Top
Image Alt

الكتابة في العصر الأموي: موضوعاتها، وخصائصها الفنية

  /  الكتابة في العصر الأموي: موضوعاتها، وخصائصها الفنية

الكتابة في العصر الأموي: موضوعاتها، وخصائصها الفنية

أما الكتابة: فقد ازدهرت ازدهارًا عظيمًا في العصر الأموي بسبب الظروف الطارئة التي جدت على نظام الدولة الإسلامية، واستقرار الحكم في يد الأمويين، وحاجة الأمصار المختلفة إلى الكتابة بين ولاتها وبين الخليفة، وظهرت الكتابة الديوانية إلى جانب كتابة الرسائل التي كانت معروفة منذ عهد النبي صلى الله عليه  وسلم ولقد ظلت كتابة الرسائل على ما هي سائرة عليه، وكان لكل خليفة كاتب رسائل يتولى الخليفة بنفسه إملاءها عليه، وكانت هذه الرسائل تعبر عن أصحابها من الخلفاء والولاة والأمراء، ولم يظهر للكتاب شخصية مستقلة عن شخصية الخليفة أو الأمير الذي يمليه، إلا في عهد سالم مولى هشام بن عبد الملك وكاتبه على الرسائل؛ إذ كان ينوب عن الخليفة في كثير منها، ويزين بعض الرسائل بما يدل على أنه هو منشؤها، وبهذا بدأت تظهر على يديه صناعة الكتابة الإنشائية ذات الصبغة الفنية، والنظم والقيود، ولكنها لم تثمر ثمرتها الناضجة إلا على يد تلميذه عبد الحميد بن يحيى الذي عُرف فيما بعد بعبد الحميد الكاتب.

ولقد مرت الكتابة الفنية الإنشائية بطورين:

الطور الأول: من قيام الدولة إلى عهد عبد الملك، وكانت الكتابة فيه تسير على نهجها في صدر الإسلام من السهولة والإيجاز، والوضوح وعدم التكلف، وخلوها من عبارات التفخيم، واحتذائها حذو القرآن، وكان أغلبها يملى ارتجالًا، وكانت الرسالة تسير على منوال الخطبة، وتشبهها.

الطور الثاني: يبدأ من عهد الوليد بن عبد الملك إلى آخر حياة العصر الأموي، وقيل: إن الوليد هو أول من جود القراطيس، وجلل الخطوط، وفخم المكاتبات، وتبعه من بعده الخلفاء إلا عمر بن عبد العزيز ويزيد بن الوليد؛ فإنهما جريا في المكاتبات على طريقة السلف.

وقد اتسمت الكتابة في هذا الطور بالتدرج في التأنق والصنعة، والإطناب، وإشراق البيان، وحسن الديباجة؛ حتى صارت صناعة فنية لها أصول وقواعد، وكان ذمامها بأيدي الموالي الذين دخلوا في الإسلام واختلطوا بالعرب في الأقاليم الإسلامية، كالشام والحجاز والعراق، وكان هؤلاء الموالي يجمعون إلى الثقافة العربية الإسلامية ثقافتهم الأولى؛ كالفارسية واليونانية وغيرهما من الثقافات، ولذلك ظهرت في كتاباتهم آثار من هذه الثقافات الفارسية، أو اليونانية أو غيرها. وكان منهم سالم مولى هشام بن عبد الملك وأستاذ عبد الحميد الكاتب وأحد الواضعين لنظام الرسائل وصنعة الكتابة.

وقد أثر سالم مولى هشام في تلميذه عبد الحميد، واستطاع عبد الحميد أن يضيف إلى ما تعلمه من أستاذه سالم، وكان عبد الحميد يجيد الفارسية كما يُجيد العربية، وكان مثقفًا بثقافة اليونان، وأفاد من صحبته لابن المقفع؛ فاستطاع من خلال هذه الثقافات جميعًا أن يبتكر في صناعة الكتابة أمورًا من أهمها: الإيجاز في غير إخلال، والإطناب في غير إملال؛ حتى قيل: إنه كان يكتب في سطر واحد ما يكتبه في صفحات، ولقد روي أنه كان كتب إلى أبي مسلم الخراساني حين أظهر الدعوة لبني العباس كتابًا يستميله فيه، وقال لمروان: لقد كتبت كتابًا متى قرأه بطل تدبيره، فإن يك ذاك، وإلا فالهلاك. وكان الكتاب لكبر حجمه يُحمل على بعير؛ فلما ورد الكتاب على أبي مسلم أمر بإحراقه، ولم يقرأه وكتب على جذاذة منه:

محا السيف أسطار البلاغة وانتحى

*عليك ليوث الغاب من كل جانب

ومن إيجازه قوله موصيًا بشخص: “حق موصل كتابي إليك كحقه عليّ إذ جعلك موضعًا لأمله، ورآني أهلًا لحاجته؛ فصدق أمله”.

وطلب مروان أن يكتب لعامل أهدى إليه عبدًا أسود؛ فكتب إليه: “لو وَجَدّت لونًا شرًّا من السواد وعددًا أقل من الواحد لأهديته”.

ومنها كذلك أنه أطال في الفواتح والخواتيم، بما يُعد جديدًا في هذا العصر؛ كالإتيان بكثير من التحميدات في أساليب متنوعة، وصور مختلفة. وكالبدء بـ”بسم الله” ثم إتباعها بـ”الحمد لله” فاصلًا بينهما بـ”أما بعد”. وفي الخواتيم التي كانت قاصرة على السلام أطال أيضًا، ومن ذلك أنه أكثر من الرسائل الإخوانية، ويراد بها الرسائل التي تكون بين الناس، خاصة الأصدقاء في عتاب أو شوق أو شكر، أو تهنئة، أو تعزية،… وما إلى ذلك. ومن ذلك أيضًا أنه طرق في كتاباته موضوعات جديدة، وعالج فيها معاني لم تعهد لكاتب قبله.

ولنرجع بعد ذلك إلى نماذج من الرسائل التي احتفظت بها كتب الأدب؛ لنقف عند بعضها من هذه النماذج ما كتبه معاوية إلى علي رضي الله  عنه  ما يحاول أن يترضاه ويستميله ويأسف على ما حدث بينهما من حروب كتب يقول:

“أما بعد: فلو علمنا أن الحرب تبلغ بنا وبك ما بلغت؛ لم يجنها بعضنا على بعض، وإنا وإن كنا قد غُلبنا على عقولنا؛ فقد بقي لنا منها ما نرُمّ به ما مضى، ونصلح ما بقي، وقد كنت سألتك الشام على أن تلزمني لك طاعة؛ وأنا أدعوك اليوم إلى ما دعوتك إليه أمس، فإنك لا ترجو من البقاء إلا ما أرجو، ولا تخاف من القتال إلا ما أخاف، وقد والله رقّت الأجناد وذهبت الرجال، ونحن بنو عبد مناف وليس لبعضنا على بعض فضل يستذلّ به عزيز ويسترقّ به حر، والسلام”.

فرد عليه علي بن أبي طالب بقوله:

“من علي بن أبي طالب إلى معاوية بن أبي سفيان، أما بعد: فقد جاءني كتابك تذكر فيه أنك لو علمت أن الحرب تبلغ بنا وبك ما بلغت؛ لم يجنها بعضنا على بعض، وأنا وإياك نلتمس منها غايةً لم نبلغْها بعد، فأما طلبك مني الشام؛ فإني لم أكن أعطيك اليوم ما منعتك أمس، وأما استواؤنا في الخوف والرجاء؛ فلستَ بأمضى على الشك مني على اليقين، وليس أهل الشام على الدنيا بأحرص من أهل العراق على الآخرة. وأما قولك: نحن بنو عبد مناف؛ فكذلك نحن، وليس أمية كهاشم، ولا حرب كعبد المطلب، ولا أبو سفيان كأبي طالب، ولا الطليق كالمهاجر، ولا المبطل كالمحق، وفي أيدينا فضل النبوة التي قتلنا بها العزيز وبعنا بها الحر، والسلام”.

ومن نماذج رسائلهم أيضًا ما كتبه محمد بن الحنفية إلى عبد الملك بن مروان يبايعه لما قُتل بن الزبير، كتب يقول:

“إني اعتزلتُ الأمة عند اختلافها فقعدتُ في البلد الحرام الذي مَن دخله كان آمنًا؛ لأحْرزَ ديني وأمنعَ دمي، وتركتُ الناسَ: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلا} [الإسراء: 84] وقد رأيتُ الناسَ قد اجتمعوا عليك، ونحن عصابة من أمتنا لا نُفارق الجماعة، وقد بعثتُ إليك منّا رسولًا ليأخذ لنا منك ميثاقًا ونحن أحق بذلك منك. فإن أبيتَ فأرضُ اللّه واسعة، والعاقبة للمتقين”.

فرد عبد الملك على محمد بن الحنفية بقوله:

“قد بلغني كتابُك بما سألتَه منِ المِيثاق لك وللعصابة التي معك؛ فلك عهد اللهّ وميثاقه أن لا تُهاج في سلطاننا غائبًا ولا شاهدًا ولا أحد من أصحابك ما وَفّوْا ببيعتهم؛ فإن أحببتَ المُقام بالحجاز فأقم، فلن نَدع برك وصِلتك، وإن أحببتَ المُقام عندنا فاشخَص إلينا، فلن نَدع مواساتك. ولعمري لئن ألجأناك إلى الذهاب في الأرض خائفًا؛ لقد ظَلمناك وقَطعنا رَحِمك. فاخرُج إلى الحَجاج فبايع؛ فإنك أنت المحمود عندنا دينًا ورأيًا، وخيرٌ من ابن الزبير وأرضى وأتقى”.

ومن رسائل هذا العهد أيضًا: رسالة الحجاج التي أرسل بها إلى قطري بن الفجاءة، يقول فيها:

“سلام عليك، أما بعد: فإنك مرقت من الدين مروق السهم من الرمية، وقد علمت حيث تجرثمت ذاك أنك عاص لله ولولاة أمره، غير أنك أعرابي جلف، أُمي تستطعم الكسرة، وتستشفي بالتمرة، والأمور عليك حسرة، خرجت لتنال شبعة، فلحق بك طعام، صلوا بما صليت من العيش؛ فهم يهزون الرماح، ويستنشئون الرياح، على خوف وجهد من أمورهم، وما أصبحوا ينتظرون أعظم مما جهلوا معرفته، ثم أهلكهم الله بنزحتين. والسلام”.

وقد كان قطري بن الفجاءة هذا من زعماء الخوارج، والرسالة التي أرسلها إليه الحجاج فيها وعيد وتهديد، وقد استخدم بعض الألفاظ التي تحتاج إلى بيان. منها: “تجرثمت ذاك” يعني: أخذت هذا المنحى في الخروج على الدولة. وكلمة: “جلف” في قوله: “غير أنك أعرابي جلف” أي: جاف تستطعم الكسرة؛ أي: تسأل الناس أن يعطوك اللقمة. وتستشفي أي: تطلب الشفاء. والشبعة: ما يشبع من الطعام، وطعام الناس أراذلهم.

وقوله: “يستنشئون الرياح” أي: يتنسمونها كناية عن الجوع وقوله: “أهلكهم الله بنزحتين” يشير الحجاج إلى هزيمتين حلتا بالخوارج.

فأجابه قطري بقوله: “سلام على الهداة من الولاة الذين يرعون حريم الله، ويرهبون نقمه؛ فالحمد لله على ما أظهر من دينه، وأظلع به أهل السفال -وأظلع من الظلع وهو العرج، والسفال أراذل الخلق، يريد به الحجاج ومن معه- وهدى به من الضلال ونصر به عند استخفافك بحقه”، أي: بحق الله.

ثم يقول: “كتبتَ إليّ تذكر أني أعرابي جلف أُمي استطعم الكسرة، وأستشفي بالتمرة، ولعمري يا ابن أم الحجاج، إنك لمتيم في جبلتك مطلخم في طريقتك -مُطْلَخم أي: متعجرف- ومتيم أي: مضلل- واه في وثيقتك -أي: ضعيف في ثقتك بنفسك- لا تعرف الله، ولا تجزع من خطيئتك، يئست واستيأست من ربك؛ فالشيطان قرينك، لا تجاذبه وثاقك، ولا تنازعه خناقك؛ فالحمد لله الذي لو شاء أبرز لي صفحتك، وأوضح لي صلعتك، فوالذي نفس قطري بيده لعرفت أن مقارعة الأبطال ليس كتصدير المقال؛ مع أني أرجو أن يدحض الله حجتك وأن يمنحني مهجتك”.

وإذا كانت هذه الرسائل اتخذت من الخلاف السياسي موضوعًا لها؛ فإنه في أواخر القرن الأول الهجري، ظهرت كتابات تتخذ الوعظ اتجاهًا لها، وقد اشتهر عمر بن عبد العزيز بأنه كان يكتب إلى الوعاظ أن يرسلوا إليه بعظاتهم، ويروى أنه لما ولي الخلافة أرسل إلى الحسن البصري أن يكتب إليه بصفة الإمام العادل، فدبج له رسالة طويلة استهلها بقوله:

“اعلم يا أمير المؤمنين، أن الله جعل الإمام العادل قوام كل مائل، وقصد كل جائر، وصلاح كل فاسد، وقوة كل ضعيف، ونَصَفة كل مظلوم، ومفزع كل ملهوف. والإمام العادل يا أمير المؤمنين، كالراعي الشفيق على إبله الرفيق بها، الذي يرتاد لها أطيب المراعي، ويذودها عن مراتع الهلكة، ويحميها من السباع، ويكفيها من أذى الحر والقَرّ -أي: البرد- والإمام العادل يا أمير المؤمنين، كالأب الحاني على ولده: يسعى لهم صغارًا، ويعلمهم كبارًا، يكتسب لهم في حياته، ويدخر لهم بعد مماته. والإمام العادل يا أمير المؤمنين، كالأم الشفيقة، البرة بولدها، حملته كرهًا، ووضعته كرهًا، وربته طفلًا، تسهر لسهره، وتسكن لسكونه، وترضعه تارة، وتفطمه أخرى، وتفرح لعافيته، وتغتم بشكايته”.

ولم يكد العصر الأموي ينتهي حتى ظهر جيل من الكُتاب يُعنون بانتخاب الألفاظ الرشيقة، وإحداث التوازن الموسيقي في الكلام، مع دقة التعبير، وحسن التصوير، والبراعة في أداء المعنى المراد، وأعانهم على تجويد الكتابة الثقافةُ الجديدة التي دخلت إلى الثقافة العربية من الثقافات الأخرى التي دخل أهلها في الإسلام.

وقد سبق أن ذكرت لك أن عبد الحميد بن يحيى الكاتب بلغ من ذلك كله شأوًا عظيمًا. ومن المناسب أن نختم كلامنا عن الكتابة بنموذج من رسائله، كتب رسالة إلى أهله يعزيهم فيها عن نفسه وما آل إليه حاله، وهو منهزم مع مروان، والدولة الأموية توشك شمسها أن تغرب، قال:

“أما بعد: فإن الله جعل الدنيا محفوفة بالكره والسرور، وجعل فيها أقسامًا مختلفة بين أهلها، فمن درت له بحلاوتها، وساعده الحظ فيها؛ سكن إليها، ورضي بها، وأقام عليها، ومن قرصته بأظفارها، وعضته بأنيابها، وتوطأته بثقلها، قلاها نافرًا عنها، وذمها ساخطًا عليها، وشكاها مستزيدًا منها، وقد كانت الدنيا أذاقتنا من حلاوتها، وأرضعتنا من درها أفاويق استحلبناها، ثم شمست منا نافرة، وأعرضت عنا متنكرة، ورمحتنا مولية؛ فملح عذبها، وأمر حلوها، وخشن لينها؛ ففرقتنا عن الأوطان، وقطعتنا عن الإخوان؛ فدارنا نازحة وطيرنا بارحة، قد أخذت كل ما أعطت، وتباعدت مثلما تقربت، وأعقبت بالراحة نصبًا، وبالجذل همًّا، وبالأمن خوفًا، وبالعز ذلًّا، وبالجدة حاجة، وبالسراء ضراء، وبالحياة موتى، لا ترحم من استرحمها سالكة بنا سبيل من لا أوبة له، منفيين عن الأولياء، مقطوعين عن الأحياء”.

وهكذا تجد في هذه الرسالة تصويرًا لحال البؤس والشقاء، الذي حل بعبد الحميد وبولاته الأمويين الذين انهزموا وكادت شمس دولتهم أن تغرب، والألفاظ في هذه الرسالة منتخبة، وليس فيها تعور ولا غريب وحشي، وإنما تتسم بالسهولة والعذوبة، والمعاني كثيرة غزيرة مرتبة، ليس فيها غموض ولا خفاء، وإنما فيها وضوح وبيان، وهو يُعنى بالترادف في أسلوبه، ترادفًا ينتهي به إلى ازدواج واضح، يؤكد به المعاني بما يحمل من معادلات ومقابلات، تثبت المعنى في الذهن وتوضحه.

وبهذا نكون قد انتهينا من الكلام عن الخطابة بأنواعها، والكتابة وأطوارها، وقدمنا نماذج من هذه وتلك تدل على ما وصل إليه النثر في العصر الأموي.

error: النص محمي !!