه سامِعُه جرّ وبالًا، وأحدَثَ انقسامًا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6].
ودعت السورة إلى الإصلاح بين المتخاصمين، ودفع عداوات الباغين: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9].
وحذَّرت السورة من السخرية والهمز واللمز، ونفَّرت من الغيبة والتجسس والظن السيّئ بالمؤمنين، ودعت إلى مكارم الأخلاق، والفضائل الاجتماعية، وحين حذّرت من الغيبة جاء النهي في تعبير رائع عجيب أبدعه القرآن غاية الإبداع، صورة رجل يجلس إلى جنب أخٍ له ميت ينهش منه، ويأكل لحمه: {وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات: 12]. ويا له من تنفير عجيب.
وخُتمت السورة بالحديث عن الأعراب، الذين ظنوا الإيمان كلمة تُقال باللسان، وجاءوا يمُنُّّون على الرسول إيمانهم، فتبين حقيقة الإيمان،وحقيقة الإسلام، وشرط المؤمن الكامل، وهو الذي جمع الإيمان، والإخلاص، والجهاد، والعمل الصالح: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُون} [الحجرات: 15]. إلى آخر السورة الكريمة.
6. “سورة الطلاق”:
سورة مدنية، وقد تناولت بعض الأحكام التشريعية المتعلقة بأحوال الزوجين، كبيان أحكام الطلاق من العِدّة، والنفقة، والسُّكنى، وأجر المُرضع، إلى غير ما هنالك من أحكام.
وتناولت السورة الكريمة في البدءِ أحكام الطلاق: الطلاق السُّني، والطلاق البِدعي؛ فأمرت المؤمنين بسلوك أفضل الطرق عند تعذُّر استمرار الحياة الزوجية، ودعت إلى تطليق الزوجة في الوقت المناسب وعلى الوجه المشروع، وهو أن يطلِّقها طاهرًا من غير جماع، وأن يتركها إلى انقضاء عِدَّتها.
وفي هذا التوجيه الإلهي دعوة للرجال أن يتمهّلوا ولا يسرعوا في فصل عُرَى الزوجية؛ فإن الطلاق أبغض الحلال إلى الله، وما أُبيح إلا لضرورة ملحة؛ لأنه هدم للأسرة.
ودعت السورة إلى إحصاء العِدَّة لضبط انتهائها؛ لئلَّا تختلط الأنساب، ولئلَّا يطول الأمد على المطلقة فيلحقها الضرر، ودعت إلى الوقوف عند حدود الله وعدم عصيان أوامره.
وتناولت السورة أحكام العدَّة، فبيَّنت عدَّة اليائِس التي انقطع عنها دم الحيض لكبَرٍ أو مرض، وكذلك عدَّة الصغيرة، وعدَّة الحامل، فبيَّنته أوضحَ بيان مع التوجُّه والإرشاد.
ومن خلال تلك الأحكام التشريعية تكرّرت الدعوة إلى تقوى الله بالترغيب تارةً، وبالترهيب أُخرى؛ لئلَّا يقع حيفٌ أو ظلم من أحد الزوجين، كما أوضحت أحكام السُّكنى والنفقة.
وختمت السورة بالتحذير من تعدِّي حدود الله، وضَربت الأمثلة بالأمم الباغية التي عَتَتْ عن أمر الله، وما ذاقت من الوَبَال والدّمار، ثم أشارت إلى قدرة الله في خلق سبع سماوات طباقًا، وخلق الأراضين، وكلها براهين على وحدانية رب العالمين.
عالمية القرآن في التربية:
لقد وجَّه المولي سبحانه وتعالى النداء في القرآن للناس جميعًا في كل البقاع والأصقاع بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} [البقرة: 21].، أو بقوله: {يَا بَنِي آدَمَ} [الأعراف: 26].، أو بقوله: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ} [الانفطار: 6]. أو بأمره لنبيّه بأن يقول لهم ما أبْلغَهُ به جبريل عن الله عز وجل بقوله: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ} [الأعراف: 158].
فنجد في القرآن بصِيَغ النِّداء آيات كثيرة تدعو الناس إلى عبادة الله وتوحيده؛ لأنه ربهم الذي خلقهم كقوله عزَّمِن قائل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُون} [البقرة: 21، 22].
فتجد {رَبَّكُمُ} فيها تنبيه على أن الموجب للعبادة هي الربوبية، والآية تدل على أن الطريق إلى معرفة الله والعلم بوحدانيته واستحقاقه للعبادة: النظر في صُنْعه، والاستدلال بأفعاله، وأن العبد لا يستحقّ بعبادته ثوابًا، لكنه لما أدّاها فإنه كأجيرٍ أخذ الأجر قبل العمل.
فالله المربِّي قد هيَّأ للناس الأرض وصيَّرها متوسطة بين الصلابة، واللطافة، حتى صارت صالحة لأن يقعدوا عليها، ويناموا عليها كالفراش المبسوط. فهي مع اتساع جرمها لا تأبَى الافتراش عليها، كما جعل السماء مبنيّة، ينزل منها المطر الذي أودع الله فيه قوة فاعلة قادرة على أن تمتزج بقوة الأرض الفاعلة أيضًا، فيتولد منهما أنواع الثمار التي يكون منها رزق الإنسان.
فلا يصح للإنسان المرزوق بقدرة الله أن يجعل له أندادًا، مع علمه بأنه سبحانه لا ندَّ له، ولا شريك، وإذا كان ذلك كذلك؛ فإنه سبحانه، أباح لهم أن يأكلوا من طيِّبات الرزق فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِين} [البقرة: 168].، و{مِمَّا} للتبعيض؛ لأن كل ما في الأرض ليس بمأكول فمنه ما هو طيب طاهرٌ من كل شبهة، ومنه ما هو غير ذلك، والشيطان يُزيّن لهم الحرام ويدعوهم إليه حتى يقعوا في المحظور ويخالفوا أوامر الرب عز وجل، ولذلك قال بعدها: {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُون} [البقرة: 169] ليبين لهم وجوب انتهائهم عن الشيطان؛ لأنه يُزيِّن لهم أعمالهم، ويريد بذلك هَلاكهم، فهو لا يأمرهم بخير أبدًا، ولكن يأمرهم بالسوء والفحشاء.
قيل: إن السُّوء ما لا حدَّ فيه، والفحشاء ما فيه حدّ، ومن ذلك: القول على الله بما لا يعلمون؛ فيُحلُّون، ويحرِّمون من عند أنفسهم، وبتزيِين الشيطان لهم يقولون: هذا حلالٌ، وهذا حرامٌ. والله لا يرضى منهم هذه الادِّعاءات الباطلة، وكيف يطيعون أوامر الشيطان ولا يستجيبون لأوامر الرحمن!.
ويأتي النداء في “سورة النساء” في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1] فيطالب الناس بتقواه وهي عبادته وحده لا شريك له، فهم من خلقه والدليل على ذلك خلقه إياهم من نفس واحدة هي نفس آدم؛ حيث خلق من ضلعه الأيسر حواء، وذرأ منهما رجالًا كثيرًا ونساءً، ونشرهم في أقطار العالم على اختلاف أصنافهم، وصفاتهم، وألوانهم، ولغاتهم، وهو سبحانه مراقبٌ لجميع أحوالهم وأعمالهم، وفي ذلك تذكير للناس بأصل الخِلْقة وقدرة الخالق، مما يستوجب منهم عبادته وحده، وطاعة أوامره وحده.
أما في “سورة الأعراف” فيأمر الله نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم بأن ينادي في الناس، ويُعْلِمهم بأنه رسول الله إلى جميع الخلق، وأن عليهم أن يتَّبعوه إن أردوا لأنفسهم رحمة؛ حيث يقول عزمن قائل: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِـي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُون} [الأعراف: 158].
وهذه الآية تحمل عالمية الدعوة، فهي لعموم الناس دون تفريق بينهم، يطلب منهم الإيمان بالله وبرسوله وبكلماته، وهي شاهدة على جميع البشر بأن الله أخبرهم عن طريق الرسول والقرآن وأقوال علماء المسلمين في كل مكان وزمان، فلا حُجَّة لأحد منهم أن يُنكر البلاغ.
ثم يأتي النداء في “سورة يونس”: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُون} [يونس: 23] ليبين لهم أن ظلمهم إنما يعود في النهاية عليهم، وأن المآل والمرجع إلى الله فيخبرهم به ويجازيهم عليه.
وفي “سورة يونس” أيضًا يكون النداء من العليِّ القدير إلى الناس بالهداية والرحمة بمجيء القرآن والرسول صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِين} [يونس: 57]. أي: قد جاءكم كتاب جامع لكل الفوائد من موعظة وتنبيه على التوحيد والموعظة، التي تدعو إلى كل مرغوب، وتزجر عن كل مرهوب؛ إذ الأمر يقتضي حُسن المأموربة، فيكون مرغوبًا، وهو يقتضي النهي عن ضده وهو قبيح، وعلى هذا ففي النهي شفاءٌ لما في صدروكم من العقائد الفاسدة، وهدًى من الضلالة، ورحمة للمؤمنين.
وفي السورة نفسها أمر من الله -سبحانه- إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم بأن يقول للناس: إن كنتم في شكٍّ من صحة ما جئتكم به من الدين الحنيف، الذي أوحاه الله إليَّ، فأنا لا أعبدُ الذين تعبدون من دون الله، ولكن أعبدُ الله وحده لا شريك له، وهو الذي يتوفَّاكم كما أحياكم ثم إليه ترجعون: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ وَلَـكِنْ أَعْبُدُ اللّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِين} [يونس: 104].
ثم يكون النداء الأخير في “سورة يونس” لمحمد صلى الله عليه وسلم على الناس بأمرٍ من الله أن يخبرهم أن الذي جاءهم به من عند الله هو الحق الذي لا مِرْية فيه ولا شك، فمن اهتدى به واتبعه، فإنما يعود نفع ذلك الاتباع على نفسه، قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِوَكِيل} [يونس: 108].
وتتكرر النداءات من الله عز وجل إلى الناس في القرآن الكريم، كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُون} [فاطر: 3]، وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُور} [فاطر: 5]، وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيد} [فاطر: 15]، وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير} [الحجرات: 13].
وفي مواضع أخرى يناديهم بقوله: {يَا بَنِي آدَمَ} [الأعراف: 26]، وإن كانوا من أهل ملَّة غير الإسلام قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ} [النساء: 47].؛ ليذكرهم بالدين، وبأن الدنيا زائلة، وأن الحياة الحقيقية هي الآخرة، وهي إما أن تكون دار سعادة، أو دار شقاء. وأنه عز وجل أرسل إليهم آخر الأنبياء من لدنه؛ ليربيهم على ملة الإسلام، وملة أبي الأنبياء إبراهيم.
وقد يوجّه سبحانه النداء إلى الإنسان بمفرده لعلّه يذَّكَّر أو يخشى كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيم} [الانفطار: 6]، وفي قوله عزَّمِن قائل: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاَقِيه} [الانشقاق: 6]
فالله سبحانه وتعالى يخاطب البشرية كلها موضحًا لها أنه خالقها، وأنه الملك سبحانه، وأنه مالك يوم الدين، وأنه هيّأ لها الأرض، ومهَّدها؛ كي تصلح للإقامة عليها، وأنه صاحب النعم، وصاحب الرزق، ودعاهم إلى عبادته وطاعته، وفي الوقت نفسه حذَّرهم من عدوهم اللدود، وهو الشيطان الذي أضل من قبلُ خلقًا كثيرًا، وقصته مع أبيهم آدم من قبل معروفة، فلا يصح لهم أن يستجيبوا لما يخيّل إليهم من الزينة حتى لا ينغص عليهم معيشتهم في الحياة الدنيا، ويُذيع بينهم العداوة والبغضاء، وأنه سبحانه وتعالى قد خلقهم ليعمر بهم الأرض، وأنزل من لدنه رسله؛ ليهدوهم سواء السبيل، وليبلغوهم بما يحب الله ويرضى، وأنه جعل المفاضلة بينهم قائمة على ميزان التقوى، فأكرم الخلق عنده هو أكثرهم عبادةً وخشوعًا، واستجابةً لأوامره وانتهاءً عن نواهيه.
ويا حبّذا لو أن هذه النداءات الموجهة من الله عز وجل إلى الناس عامّة تترجم إلى الإنجليزية، وتُبلغ للعالم أجمع؛ لأن من حق هؤلاء الناس علينا أن نُبلغهم ما أبلَغنا القرآن، وما أبلغنا به سيد الخلق، محمد صلى الله عليه وسلم.
أما من رضي بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، ومحمد نبيًّا ورسولًا، فهؤلاء لهم نداء خاص بهم، وهو قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ} [البقرة: 104]، وهذا النداء من الله تعالى للمؤمنين به، الموحدين له يأتي بعده تشريع وتوحيد وتأديب من رب العالمين، وقد صدق عبد الله بن مسعود رضي الله عنه إذ قال لرجل: إذا سمعت الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ} فارْعِها سمعك، فإنه خير يأمر به، أو شر ينهى عنه.
ولقد تكرر هذا النداء في القرآن قرابة تسع وثمانين مرة كلها آداب، وتزكية، وتشريع، استحق بها المؤمنون من أمة محمد صلى الله عليه وسلم أن يكونوا خير أمة أخرجت للناس؛ لأنهم عُرفوا بصفة هي من خواص صفات الأنبياء، وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يحمل لنا التاريخ اسم أمّة من الأمم الغابرة، أو جماعة من الجماعات حَمَلَت هذه الصفة التي وصف بها القرآن أمة محمد صلى الله عليه وسلم فهي الأمة الوحيدة التي فَهِمَتْ عن الله كلامه، وفهمت عن نبيه كلامه وبلاغاته، فلا تزال تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتؤمن بالله إلى أن يَرِثَ الله الأرض ومن عليها.
أما تربية القرآن للعرب، فلعلّ من أعظم ما أتى به القرآن الكريم في شأن التربية، تربية الكبار من قبائل العرب، وتليين قلوب الذين كان لديهم الاستعداد الدفين منهم لقبول هذه التربية الإسلامية، والتأثر بها، والدخول في الدين الجديد، المنزل إليهم من السماء؛ حيث نجد القرآن المكي بما فيه من الترغيب والترهيب يؤثّر في نفوسهم، ويجذبهم جذبًا من مهاوي الضلال إلى مدارج الهدية، فانقلبوا بنعمة الله وفضله من أشداء في الظلم والكبر إلى أشداء في العدل والرحمة.
فهذا عمر بن الخطاب صاحب القوة والجبروت قبل إسلامه، والذي كان يخشاه صناديد قريش، يسمع الآيات من سورة “طه” فتنقشع عن قلبه سحابة الكفر، وتزول عن بصره غشاوة الظلم؛ فيذعن من فوره إلى النداء الربّاني، ويذهب إلى محمد صلى الله عليه وسلم معلنًا إسلامه وخضوعه إلى الله عز وجل ويكون بعد ذلك عمر العادل الرحيم بالمؤمنين الذَّاب عن الدين، والحامي لعرين الإسلام.
وكان أبو ذر قاطع طريق، وكان شجاعًا فاتكًا يتفرّد وحده بقطع الطريق، ويهجم وحده على الجماعة في أول الصباح على ظهر فرسه، أو على قدميه كأنه السبع، فيطرق الحمى ويأخذ ما أخذ، والعجيب أننا نجد في أخباره أنه كان في أيام جاهليته يتألّه ويقول: لا إله إلا الله، ولم يكن يعبد الأصنام، وقد مرّ عليه رجلٌ من أهل مكة فقال: يا أبا ذر، إن رجلًا بمكة يقول مثل ما تقول، ويزعم أنه نبي فقال أبو ذر: ممن هو؟ قال: من قريش، فطلب أبو ذر من أخٍ له أن يذهب إلى مكة ليأتيه بخبر ذلك الرجل الذي هو من قريش، ويزعم أنه نبي، فلما عاد إليه أخوه، أخبره أنه رجل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويأمر بمكارم الأخلاق، فلم يَلْبَثْ أبو ذر أن جمع نفسه، وخرج إلى مكة ليسمع ويرى.
وما أن التقى أبو ذرّ بالنبي وسمع منه حتى أعلن إسلامه، ثم قال للنبي صلى الله عليه وسلم يا نبي الله ما تأمرني؟ قال صلى الله عليه وسلم: «ترجع إلى قومك حتى يبلغك أمري». فقال أبو ذر: والذي نفسي بيده لا أرجع حتى أصرخ بالإسلام في المسجد، ثم خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل المسجد فنادى بأعلى صوته: أشهد أن لا إله الله وأن محمدًا عبده ورسوله. فضربه كفار قريش حتى صرعوه، فحذرهم العباس عمّ النبي صلى الله عليه وسلم من قتله، وقال: أنتم تجّار وطريقكم على غِفَار، فتريدون أن يقطع الطريق؟ فأمسكوا عنه.
وعلى يدي أبي ذر أسلم أهله وعشيرته، وأسلم نصف القوم من بني غِفَار، وقال الباقون: إذا قَدِمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أسلمنا، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أسلموا. فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: «غِفَارٌ غَفَرَ الله لها، وأسلم سَالمهَا الله».
وهناك أمثلة كثيرة تدلّ على أن القرآن بهديه الذي يَمسّ شغاف القلوب تأثّر به كثير ممن كانوا عُتَاةً في الكفر، وأن الذين دخلوا في الإسلام منهم كان لديهم الاستعداد الدفين كامنًا في قلوبهم، حتى إذا جاء الإسلام أزاح غشاوة الكفر التي كانت تحجبه، فاستجابت قلوبهم لباريها، وآمنوا بالله وبرسوله واهتدوا بهديه، وتحوّلوا بعد الإيمان من رجال جبّارين إلى رجال من نوع آخر: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23] تَلِين قلوبهم إلى ذكر الله، ويتراحمون فيما بينهم، ويربط بينهم رباط الأخوة الإسلامية، وهم على اختلاف أشكالهم، وألوانهم، وهيئاتهم إخوة في الله، وهي أسمى معاني الأخوة.
والقرآن بترغيبه وترهيبه فيه دعوة إلى استخدام العقل وإعمال البصيرة؛ إذ هو يخاطب الإنسان الذي أنعم الله عليه بنعمة العقل والبصيرة، لذلك نجد الآيات التي تُختم بقوله تعالى: {أَفَلاَ يَعْقِلُون} [يس: 68]. {أَفَلاَ يُبْصِرُون} [السجدة: 27]. نجد فيها الدعوة إلى استعمال العقل، والانتفاع بالحواس، ووصف القرآن من لا يسترشد بعقله وبصيرته بأنه لا يفقه؛ حيث لم ينتفع بعقله: {لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ} [الأعراف: 179].
كما أفهمنا القرآن دورنا الحقيقي في هذه الحياة رسالة ومسئولية وإرادة حرة، وكشف لنا عن الطريقين، ودعانا إلى الصراط المستقيم الذي هو صراط الله، وترك لنا حرية أعمالنا، وذلك على نحو لم يتحقق لأي منهج تربوي بشري.