Top
Image Alt

القيمة الفنية والأدبية للنقد الجاهلي

  /  القيمة الفنية والأدبية للنقد الجاهلي

القيمة الفنية والأدبية للنقد الجاهلي

النقد في العصر الجاهلي تتمثل قيمته الفنية في أنه يدل على نشأة هذا النقد، ويدل على طريقة الجاهليين في تذوقهم للكلام ونقدهم إياه، ويحمل في طياته علامات تدل على طبيعة العصر وطبيعة الحياة، وطبيعة الثقافة التي كانت متاحة للجاهليين، والتي كانوا يصدرون عنها في تقويمهم للأشعار، واستهجانهم أو استحسانهم للشعر خاصة والأدب عمومًا.

كما يدل هذا النقد على الفطرة اللغوية الصحيحة، والذوق العالي الذي كان يتميز به الجاهليون، ومن هنا نعرف أن العرب الجاهليين بنظرهم في الكلام وتمييزهم الجيد من الرديء، ومن أحكامهم النقدية التي رويت لنا، هذا كله يدل على أن العرب كانوا مهيئين بذلك كله لاستقبال معجزة القرآن الكريم، التي أيقن العرب بفطرتهم وذوقهم وقدرتهم على استحسان الكلام أو استهجانه، أن هذا القرآن ليس من كلام البشر، وأنه لا يمكن أن يكون في وسعهم، ولا وسع غيرهم من أصحاب البلاغة والبيان الإتيان بمثل هذا القرآن، وأنهم مهما أُوتوا من القدرة على التفتيش في الكلام، وبيان ما يمكن أن يعنّ لهم من مآخذ على أي كلام من كلامهم، إلا أنهم أمام القرآن وقفوا عاجزين لم يستطيعوا أن يقولوا فيه شيئًا، ولما كانت تعجزهم الحيلة كانوا يقولون: إنه سحر، إنه شعر، ثم لم يلبثوا أن اعترفوا بأنه كلام الله المعجز، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، ودخلوا بعد ذلك في دين الله أفواجًا.

وقد سار النقد الأدبي في العصر الجاهلي في اتجاهات ثلاثة؛ فنجد من هذه الاتجاهات: الاتجاه اللغوي، والاتجاه الذي يسير في الجانب المعنوي، والاتجاه الذي يهتم بالتناسق في النغم.

والشواهد التي وردت في الكتب التي أرّخت لحركة الشعر العربي والنقد في العصر الجاهلي، كلها تدور حول هذه المحاور أو تسير في هذه الاتجاهات، ونبدأ في تفصيل الكلام عن هذه الاتجاهات بالحديث عن النقد اللغوي.

تذكر الروايات أن الشاعر طرفة بن العبد كان غلامًا حدثًا لم ينضج بعد في مجال الشعر، ومع ذلك عُرف بذوقه العالي وبفطرته اللغوية الصحيحة، حيث كشف عيبًا وقع فيه شاعر معاصر له هو المسيب بن علس في رواية أو المتلمس في رواية أخرى، والبيت الشاهد في هذا المقام هو قول الشاعر:

وقد أتناسى الهمّ عند احتضاره


*  بناج عليه الصيعرية مكدم


 ومعنى البيت: الشاعر يقول: إنه أحيانًا يحاول التغلب على همومه بأن يركب جمله ويرتحل عليه، وهذا الأمر -أمر الرحلة على الجمل أو على الناقة من أجل تبديد الهموم أو تناسي الهموم- أمر مذكور عند هؤلاء الشعراء الجاهليين كثيرًا، والناجي في قوله: “بناج عليه الصَّيْعَرِيَّة مُكْدَم” هنا هو الجمل، ومكدم أي: قوي، و”عليه الصيعرية” قالوا: الصيعرية: سمة أو علامة كانت توجد في رقبة الناقة تميزها، وهذا الشاعر قال:

وقد أتناسى الهم عند احتضاره

*  بناج عليه الصيعرية مكدم

فأثبت هنا الصفة التي تكون في الناقة للجمل، فلما سمعه طرفة قال: “استنوق الجمل” أي: صار الجمل في كلام هذا الشاعر ناقة، لم يزد طرفة على هذا القدر، وهذا القول الموجز ينطوي على مؤاخذة على هذا الشاعر، الذي أثبت صفة الناقة للبعير أو للجمل، فكأنما طرفة يخطئّه في قوله، ويلفت نظره إلى أنه أثبت صفة الناقة للجمل، وهذا لا يصح.

إذًا: موضع النقد “بناج عليه الصيعرية”؛ إذ الصيعرية صفة خاصة بالناقة، هكذا كان يعرف طرفة؛ ولذلك عاب البيت بقوله: “استنوق الجمل”.

فالنقاد يقولون: إن هذا البيت فاسد؛ لأنه أسند صفة لغير ما تسند إليه، ومع ذلك عندما نراجع كتب اللغة التي تذكر اللفظ وتشرحه، نجدهم يقولون: الصيعرية: سمة في عنق الناقة خاصة، وقال أبو علي في (التذكرة): “الصيعرية: وسم لأهل اليمن، لم يكن يوسم بها إلا النوق، وقول المسيب بن علس:

وقد أتناسى الهم عند احتضاره
 
*  بناج عليه الصيعرية مكدم

يدل على أنه قد يوسم بها الذكور، وقال أبو عبيد: الصيعرية: سمة في عنق البعير”.

ومن هذا النص اللغوي في شرح معنى الصيعرية؛ يفهم أن أهل اليمن وحدهم هم الذين كانوا يميزون النوق بهذه العلامة، وأن أهل نجد وتهامة والأعراب في البادية لم يكونوا يأخذون بعادة اليمنيين في تمييز النوق خاصة بعلامة في رقابها، فالصيعرية علامة يمكن أن توجد في عنق البعير أيضًا.

فإذا صح ذلك يكون نقد طرفة بن العبد لهذا البيت، على ما جرى به العرف في محيطه -أي: محيط طرفة- من وسم النوق خاصة.

ويَرِد على هذا النقد اعتراض؛ لأن المتلمس أو المسيب بن علس الشاعر الذي نُقد في هذا البيت، كان من البيئة ذاتها التي منها طرفة، فكيف يكون هذا العرف معروفًا لطرفة، وغير معروف للمتلمس أو المسيب بن علس، الذي وقع في هذا الخطأ؟

على أي حال، هذه رواية مشهورة ورد ذكرها في (العقد الفريد) لابن عبد ربه، إذ يقول: “ومما أدرك على المتلمس قوله:

وقد أتناسى الهم عند احتضاره

*  بناج عليه الصيعرية مكدم

والصيعرية: سمة للنوق، فجعلها صفة للفحل، وسمعه طرفة وهو صبي ينشد هذا البيت، فقال: “استنوق الجمل”، فضحك الناس وصارت مثلًا -أي: صارت عبارة “استنوق الجمل” مثلًا يضرب عندما تسند صفة الذكر للأنثى”.

ولطرفة بن العبد بيت شبيه بهذا البيت الذي نقده، ولكنه تفادى أن يقع في العيب الذي وقع فيه صاحب البيت المذكور، فطرفة يقول:

 وإني لأمضي الهم عند احتضاره

 
*  بعوجاء مرقال، تروح وتغتدي


والمعنى في هذا البيت هو المعنى في البيت الذي قبله:

وقد أتناسى الهم عند احتضاره

 
*  بناج عليه الصيعرية مكدم


ولكن طرفة في بيته قال: “وإني لأمضي الهم عند احتضاره بعوجاء” أي: ناقة، “مرقال تروح وتغتدي”؛ فلم يصف الناقة بأن عليها الصيعرية، فلم يقع فيما وقع فيه المتلمس أو المسيب الذي نقده طرفة بقوله: “استنوق الجمل”.

ويُلاحظ أن الروايات التي وردت في هذا الاتجاه -وهو النقد اللغوي- قليلة جدًّا، وهذا أمر طبعي وميسور الفهم؛ لأن العرب كانوا يمتلكون ناصية البيان، وكان شعراؤهم قلّما يُخطئون في تعبير لغوي؛ بسبب ما فُطروا عليه من السليقة البيانية المتميزة التي جعلتهم أهلًا لتنزّل القرآن الكريم بلغتهم، ومخاطبتهم بهذا البيان المعجز.

فنحن إذًا نستطيع أن نفهم بيسر قلة الروايات التي وردت في مجال النقد اللغوي، ونذكر أن بعض الدارسين شكّك في الروايات التي وردت في هذا النقد، فشكك في رواية طرفة: “استنوق الجمل” هذه، وهذا الشك لا يعدو أن يكون مشابهًا للشك الذي قال به بعض الدارسين أو بعض الباحثين فيما يتعلق بالشعر الجاهلي.

وفي الحقيقة ليس عند هؤلاء الذين يشكون في هذه الروايات أدلة قوية تساعدهم على المضيّ في شكهم هذا، وقد قال بعضهم: إن هذه المرويات تدل على أن هذا النقد كان نقدًا ساذجًا لا جدوى فيه؛ لأنه لا يفصح عن شيء يفهمه القارئ ويستريح إليه، وهم يتناسون أن الجاهلي كان يكتفي باللمحة، ويستغني بالتلويح عن التصريح. وبالإيجاز عن الإطناب والإسهاب، اعتمادًا على أن السامعين له يفهمون مضمون ما يقول، ويعرفون ما طوي فيه من تفاصيل، فهو ليس في حاجة إلى شرح وإطالة، وكذلك الجمهور الذي يتلقى عنه ليس في حاجة إلى فهم، ولا إلى إطالة، ولا إلى شرح، بالإضافة إلى أنهم كانوا في هذه البيئة الفطرية الأولى ليسوا من أهل الفلسفات، ولا يميلون إلى الشرح والاستطراد، والإكثار من التنظير والتمثيل، فكل ذلك أتى في مراحل متأخرة من الزمان.

error: النص محمي !!