القول الراجح في اختلاف المطالع
رأينا اختلاف الفقهاء في القول باعتبار المطالع، وصيام كل بلد وإفطارها حسب رؤية أهلها للهلال وثبوته عندهم، وعدم اعتبار هذا الاختلاف ووجوب الصوم والإفطار على الجميع إذا ثبتت الرؤية في أي بلد، وكلا الرأيين صحيح وله سنده، فالشافعية يستدلون بحديث ابن عباس، والجمهور يستدلون بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته)).
والذي نميل إليه ونرجحه: هو العمل بكليهما، أي: بالاعتبار أحيانا، وعدم الاعتبار أحيانا أخرى، أو الاعتبار في بعض البلاد، وعدم الاعتبار في البلاد الأخرى؛ ففي البلاد المتقاربة من بعضها، كبلاد الشرق الأوسط الإسلامي مثلًا، أو وسط آسيا، أي: مصر، والشام، وليبيا، والسودان، والسعودية، ونحو ذلك، أو بعض البلاد الإفريقية المتقاربة أو الولايات المتحدة الأمريكية مع بعضها، أو بلاد “أمريكا” اللاتينية مع بعضها، أو بلاد الاتحاد الأوربي، هذه كتل وبلاد متقاربة؛ فيكون التوحيد بينها واجبًا، فإذا ثبت الهلال في بلد من بلادها وجب الصيام على الجميع إذا كان هلال رمضان، وإذا ثبت هلال شوال في بعضها وجب الإفطار على الجميع، ويكون إعمال رأي الجمهور في هذه البلاد أولى؛ وذلك بعدم اعتبار اختلاف المطالع.
لكن حين تكون البلاد متباعدة كبلاد “آسيا” و”أمريكا” و”الصين”، أو “إفريقيا” و”أمريكا”، أو بلاد الشمال: “السويد”، و”النرويج”، و”الدانمارك” وبلاد الجنوب مثل: جنوب “إفريقيا”، أو ما وراءها من بلاد القطب الجنوبي حيث يختلف الليل والنهار، فنهار هنا وليل هناك، أو ليل هنا ونهار هناك؛ عند ذلك يكون اعتبار المطالع -أي: اختلاف المطالع- أولى، ويكون لكل بلد رؤيتهم؛ لأن التوحيد حينئذ فيه عسر ومشقة، وقد قال الله تعالى في آيات الصيام: { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، وقال عموما: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78].
وفي تفصيل ذلك كله يقول الأستاذ الدكتور محمد جبر الألفي، أستاذ الفقه المقارن بالمعهد العالي للقضاء بجامعة الإمام محمد بن سعود بالرياض، وعضو مجمع فقهاء الشريعة بـ”أمريكا”، تحت عنوان: “خلاصة وترجيح”: “يمكن رد الأقوال الفقهية في مسألة المطالع إلى اتجاهين:
أولهما: لا يعتد باختلاف المطالع، فإذا رئي الهلال في بلد لزم جميع البلاد العمل بهذه الرؤية، وهذا هو المشهور عند الحنفية والحنابلة وجمهور المالكية، واختاره الليث بن سعد، وحكاه البغوي عن الشافعي، وإليه ذهب القاضي أبو الطيب، والروياني، وقال: إنه ظاهر المذهب، واختاره جميع أصحابنا، وهو ما رواه ابن القاسم، وابن وهب عن مالك.
ويمكن أن نقول: إنه رأي المالكية بعد أن نقلنا عدم ثبوت ما ادعوه من الإجماع على عدم لحوق رؤية الهلال ما بعُد من البلاد، كالأندلس و”خراسان”، أو بعد الأندلس من “خراسان”، هذا اتجاه وهو اتجاه الجمهور كما سبق أن ذكرنا.
والاتجاه الآخر -وهو رأي الشافعية- يعتد باختلاف المطالع، ويقول: لا يلتزم أهل البلد الذي لم ير الهلال برؤية غيرهم، إلا إذا كان بين البلدين تقارب؛ فما حدود هذا التقارب؟
حدده البعض بحسب مطالع الشمس والقمر، وحدده البعض الآخر بحسب الأقاليم، ورأى بعضهم تحديده بمسافة القصر المعروفة بين الجمهور بـ 85 كيلو مترًا.
وهذا الاتجاه يمثل قول جمهور الشافعية، وهو قول عند بعض الحنابلة، وهو قول أيضًا أخذ به بعض الحنفية، وهو أيضًا عند بعض المالكية، ويمكن أن نضم إليه ما نقل عن عكرمة، والقاسم، وسالم، وإسحاق.
وبناء على ذلك نقول: إن مسألة اعتبار اختلاف المطالع، أو عدم اعتبارها من المسائل الاجتهادية التي يسوغ الخلاف فيها، ولا يرجح الدليل أحد الاتجاهين على الآخر؛ لتقارب الأدلة”.
إذًا: هي مسألة اجتهادية، من أخذ بها فأخذه صواب، ومن تركها فتركه صواب، إلا أن الدكتور الألفي رجح اعتبار الاختلاف على إطلاقه، وهو قول الشافعية حيث قال: “ومع ذلك -أي: مع هذا الاختلاف- فإني أميل إلى الاتجاه الذي يعتبر اختلاف المطالع؛ لأنه يضم ابن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن الذي دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اللهم فقّهْهُ في الدين، وعلمه التأويل))، كما هو قول عكرمة، والقاسم، وسالم، وإسحاق، وهو قول جمهور الشافعية، وهو قول في المذهب الحنبلي، وبه قال بعض الحنفية منهم: الزيلعي، وبعض المالكية منهم: ابن عبد البر، وهذا هو المتبادر إلى الفهم من قول الرسولصلى الله عليه وسلم: ((صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته؛ فإن غمي عليكم الشهر فعدوا ثلاثين))؛ ذلك أن الهلال لا يظهر في نفس الوقت لكل أهل الأرض، ولا يحجبه الغيم أيضا عن كل أهل الأرض؛ فتكون لكل بلد رؤيتهم ولكن وفق الضوابط الآتية:
1- أن الشمس والقمر، وسائر الكواكب إذا طلعت على بلد واقع على أحد خطوط الطول، ممتدًّا من الشمال إلى الجنوب -كانت مشرقة على جميع البلدان الواقعة على هذا الخط، أي: خطوط الطول غير خطوط العرض بمعنى: أننا سنأخذ بالاعتبار، لكن ليس بين البلاد الواقعة على خط طول واحد إذا كانت خطوط الطول مختلفة، نأخذ بالاعتبار -اعتبار اختلاف المطالع- أما إذا كانت البلاد على خط طول واحد فلا يجوز الاعتبار.
2- كل البلاد الواقعة غربي هذا الخط، يكون الهلال ثابتًا عندها مهما اختلفت المطالع، وكلما كانت البلاد أشد بعدًا من جهة الغرب كان الهلال أظهر؛ لأنه يربط بين ارتباط الهلال بالشمس، فما دامت الشمس قد شرقت في هذا المكان، إذًا يكون الهلال قد ظهر في ليلها.
3- متى ابتدأت رؤية الهلال على خط من خطوط الطول، فجميع البلاد التي تقع شرقه لا يكون الهلال ظاهرًا فيها، ولا يرى إلا في الليلة التالية؛ لأن الشمس قد انتقلت، وعلى هذا يفسر حديث كريب، حيث رأى الهلال في دمشق وهي على 45 درجة خط الطول الشرقي من “جرينتش” ليلة الجمعة، ورآه أهل المدينة وهي على 50 درجة خط الطول الشرقي ليلة السبت.
4- لا اختلاف بين أهل الأرض قاطبة في رؤية الهلال إلا بليلة واحدة فقط -كما سبق أن ذكرنا في الشهور- لا تكون كلها ثلاثين، ولا تكون كلها تسعة وعشرين، ولا يزيد الأمر بحال من الأحوال عن شهرين تسعة وعشرين، أو شهرين ثلاثين”.
إذًا: لا اختلاف بين أهل الأرض قاطبة في رؤية الهلال إلا بليلة واحدة فقط، وهذا معنى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: ((فإن غمي عليكم؛ فأكملوا عدة الشهر))، أو ثلاثين لشعبان أو فعدوا له ثلاثين؛ لأن الهلال إذا ظهر في بلدة ولم يظهر فيما قبلها؛ فإنه يتم دورته بعد أربع وعشرين ساعة؛ فيراه جميع سكان المعمورة. هذا ما رجحه الدكتور محمد جبر الألفي.
وهناك ترجيح آخر، وهو ترجيح رأي جمهور الفقهاء في وجوب الصوم والإفطار على جميع المسلمين في شتى بقاع العالم؛ إذا ثبت رؤية الهلال في أي بلد من البلاد، وهو ترجيح مجمع فقهاء الشريعة بـ”أمريكا”، ومجمع الفقه الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثالث بالأردن سنة 1986 حيث قالوا: “إذا ثبتت رؤية الهلال في بلد وجب على جميع المسلمين الالتزام بها، ولا عبرة لاختلاف المطالع؛ لعموم الخطاب بالأمر بالصوم والإفطار، وذلك للاعتبارات الآتية:
1- أن هذا هو رأي جمهور أهل العلم واختيار المحققين منهم، وهذا أمر له اعتباره؛ أن نكون مع الأغلبية حتى دعاة الديمقراطية يميلون لأخذ الرأي الذي عليه الأغلبية.
2- زوال الاعتبارات التي بنى عليها القائلون باعتبار اختلاف المطالع؛ فإن اليسر والتوسعة الذي كان وراء ترجيح هذا القول لم يعد له مفهوم في ظل تطور وسائل التقنية في واقعنا المعاصر، وتحول العالم كله إلى ما يشبه القرية الواحدة، وانتقال الخبر بين أرجاء المعمورة كلها كلمح بالبصر، أي: إذا كنا في الماضي نقول: ليس هناك وسائل اتصال بين البلاد المتباعدة، وأن إلزامهم بالصيام فيه مشقة وفيه حرج عليهم؛ فإن هذا الاعتبار لم يعد له وجود في ظل السموات المفتوحة، والفضائيات المتعددة التي جعلت العالم كله قرية واحدة، فما ظهر في مكان يعلم كلمح البصر في أي مكان آخر.
3- أن هذا -أي: عدم اعتبار اختلاف المطالع، وتوحيد المسلمين على الصيام والإفطار- أقرب لمقصود الشارع من الائتلاف واجتماع الكلمة، وهو خطوة على طريق وحدة الأمة وجمع كلمتها؛ لأن الله -تبارك وتعالى- يقول: { وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [المؤمنون: 52]، ويقول: { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 104]، فما دام مقصود الشارع هو توحيد الأمة؛ فإن الأخذ برأي الجمهور بعدم اعتبار اختلاف المطالع أولى وأفضل، وإن لم يكن محققًا للوحدة الكاملة، فهو خطوة على طريق وحدة الأمة وجمع كلمتها.
4- أنه لا يثير حساسية إقليمية؛ فأيما بلد إسلامي أعلن الرؤية فإن الجاليات الإسلامية تبع له، تعتمد قوله وتعمل به. هناك حساسيات بين بعض البلاد، حتى وصلت عند الاختلاف السياسي إلى حد أن تثبت الرؤية عند البلد الملاصق أو المجاور، ومع هذا لا يعتد به أهل البلد الآخر مع أنه ليس بينهم مسافة، فمنعًا لهذه الحساسيات يكون اتباع أي بلد إسلامي أعلن رؤية الهلال فإن جميع المسلمين يكونون تبعا له، يعتمدون قوله ويعملون به.
5- رفع الحرج الذي يسببه اعتبار اختلاف المطالع؛ عندما تتعارض الرؤية في الغرب مع رؤية أهل مكة يقع الناس في حرج، أهل مكة يصومون الجمعة وبلاد أخرى تصوم السبت، أو يختلفون في عيد الأضحى، أو يختلفون في عيد الفطر ثم يتفقون في عيد الأضحى؛ هذا يسبب نوعًا من الحرج؛ حيث يكون أصحاب هذا الاجتهاد بين أمرين: إما مخالفة الحجيج في يوم عرفة ويوم عيد الأضحى، وفيه من مخالفة الإجماع العملي، ومصادمة الشعور الإسلامي ما فيه، وإما موافقة الحجيج مع ما يعنيه ذلك من التناقض مع ما رجحوه من قبل، أو ما يرجحونه من أصول فقهية”.
إذًا: مجمع فقهاء الشريعة في “أمريكا”، ومجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاده في الأردن 1986 تبنيا رأي جمهور الفقهاء؛ في عدم اعتبار اختلاف المطالع، ووجوب توحيد المسلمين على الصيام أو الإفطار برؤية أي بلد يرى الهلال، وبذلك يتم توحيد العيدين.
فلم يأخذ المجمع بالاجتهاد القائل باعتبار اختلاف المطالع، وهو قول الشافعية أو قول الدكتور جبر الألفي؛ لما يلي:
1- كونه مرجوحًا من الناحية الفقهية؛ لأنه خلاف قول الجمهور.
2- عسر الاجتماع على جهة بعينها في الظروف الراهنة؛ نظرا لتباين الاجتهادات الفقهية.
3- ما يصيب الحس الإسلامي من حرج بالغ، إذا لم تتوافق رؤية الهلال في ذي الحجة مع الرؤية في بلاد الحجاز؛ فقد انعقد ما يشبه الإجماع العملي أن الناس في هذا الشهر وهذا العيد تَبَعٌ لأهل مكة، فيكون ذلك تناقضًا مع قولهم السابق بالاعتبار؛ اعتبار الاختلاف في رمضان.
4- تباين الرؤية الفقهية حول قضية الاعتداد بالحساب، وعدم الاعتداد به.
وعلى كل حال؛ فالمسألة خلافية ومجال الاجتهاد فيها مفتوح، ولكل رأي وجهته وأدلته، ولا يجوز إلزام العامة برأي دون آخر إلا إذا رأى ولي أمر البلد ذلك؛ حسمًا للخلاف، فحينئذ تجب طاعته؛ لأنه لا ينكر الأمر المختلف فيه، وإنما ينكر المتفق عليه.
والخلاصة: أن الأولى هو رأي الجمهور ما لم يكن هناك مشقة وتباعد، فيكون الأولى الاعتبار باختلاف المطالع للأهداف السابقة.