القول الصحيح عند تعارض الآية مع الحديث
1. بيان مرتبة السنة مع الكتاب:
طالما نتكلم عن التعارض والاختلاف، أو ما يُوهم التعارض والاختلاف في القرآن الكريم؛ فلا بد أيضًا أن نعرِّج عما يظهر فيه تعارض بين القرآن الكريم والحديث الشريف، لا بد أن أتحدث أولًا عن مكانة ومرتبة السنة النبوية مع كتاب رب العالمين سبحانه وتعالى، جل في علاه-:
أنزل الله عز وجل القرآن الكريم على رسوله صلى الله عليه وسلم هُدًى للمتقين، ودستورًا للمسلمين، وشفاءً لصدور الذين أراد الله لهم الشفاء، ونبراسًا لمن أراد لهم الفلاح والضياء، وهو مشتمل على أنواع من الأغراض التي بعث الله من أجلها الرسل، ففيه التشريع والآداب، والترغيب والترهيب، والقصص والتوحيد، وهو مقطوع بصحَّته إجمالًا وتفصيلًا، فمن شكَّ في آية، أو كلمة، أو حرفٍ من حروفه لم يكن مسلمًا، وأهم ما يُعنى به العالم المتفقِّه في دين الله، أن يتعرف إلى أحكام الله في كتابه، وما شرعه الله لعباده من نُظُم وقوانين، وقد تلقَّاه المسلمون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مشافهة في عصر الصحابة، نقلًا متواترًا في العصور التالية.
إن الرسول صلى الله عليه وسلم له مهمَّة أخرى عظيمة، غير تبليغ نصِّ القرآن الكريم إلى الناس فحسب، وهي تبيين هذا الكتاب، وشرح آياته، وتفصيل المجمل من أحكامه، وبيانُ ما أنزله الله في كتابه من قواعد عامة، أو أحكام مجملة، أو غير ذلك.
من هنا كان المسلمون في حاجة إلى معرفة بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع حاجتهم إلى معرفة كتاب الله تعالى، ولا يُمكن أن يُفهم القرآن الكريم على حقيقته، وأن يُعلم مراد الله عز وجل من كثير من آيات الأحكام فيه إلا بالرجوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أنزل الله عليه الكتاب؛ ليُبيِّن للناس ما نُزِّل إليهم من ربهم.
ومن هنا اتفق المسلمون قديمًا وحديثًا -إلا من شَذَّ من بعض الطوائف المنحرفة- على أن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من قولٍ أو عملٍ أو تقرير هي من مصادر التشريع الإسلامي، الذي لا غنى لكل متشرِّع عن الرجوع إليها في معرفة الحلال والحرام، وهذا أمر دلَّ عليه كتاب الله، كما دلَّ عليه أقوال نبينا صلى الله عليه وسلم هنا أقول بأن متن القرآن الكريم قطعيُّ الثبوت، ثم منه ما هو قطعي الدلالة، ومنه ما هو ظنيها.
أما السنة: فالمتواتر منها قطعي الثبوت، وغير المتواتر ظني الثبوت في تفصيله، وإن كان قطعيًّا في جملته، ومرتبة ظني الثبوت في نوعيه قطعي الدلالة وظنيها، يأتي بعد مرتبة قطعي الثبوت بنوعيه، ومن هنا كانت مرتبة السنة النبوية المطهرة بعد مرتبة الكتاب، وأيضًا فإن السنة إما أن تكون بيانًا للكتاب، أو زيادة عليه، فإن كانت بيانًا فهي في الاعتبار بالمرتبة الثانية عن المبين، فإن النص الأصلي أساس، والتفسير بناء عليه، وإن كانت زيادة فهي غير معتبرة إلا بعد أن لا تُوجد في الكتاب، وذلك دليل على تقدم اعتبار الكتاب. هذا ما يدل عليه النظر العقلي.
وقد تأيَّد ذلك بجملة من الأخبار والآثار: من ذلك حديث معاذ رضي الله عنه الذي أخرجه أبو داود والترمذي، وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: “كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ قال: بكتاب الله. قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي”، وهذا الحديث في الحقيقة فيه ضعف، وستأتي إشارة إلى ذلك. ومما كتبه عمر إلى شريح القاضي: “إذا أتاك أمر فاقضِ بما في كتاب الله، فإن أتاك بما ليس في كتاب الله، فاقضِ بما سنَّ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم”، وفي رواية عنه: “إذا وجدت شيئًا في كتاب الله فاقضِ به، ولا تلتفت إلى غيره”. وقد بيَّن المراد من هذا في رواية أخرى: “انظر ما تبيَّن لك في كتاب الله، فلا تسأل عنه أحدًا، وما لم يتبيَّن لك في كتاب الله فاتبع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم”.
وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: “من عرض له منكم قضاء فليقضِ بما في كتاب الله، فإن جاءه ما ليس في كتاب الله، وكان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال به”.
وقد يعارض ما ذكرناه بما روي عن بعض العلماء: من أن السنة قاضية على الكتاب؛ إذ هي تبيِّن مجمله، وتقيد مطلقه، وتخصص عامه، فيرجع إليها، ويترك ظاهر الكتاب، وقد يحتمل نصُّ الكتاب أمرين فأكثر، فتعين السنة النبوية أحدهما، فيُعمل بها، ويترك مقتضى الكتاب؛ ألا ترى مثلًا أن آية السرقة قاضية بقطع كلِّ سارق، فخصَّتها السنة بمن سرق نصابًا محرزًا؟! وهي تفيد قطع اليد واليد تصدق من الأصابع إلى المرفقين، فخصَّتها السنة بالكوعين؟! وكذلك آيات الزكاة شاملة لكلِّ مال، فخصتها السنة بأموال مخصوصة؟!.
وقال الله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النّسَآءِ إِلاّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلّ لَكُمْ مّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] فخصَّصت السنة هذا العموم بنكاح المرأة على عمتها وخالتها، ومثل ذلك كثير.
– وهذا من شأنه أن نقول بتقديم السنة على الكتاب، وإلا؛ فمساواتها له.
– ويُجاب بأن عمل السنة في مثل هذه الحالات تُبيِّن مراد الله في كتابه، فهي -في آية السرقة- تُبيِّن أن المراد بالقطع، قطعهما إلى الكوعين لا المرفقين، وأن المراد بالسارق سارق نصاب مُحرز، فهي في هذه الحالة لم تُثبت حكمًا جديدًا، وإنما أوضحت وفسرت ما كان مجملًا، أو محتملًا. وهذا هو المراد بقول بعضهم: إن السنة قاضية على الكتاب -أي: مبينة له- لا أنها مقدمة عليه.
وقد يُعترض أيضًا بأن الأثر عن معاذ فيه مقال كثير، فقد قال الترمذي عنه: لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وإسناده ليس بمتصل، وهذا الأثر هو الذي ذكرته سابقًا، وأشرت بأن فيه ضعف، وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ: “كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ قال: بكتاب الله. قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم” هذا حديث في الحقيقة ضعيف؛ بل إن الجوزجاني -رحمه الله- عدَّه من الموضوعات، وقال: هذا حديث باطل جاء بإسناد لا يُعتمد عليه في أصلٍ من أصول الشريعة.
ويُجاب عن كلام هذا القائل مع التسليم بأن هذا الحديث فيه ضعف، نُجيب عن هذا الكلام فنقول: إن عمل أبي بكر وعمر، وابن مسعود وابن عباس، وغيرهم من أكابر الصحابة بالنُّقُول الثابتة عنهم، وعمل من بعدهم أيضًا من علماء السلف كافٍ عندنا للدلالة على ما نقول: من أن القرآن الكريم يأتي في المرتبة الأولى، وتليه بعد ذلك سنة النبي صلى الله عليه وسلم، مع إيماننا واعتقادنا أن السنة تُبيِّن، وتفصِّل، وتوضِّح أحكام الكتاب.
ولا شك في أن أحاديث الآحاد بما حثَّ بها من ظنون في طريق ثبوتها يجعلها في المرتبة الثانية بعد القرآن من حيث الثبوت، وأما من حيث الاجتهاد وفهم النصوص فلا بد من الرجوع إلى السنة قبل تنفيذ نصوص القرآن؛ لاحتمال تخصيص السنة لها، أو تقييدها، أو غير ذلك من وجوه الشرح، والبيان التي ثبتت للسنة، فهي من هذه الناحية متساوية مع القرآن الكريم من حيث مقابلة نصوصها بنصوصه، والتوفيق بينهما، والجمع حين يظهر شيء من التعارض، وهذا لا يُنازع فيه أحد ممَّن يقول بحجية السنة.
2. ضرب أمثلة ظاهرها التعارض بين القرآن الكريم والحديث، والجواب عنها:
قد تحدَّث الإمام الزركشي -رحمه الله، تبارك وتعالى- وعقد فصلًا أيضًا في كتابه (البرهان) قال فيه: فصلٌ: في وقوع التعارض بين الآية والحديث. ونبَّه عن شيء من ذلك، ودفع التعارض بين الآية والحديث.
وقد قال الإمام الزركشي -رحمه الله تبارك وتعالى-: قد يقع التعارض بين الآية والحديث، وهذا يجب أن يُعلم بأن هذا التعارض في الظاهر أو للمبتدئين، ولا بأس بذكر شيء للتنبيه لأمثاله:
– ومن ذلك قول الله -تبارك وتعالى-: وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ}، وقد صحَّ أن النبي صلى الله عليه وسلم شُجَّ يوم أحد، فهل ما أُصيب به النبي صلى الله عليه وسلم في يوم أحد يُعارض قول الله -تبارك وتعالى-: وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ} [المائدة: 67]؟ لا يعارض.
قد أجاب أهل العلم عن ذلك بجوابين:
أحدهما: أن هذا كان قبل نزول هذه الآية؛ لأن غزوة أحد كانت سنة ثلاثٍ من الهجرة، وسورة المائدة من أواخر ما نزل بالمدينة النبويِّة.
الثاني: بتقدير تسليم الأخير، أعني: أنه شُجَّ صلى الله عليه وسلم يوم أحد بعد نزول: {وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ} [المائدة:67]، فالمراد العصمة من القتل، وفيه تنبيهٌ على أنه صلى الله عليه وسلم يجب عليه أن يحتمل كلَّ ما دون النفس من أنواع البلاء، فما أشدَّ تكليف الأنبياء!.
– ومما ذكروا فيه التعارض أيضًا بين الآية والحديث ما جاء في قول الحق تبارك وتعالى: {الّذِينَ تَتَوَفّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 32] مع قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يدخل أحدكم الجنة بعمله)).
وأُجيب بوجهين:
أحدهما: ونُقل هذا عن سفيان، وغيره أنهم كانوا يقولون: النجاة من النار بعفو الله تبارك وتعالى، ودخول الجنة برحمة الله عز وجل، وانقسام المنازل والدرجات بالأعمال، ويدلُّ له حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ((إن أهل الجنة إذا دخلوها نزلوا فيها بفضل أعمالهم)) والحديث رواه الترمذي.
الثاني: الذي أجاب به أهل العلم عن التعارض الظاهر بين الآية والحديث، أنهم قالوا: إن الباء في الموضعين مدلولها مختلف -يعني: أن الباء في قوله الله تعالى: {ادْخُلُواْ الْجَنّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} تختلف عن قوله تعالى: ((لن يدخل أحدكم الجنة بعمله))- ففي الآية: باء المقابلة، وهي الداخلة على الأعراض، وفي الحديث: للسببية؛ لأن المعطي بعوضٍ قد يُعطى مجانًا، وأما المسبب فلا يُوجد بدون السبب. ومنهم من عكس هذا الجواب، وقال: الباء في الآية للسببية، وفي الحديث للعوض، وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((سدِّدُوا، وقاربوا، وأعلموا أن أحد منكم لن ينجو بعمله. قالوا: ولا أنت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته)).
– ومنه قوله تعالى مخبرًا عن خلق السموات والأرض: {إِنّ رَبّكُمُ اللّهُ الّذِي خَلَقَ السَمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتّةِ أَيّامٍ ثُمّ اسْتَوَىَ عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54]، فإنه يقتضي أن يكون يومًا من أيام الجمعة بقي لم يخلقْ فيه شيء، والظاهر من الأحاديث الصحاح أن الخلق ابتدأ يوم الأحد، وخلق الله عز وجل آدم يوم الجمعة آخر الأشياء، وهذا يستقيم مع الآية الشريفة.
ووقع في (صحيح مسلم): أن الخلق ابتدأ يوم السبت، وهذا بخلاف الآية، اللهم إلا أن يكون أراد في الآية الشريفة جميع الأشياء غير آدم، ثم يكون يوم الجمعة هو الذي لم يخلق فيه شيء ممَّا بين السماء والأرض؛ لأن آدم حينئذٍ لم يكن فيما بينهما.
وتتمَّة لبيان هذه المسألة والحديث عن هذا الأمر أذكر بعض الأمثلة التي ذكرها الإمام ابن قتيبة -رحمه الله، تبارك وتعالى- في كتابه النفيس (تأويل مختلف الحديث)، وهذا كتاب في الحقيقة عظيم، ذكر ودفع فيه -رحمه الله- التعارض الظاهر بين الأحاديث، كما ذكر في بعض المواطن الأحاديث التي زعم بعض الناس أنها تُخالف بعض آيات القرآن الكريم.
– ومن ذلك أن بعض الناس قالوا: إنه يُوجد حديث يُخالف كتاب الله -تبارك وتعالى، وهذا الحديث هو الحديث الذي أخرجه الترمذي وغيره، وفيه يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تعالى مَسَح على ظهر آدم عليه السلام وأخرج منه ذريته إلى يوم القيامة أمثال الذر، وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم؟ قالوا: بلى)) قالوا: هذا الحديث يُخالف قول الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبّكَ مِن بَنِيَ آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرّيّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىَ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بَلَىَ} [الأعراف: 172]؛ لأن الحديث يُخبر أنه أخذ من ظهر آدم، والآية فيها خبر أنه أخذ من ظهور بني آدم.
وقد أجاب الإمام أبو محمد بن قتيبة -رحمه الله، تبارك وتعالى- جوابًا جميلًا دفع فيه هذا التعارض قال فيه: إن ذلك ليس كما توهموا، بل المعنيان متَّفقان بحمد الله ومنه، صحيحان؛ لأن الكتاب يأتي بجمل يكشفها الحديث، واختصار تدل عليه السنة؛ ألا ترى أن الله تعالى حين مسح ظهر آدم عليه السلام على ما جاء في الحديث: ((فأخرج منه ذريته أمثال الذَّرِّ إلى يوم القيامة)) أن في تلك الذرية الأبناء، وأبناء الأبناء، وأبناءهم إلى يوم القيامة؛ فإذا أخذ من جميع أولئك العهد وأشهدهم على أنفسهم؛ فقد أخذ من بني آدم جميعًا من ظهورهم ذريتهم، وأشهدهم على أنفسهم؟!.
ومثل هذا: ما جاء في قول الله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمّ صَوّرْنَاكُمْ ثُمّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لاَدَمَ فَسَجَدُوَاْ إِلاّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مّنَ السّاجِدِينَ} [الأعراف: 11]، فجعل قوله: {ثُمّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لاَدَمَ} بعد “خلقناكم وصورناكم”، وإنما أراد بقوله تعالى: “خلقناكم وصورناكم” خلقنا آدم وصوَّرناه، {ثُمّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لاَدَمَ}، وجاز ذلك؛ لأنه حين خلق آدم خلقنا في صُلْبه، وهيَّأنا كيف شاء، فجعل سبحانه وتعالى خلقه لآدم خلقه لنا؛ إذ كنَّا منه، ومثل هذا مثل رجل أعطيته من الشاء ذكرًا وأنثى، وقلت له: قد وهبتُ لك شاء كثيرًا. تريد: أنِّي وهبت لك بهبتي هذين الاثنين من النتاج شاءً كثيرًا، وكان عمر بن عبد العزيز -رحمه الله، تبارك وتعالى- وهب لدُكَين الراجز ألف درهم، فاشترى به دُكين عدَّة من الإبل، فرمى الله تعالى في أذنابها بالبركة، فنَمَت، وكَثُرت، فكان دُكين يقول: هذه منائح عمر بن عبد العزيز، ولم تكن كلُّها عطاءه، وإنما أعطاه الآباء والأمهات فنسبها إليه؛ إذ كانت نتائج ما وُهب له. ومما يُشبه هذا قول العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه في رسول الله صلى الله عليه وسلم:
من قبلها طبت في الظلال وفي; مستودع حيث يُخْصَفُ الورق
يريد: طبت في ظلال الجنة، و”في مستودع”، يعني: الموضع الذي استودعه من الجنة؛ حيث يُخصف الورق، أي: حيث خُصف آدم وحواء -عليهما السلام- من ورق الجنة، وإنما أراد أنه صلى الله عليه وسلم كان إذ ذاك طيبًا في صلب آدم عليه السلام.
– حديثًا آخر ذكره الإمام ابن قتيبة -رحمه الله- وذكر من ظنَّ التعارض في كتاب الله، بين الآية والحديث، ذكروه حجه، ولذلك ذكره الإمام ابن قتيبة، وردَّ عليه -رحمه الله تبارك وتعالى- وهذا الحديث هو ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم: ((من ترك قتل الحيَّات مخافةَ الثأر؛ فقد كَفَر)) قالوا: هذا يناقض ويبطل قول الله -تبارك وتعالى-: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفّرْ عَنْكُمْ سَيّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مّدْخَلاً كَرِيماً} [النساء: 31] قالوا: هذا، وإن كان ذنبًا فهو من الصغائر، فكيف نُكفِّره به، يعني: ((من ترك قتل الحيَّات مخافةَ الثأر؛ فقد كَفَر))، وأنتم تَرَوْن من زنى ومن سرق إذا قال: “لا إله إلا الله” فهو مؤمن، وهو في الجنة، ثم تكفرون بترك قتل الحيات، وفي هذا اختلاف وتناقض.
والجواب عن ذلك: هو أنه ليس القصد بترك قتل الحيات، وأن ذلك يكون عظيمًا عند تركها، وأن هذا يخرج به الرجل إلى الكفر، وإنما العظيم أن يتركها يعني: يترك قتلها خشية الثأر، وكان هذا أمرًا من أمور الجاهلية؛ فليس القصد في الحديث مجرَّد ترك قتل الحيَّات، وإنما القصد فيه: هو تركها خشية الثأر، وهذا من أمور الجاهلية؛ لأن أهل الجاهلية كانوا يقولون: إن الجن تطلب بثأر الجاني إذا قتل؛ فربما قتلت قاتله، وربما أصابته بِخَبَل، وربما قتلت ولده، فأعلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هذا باطل، وقال: ((من صدَّق بهذا فقد كفر)) يُريد: بما أتينا به من بطلانه.
والكفر عند أهل السنة والجماعة صنفان:
أحدهما: الكفر بالأصل: كالكفر بالله تعالى، أو برسله، أو ملائكته، أو كتبه، أو بالبعث، وهذا هو الأصل الذي من كَفَر بشيء منه؛ فقد خرج عن جملة المسلمين، فإن مات لم يَرِثْهُ ذو قرابته المسلم، ولم يصلَّ عليه.
والآخر، وهو كفرٌ أصغر: وهو الكفر بفرع من الفروع على تأويل؛ كقوم مثلًا أنكروا خلق الله -تبارك وتعالى- لأفعال العباد، فهؤلاء لا يُقال عنهم بأنهم كفار، أو أنكروا المسح على الخفين، هذا لا يخرج به العباد من الإسلام، ولا يُقال لمن كفر بشيء من ذلك كافر؛ ولذلك نقول في الحديث السابق: ليس المراد بأنه يخرج من الإسلام إن كان مسلمًا إلى الكفر.
– وأيضًا هناك حديث زعموا أنه يكذِّب القرآن الكريم، وهذا الحديث هو ما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم: ((منبري هذا على تُرعة من تُرَع الجنة))، وأيضًا قال صلى الله عليه وسلم: ((ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة)) قالوا: هذا يُناقض قول الله عز وجل: {عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَىَ (14) عِندَهَا جَنّةُ الْمَأْوَىَ} [النجم: 14- 15]، كما يُناقض قوله: {وَسَارِعُوَاْ إِلَىَ مَغْفِرَةٍ مّن رّبّكُمْ وَجَنّةٍ عَرْضُهَا السّمَاوَاتُ وَالأرْضُ أُعِدّتْ لِلْمُتّقِينَ} [آل عمران: 133]، وقد جاء في الحديث أن الجنة في السماء السابعة، وهذا يُناقض أن هناك روضة من رياض الجنة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم.
ونردُّ عليهم فنقول: إنه لا يوجد هنا اختلاف أو تناقض؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُرِدْ بقوله صلى الله عليه وسلم: ((ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة)) أن ذلك بعينه روضة، وإنما أراد صلى الله عليه وسلم أن الصلاة في هذا الموضع والذكر فيه يؤدِّي إلى الجنة، فهو قطعة منها، وقوله: و((منبري هذا هو على ترعة من ترع الجنة)) يعني: يريد أن يقول بأن منبره صلى الله عليه وسلم على ترعة من ترع الجنة، ولا يريد بذلك أن الجنة أسفل منه.
ولعلَّ ما يوضِّح ذلك الحديث الذي جاء عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه قال: ((خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ارتعوا في رياض الجنة. قالوا: وما رياض الجنة، يا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: مجالس الذكر)).
وهذا كما قال في حديث آخر: ((عائد المريض على مَخَارف الجنة))، والمَخَارِف: الطرق، ومنه قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “تركتكم على مثل مَخْرَفَةِ النعم”، أي: طريقها، وإنما أراد عيادة المريض تؤدِّي إلى الجنة، فكأنه طريق إليها، وكذلك مجالس الذكر تؤدِّي إلى رياض الجنة فهي منها، وكذلك قول عمار بن ياسر رضي الله عنه: “الجنة تحت البَارِقَة” يعني: السيوف، و((الجنة تحت ظلال السيوف))، يُريد: أن الجهاد يؤدِّي إلى الجنة، فكأن الجنة تحته، وقد يذهب قوم إلى أن ما بين بيته ومنبره صلى الله عليه وسلم حِذَاء روضة من رياض الجنة، وأن منبره صلى الله عليه وسلم حذاء تُرعة من ترع الجنة، فجعلهما من الجنة إذا كانا في الأرض حذاء ذينك في السماء، والأول أحسن، كما ذكر الإمام حافظ بن قتيبة -رحمه الله، تبارك وتعالى.