Top
Image Alt

القسم الأول من الصحيح المتفق عليه: اختيار البخاري ومسلم

  /  القسم الأول من الصحيح المتفق عليه: اختيار البخاري ومسلم

القسم الأول من الصحيح المتفق عليه: اختيار البخاري ومسلم

قسَّم الحاكم الحديث الصَّحيح إلى عشرة أقسام، قال:

– إنَّ خمسةً منها متَّفقٌ عليها أي: متَّفق في عدِّها من الحديث الصَّحيح.

– وخمسةً منها مختلفٌ فيها أي: مختلفٌ في عدِّها من الحديث الصَّحيح.

وقد ذكر الحاكم هذا في كتابه (المدخل إلى كتاب الإكليل)، قال الحاكم -رحمه الله تعالى-: والصَّحيح من الحديث منقسمٌ على عشرة أقسام:

– خمسةٍ متفقٍ عليها.

– وخمسةٍ منها مختلفٍ فيها.

وهو الدرجة الأولى من الصَّحيح، ومثاله:

– الحديث الذي يرويه الصَّحابي المشهور بالرِّواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وله راويان ثقتان. ثم يرويه عنه التَّابعيُّ المشهور بالرِّواية عن الصحابة، وله راويان ثقتان. ثم يرويه عنه من أتباع التابعين الحافظ المتقن المشهور، وله رواة ثقات من الطبقة الرابعة.

ثم يكون شيخ البخاري أو مسلم حافظًا متقنًا، مشهورًا بالعدالة في روايته. ويعني بهذا أن يكون مشهورًا بالمحافظة على تقوى الله وعلى المروءة. ويعني بالحافظ المتقِن: الذي يكون حافظًا لأحاديثه، ضابطًا لها.

والحفظ كما هو معروف عند علماء الحديث:

– إمَّا أن يكون حفظ كتاب بشروطه.

– وإمَّا أن يكون حفظ صدر.

قال الحاكم: فهذه الدَّرجة الأولى من الصَّحيح.

قال: والأحاديث المرويةَّ بهذه الشَّريطة لا يبلغ عددُها عشرةَ آلاف حديث.

وقد كان مسلم بن الحجاج أراد أن يُخرج الصَّحيح على ثلاثة أقسام. وقد ذكر هذه الأقسام في مقدمة كتابه (الجامع الصَّحيح). قال الحاكم: أراد مسلم أن يخرج الصَّحيح على ثلاثة أقسام في الرواة، ولما فرغ من هذا القسم الأول أدركته المنيَّة -رحمة الله عليه- وهو في حدِّ الكهولة.

بطبيعة الحال، سيكون هناك نقدٌ للحاكم في هذا، لكنَّنا الآن بصدد تقسيم الحاكم وكلامه عن كل قسم.

بعد أن بَيَّن الحاكم القسم الأول، أراد أن يبيِّن أنه لا يمكن أن يكون حديثُ رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا القسم فقط؛ لأنّ هذا القسم أعدادُه قليلةٌ حتى ولو بلغت أربعة آلاف، حتى لو بلغ الذين روى الحديث من أصحابه أربعة آلاف رجل وامرأة.

قال: وكيف يجوز أن يقال: إنَّ حديثه صلى الله عليه وسلم لا يبلغُ عشرة آلاف حديث؟ -أي: إذا كان محصورًا في هذا القسم- وقد روى عنه من أصحابه أربعةُ آلاف رجل وامرأة، صحبوه نيِّفًا وعشرين سنة، بمكة قبل الهجرة ثم بالمدينة بعد الهجرة، حفظوا عنهصلى الله عليه وسلم أقواله وأفعاله، ونومه ويقظته، وحركاته وسكونه، وقيامه وقعوده، واجتهاده وعبادته، وسِيَره ومغازيه وسراياه، ومزاحه، وزجره، وخطَبه، وأكله وشربه، ومشيَه وسكونه، وملاعبته أهله، وتأديبه فرسه، وكتبه إلى المسلمين والمشركين، وعهودَه ومواثيقَه، وألحاظَه وأنفاسَه وصفاته، وهذا سوى ما حفظوا عنه من أحكام الشريعة، وما سألوه عن العبادات والحلال والحرام، وتحاكموا فيه إليه. وقد نُقل إلينا -أي من أحواله صلى الله عليه وسلم غيرُ هذا الذي سبق.

بَيَّنَ الحاكم -رحمه الله- أنَّ القسم الأول من الصَّحيح، والذي يتمثل فيما اتفق عليه البخاري ومسلم- لا يمكن أن يبلغ عشرة آلاف حديث فقط؛ لأنّ الصحابة الذين روَوا الحديث كانوا أربعةَ آلاف رجل وامرأة، ورصدوا أحواله وأقواله ونقلوا كل ذلك، قال -غير ما سبق ممّا رُصد من أحواله صلى الله عليه وسلم وأقواله-. قال: وقد نُقل إلينا: ((أنه صلى الله عليه وسلم كان يسير العَنَقَ، فإذا وجد فجوةً نَصَّ))، ((وأنَّه  مشى عن زميل له))، ((وأنَّه  مازح صبيًَّا، فقال صلى الله عليه وسلم: يا أبا عُمير! ما فعل النُّغَيْر؟))، و((مازح عجوزًا فقال: إنَّ الجنَّة لا تدخلها عجوز))، ((وأنَّه صلى الله عليه وسلم كان يغُطُّ إذا نام))، ((وأنَّه صلى الله عليه وسلم كان يرفع الحسن بن عليٍّ  برجلتيْه))، ((وأنَّه صلى الله عليه وسلم شرب وهو قائم))، ((وأنَّه صلى الله عليه وسلم بال قائمًا مِن جرح كان بمأبضيْه))، في أخبار كثيرة من هذا النوع يطول شرحها.

وهؤلاء الصحابة -أي: الأربعة آلاف الرَّاوون عنه صلى الله عليه وسلم سوى من صحبوه وماتوا قبله وقُتلوا بين الصُّفوف، أو تبدَّدوا ولم تظهر لهم رواية ولا حديث، وأنَّه  صلى الله عليه وسلم وقف عامَ الفتح بمكة، وبين يديه خمسة عشر ألف عنان، وقد كان الواحد من الحُفَّاظ يحفظ خمسمائة ألف حديث.

قال: سمعت أبا جعفر محمد بن أحمد بن سعيد الرَّازي يقول: سمعتُ أبا عبد الله محمد بن مسلم بن وارة يقول: كنت عند إسحاق بن إبراهيم بنيسابور، فقال رجلٌ من أهل العراق: سمعتُ أحمد بن حنبل يقول: صحَّ من الحديث سبعمائة ألفِ حديث وكسر، وهذا الفتى -يعني أبا زُرعة الرازي- قد حفظ ستمائة، أي: ستمائة ألف من سبعمائة ألف حديث وكسر، الَّتي يعلمُ أحمد أنها صحَّت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

بطبيعة الحال قد يسمع سامع هذا فيقول: هذه مبالغة؛ والحقُّ: أنه ليس هناك مبالغة في ذلك، وفي تقدير هذا العدد؛ لأنه ينبغي لنا أن نتصوَّرَه بروايات مختلفة للحديث الواحد الصَّحيحة، وبذلك يكثر العدد هكذا. ولا شكَّ أنَّ الرِّوايات المختلفة التي حُفظت للحديث الواحد تُفيدُ إفادات جمَّة يعرفها دارسو الحديث الصَّحيح قبل أن يعرفها غيرُهم.

قال الإمام الحاكم النيسابوري: سمعتُ أبا بكر محمد بن جعفر المزكي يقول: سمعت محمد بن إسحاق بن خزيمة صاحب (الصَّحيح) يقول: سمعت عليَّ بن خشرم يقول: كان إسحاق بن إبراهيم بن راهويه يملي سبعين ألفَ حديثٍ حفظًا.

ثم قال: سمعت أبا بكر بن أبي دارم الحافظ بالكوفة يقول: سمعتُ العباس أحمد بن محمد بن سعيد الحافظ يقول: أحفظُ لأهل البيت ثلاثمائة ألف حديث.

ثم قال: سمعت أبا عليٍّ الحافظ يقول: سمعت أبا العباس بن سعيد يقول: ظهر لأبي كريب بالكوفة ثلاثمائة ألف حديث.

ثم قال: سمعت أبا بكر بن أبي دارم يقول: كتبتُ بأصابعي عن أبي جعفر الحضرمي مُطَيَّن مائةَ ألف حديث.

ثم قال: سمعت أبا إسحاق إبراهيم بن محمد بن يحيى يقول: سمعت محمد بن المسيب الأرغياني يقول: كنت أمشي بمصر وفي كُمِّي مائةُ جزء في كل جزء ألفُ حديث.

قال الحاكم -رحمه الله-: وقد كان في عصرنا -والحاكم توفي سنة (405)- جماعةٌ بلغ المسند المصنف له على تراجم الرجال لكل واحد منهم ألف جزء، منهم: أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن حمزة الأصفهاني، وأبو عليٍّ الحسين بن محمد بن أحمد الماسرجي.

error: النص محمي !!