الكبائر، وحديث “أنؤاخذ بما عملنا؟”، وحكم المرتد والمرتدّة
كتاب استتابة المُرتدِّين:
1. “باب إِثْمِ مَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ وَعُقُوبَتِهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ”:
أ. حديث عبد الله بن عمرو في الكبائر:
قال الإمام البخاري: حدثني محمد بن الحسين بن إبراهيم، قال: أخبرنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا شيبان، عن فراس، عن الشّعبي، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: ((جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ما الكبائر؟ قال: الإشراك بالله، قال: ثم ماذا؟، قال: ثم عقوق الوالديْن، قال: ثم ماذا؟ قال: اليمين الغَموس، قلتُ: وما اليمين الغموس؟ قال: الذي يقتطع مالَ امرئٍ مسلم هو فيها كاذب)).
ضبط العلماء معنى “الكبائر”: بأنها: كلّ ذنْب قُرِن به وعيدٌ أو حدٌّ أو لعْنٌ، ولا شكّ أن أكبر الكبائر -كما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: الإشراك بالله، وأن تشرك بالله شيئًا في الاعتقاد أو في العبادة، ثم عقوق الوالديْن.
وحقيقة العقوق المحرّم شرعًا: أن يفرِّط المرء في حقٍّ مِن حقوق الوالديْن التي يأمُر بها الشرع؛ لكن لا يجب طاعتهما في كلِّ ما يأمران به وينهيان عنه باتّفاق العلماء، إذا كان ما يأمران به أو ينهيان عنه ممّا يضرّ الإنسان في دِينه، أو نصّ الشرع على ألا يطيعهما فيه، في مثل قوله عز وجل: {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} [لقمان: 15].
فينبغي على المرء أن لا يخالف والديْه فيما يُبيحه الشرع له أن يُطيعهما فيه؛ حتى إن الشرع حرّم على الولد الجهاد بغير إذْنهما، لِما يشُق عليهما مِن توقّع قتلِه أو قطْع عضو من أعضائه، ولشدّة تفجُّعهما على ذلك، ولْيضع المرء نُصْب عينيْه قولَه عز وجل: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 23،24].
أمّا اليمين الغموس، فهو ما فسّر الحديث، وهو: الذي يَقتطِع مالَ امرئ مسلم، أي يقتطع المرء به مالَ مسلم هو فيها كاذب؛ فيأخذ هذا المال بغير حق، ارتكانًا وارتكازًا إلى هذا اليمين، فهذا من الكبائر التي يعاقِب الله عليها عقابًا شديدًا، وخاصةً أنه جاء بعْد الإشراك بالله سبحانه وتعالى، ثم بعْد عقوق الوالدين.
ب. حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: “أنؤاخذ بما عمِلْنا في الجاهلية؟”
قال الإمام البخاري رحمه الله: حدثنا خلاد بن يحيى، قال: حدثنا سفيان، عن منصور والأعمش، عن أبي وائل، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رَجل: يا رسول الله، أنؤاخَذ بما عمِلنا في الجاهلية؟ قال: ((مَن أحسَن في الإسلام لَم يؤاخَذ بما عمِل في الجاهلية)).
قوله: ((مَن أساء في الإسلام أُخِذ بالأوّل والآخِر))، قال الخطابي: ظاهرُه: خلاف ما أجمعت عليه الأمّة، وجاء في الحديث الصحيح: ((أنّ الإسلام يجُبّ ما قبْله)): يَقطع ما قبْله، وقال الله سبحانه وتعالى: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38].
ووجْه هذا الحديث: أنّ الكافر إذا أسلَم لم يؤاخَذْ بما مضى، فإن أساء في الإسلام غاية الإساءة، وركِب أشدّ المعاصي وهو مستمرّ الإسلام، فإنه إنما يؤاخَذ بما جَناه من المعصية في الإسلام، ويُبكَّت بما كان منه في الكفر، كأنْ يقال له: “ألست فعلتَ كذا وأنت كافر؟ فهلّا منعك إسلامك عن معاودة مثله؟”.
قال ابن حجر: والأَوْلى: قول غيرِه: إنّ المراد بالإساءة: الكُفر؛ لأنه غاية الإساءة، وأشَدّ المعاصي، فإذا ارتدّ ومات على كفْره كان كمن لم يُسلِم؛ فيعاقَب على جميع ما قدّمه.
وإلى ذلك أشار البخاري بإيراد هذا الحديث بعد حديث: ((أكبر الكبائر الشِّرك))، وأورَد كُلًّا في “أبواب المرتدِّين”.
ونقل ابن بطال عن مهلب، قال: معنى حديث الباب: مَن أحسَن في الإسلام بالتّمادي على محافظته، والقيام بشرائطه، لم يؤاخَذ بما عمِل في الجاهلية، ومَن أساء في الإسلام -أي في عَقده بترك التوحيد- أُخِذ بكلِّ ما أسلفَه.
قال ابن حجر: وعن بعض العلماء، معنى: ((مَن أحسَن في الإسلام))، أي: أسلَم إسلامًا صحيحًا لا نفاق فيه ولا شك، و((مَن أساء في الإسلام))، أي: أسلم رياءً وسُمعة؛ وبهذا جزَم القرطبي.
2. “باب: حُكم المُرتدّ والمُرتدّة”:
حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما: “لو كنتُ أنا لم أُحرِّقْهم…”:
قال الإمام البخاري رحمه الله: حدثنا أبو النعمان محمد بن الفضل، قال: حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب عن عكرمة، قال: أُتِي عليٌ رضي الله عنه بزنادقة، فأحرَقَهم، فبلَغ ذلك ابنَ عباس، فقال: “لو كنتُ أنا لم أُحرِّقْهم؛ لنهْي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تعذِّبوا بعذاب الله))، ولَقتلتُهم، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن بدّل دِينَه فاقتلوه!))”.
ورَدَ في روايات لهذا الحديث: أنّ عليًّا رضي الله عنه قد استتاب هؤلاء قبْل أن يَفعل بهم ما فَعل.
قال ابن بطال: اختُلف في استتابة المُرتدّ، فقيل: يُستتاب، فإن تاب وإلّا قُتل، وهو قول الجمهور.
وإجماع الصحابة على أن المرتد يستتاب ثلاثة أيام، فإن تاب وإلا قتل.
وقوله: “أُتِي علي”، هو: ابن أبي طالب، وقد اختلف لنقله في الدين وقع لهم مع علي ما وقع، فقد جاء في رواية عن سفيان بلفظ : “حَرّقَ المُرتدِّين”، يعني: أنّ هؤلاء الذين حرّقهم كانوا مُرتدِّين، وعند ابن أبي شيبة مِن وَجه آخر: “كان أناس يعبدون الأصنام في السِّرّ”.
وزعم بعضهم: أنّ الذين أحْرقَهم عليٌ: طائفة من الروافض، ادّعَوْا فيه الإلهية، وهم: “السَبئيّة”، وكان كبيرهم: عبدَ الله بنَ سبإ، وكان يهوديًّا ثم أظهر الإسلام، وابتدَع هذه المقالة.
وقوله: “أُتِي عليّ بزنادقة”، معنى: “الزنادقة”: يُطلق على كلِّ مَن أسرَّ الكفر وأظهر الإسلام، وقد اختلف النقَلة في الذين وقَع لهم مع عليّ ما وقع.
واشتُهِر في صدر الإسلام من الزنادقة: الجَعد بن درهم، فذبحه خالد القسري في يوم عيد الأضحى، ثم كثُروا في دولة المنصور، وأَظهرَ له بعضهم معتقَده، فأبادهم بالقتل، ثم ابنه المَهدي، فأكثر مِن تتبّعِهم وقتلِهم.
وقول ابن عباس: “لِنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تعذِّبوا بعذاب الله!))”، أي: لنهيهصلى الله عليه وسلم عن القتل بالنار، ورَد مِن حديث أبي هريرة: بعثَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((إنْ وجدْتُم فلانًا وفلانًا فأحرِِقوهما بالنار..)) الحديث.
وفيه: ((إنّ النار لا يعذِّب بها إلّا الله))، يعني: بعَد أن أمَرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يَحرِقوا فلانًا وفلانًا، ومنهم: هَبّار بن الأسود، الذي أسلَم وحسُن إسلامه، بعد ذلك، قال لهم: ((لا تَحرِقوهم! لا تَحرِقوهم!))، أو ((لا تَحرِقوهما! لأنه لا يعذِّب بالنار إلّا الله))، أو: ((إلّا ربُّها)).
قوله صلى الله عليه وسلم: ((مَن بَدّل دِينه فاقتلوه!))، أي : إن لم يرجع، وذلك حيث كتب عمر في أمر المرتد فقال: “هلا حبستموه ثلاثة أيام، وأطعتموه في كل يوم رغيفا، لعله يتوب، فيتوب الله عليه”، ولم ينكر ذلك أحد من الصحابة، فكان اجماعا سكوتيا.
واستُدل بهذا الحديث على قتْل المُرتدّة كالمرتدّ، وخصَّه الحنفية بالرجُل، وتمسَّكوا بحديث النّهي عن قتل النساء، وحمَل الجمهورُ النّهيَ على الكافرة الأصلية إذا لم تباشِر القتال ولا القتل.
واحتجّوا أيضًا بأن “مَن” الشرطية لا تعمّ المؤنَّث في قوله: ((مَن بَدّل دِينَه فاقتلوه!))، وتُعقِّب بأنّ ابن عباس -راوي الخَبر- قد قال: “تُقتل المُرتدّة”. وقتَل أبو بكر في خلافته امرأةً ارتدّت، والصحابة متوافرون، فلم ينكِر ذلك عليه أحَد.
وقد وقع في حديث معاذٍ: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لَمّا أرسله إلى اليَمن قال له: ((أيَّما رَجل ارتدّ عن الإسلام فادْعُه؛ فإن عاد وإلّا فاضرِب عنقَه. وأيَّما امرأةٍ ارتدّت عن الإسلام فادْعها؛ فإن عادت وإلّا فاضرب عنقها)) وسَنده حَسنٌ، وهو نَص في موضع النزاع، فيجب المصير إليه.
3. “باب: قتْل مَن أبَى قَبول الفرائض، ومن نُسِبوا إلى الرِّدة”:
حديث أبي هريرة رضي الله عنه:
قال الإمام البخاري: حدثنا يحيى بن بكير، قال: حدثنا الليث, عن عُقيل، عن ابن شِهاب قال: أخبرني عُبيد الله بن عبد الله بن عتبة، أنّ أبا هريرة قال: لمّا تُوفِّي النبي صلى الله عليه وسلم واستُخلِف أبو بكر، وكَفر مَن كفر مَِن العرب، قال عمر: “يا أبا بكر! كيف تقاتِل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أُمرْتُ أن أقاتِل الناس حتى يقولوا: “لا إله إلّا الله”، فمن قال: “لا إله إلّا الله” عَصَم منّي مالَه ونفسَه، إلّا بحقِّه؛ وحسابُه على الله))؟”.
قال أبو بكر: “والله لأقاتِلَنّ مَن فَرّق بين الصلاة والزكاة؛ فإنّ الزكاة حقُّ المال، والله لو مَنعوني عَناقًا كانوا يؤدّونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتُهم على منْعها”، قال عُمر: “فوالله ما هو إلّا أن رأيتُ أن قد شَرح الله صدْرَ أبي بكر للقتال، فعرفْتُ أنه الحق”.
ونقف عند الجزء الثاني من هذا الحديث، وهو قوْله: قال أبو بكر: “والله لأقاتِلنّ مَن فرّق بين الصلاة والزكاة…” إلى آخِره، وقوفًا خفيفًا.
قول أبي بكر: “لأُقاتلنّ مَن فَرّق بين الصلاة والزكاة”، المراد بالفَرْق: مَن أقرّ بالصلاة وأنكَر الزكاة جاحدًا أو مانعًا، مع الاعتراف بها.
وإنما قاتَلهم الصِّديق ولم يَعذُرهم بالجهل؛ لأنهم نَصَبوا القتال، فجهَّزَ إليهم مَن دعاهم إلى الرجوع، فلما أَصرُّوا قاتَلَهم، وقوله: “والله لو منعوني عَناقًا”، يعني: لو منعوني شيئا قليلا، لقاتلتهم عليه، مما هو واجب عليهم أن يؤدوه.
قال عمر: “فوالله ما هو إلّا أن رأيتُ أنّ قد شَرح الله صدرَ أبي بكر للقتال، فعرَفتُ أنه الحق”، أي: ظهر له مِن صِحّةِ احتجاجه، لا أنه قلّده في ذلك.
وفي هذا الحديث مِن الفوائد:
- الاجتهادُ في النوازل، وردُّها إلى الأصول، والمناظرةُ على ذلك، والرجوعُ إلى الراجح.
- وفيه: الحَلِف على الشيء لتأكيده.
وفيه: مَنْع قتْل مَن قال: “لا إله إلا الله”، ولو لم يَزِد عليها، وهو كذلك، لكنْ هل يصير بمجرَّد ذلك مسْلمًا؟
الراجح: لا، بل يجِب الكفُّ عن قتْله حتى يُختبَر؛ فإنْ شَهد بالرسالة والتزم أحكام الإسلام حُكِم بإسلامه، وإلى ذلك الإشارةُ بالاستثناء به بقوله: ((إلّا بحقِّه)).
قال القاضي عياض: يُستفاد مِن هذه القصة: أن الحاكم إذا أدّاه اجتهادُه في أمْر لا نَصّ فيه إلى شيء، تجِب طاعتُه فيه، وتَسُوغ له مخالفةُ الذي قبْلَه في ذلك؛ لأنَ عمرَ أطاع أبا بكر فِيما رأى مِن حقّ مانِع الزكاة، مع اعتقادِه خلافَه، وقال الخطابي: في الحديث: أَنّ مَن أظهَر الإسلام أُجرِيتْ عليه أحكامُه الظاهرة، ولو أسرَّ الكفر في نفْس الأمر.