اللغة وشخصية الفرد
إن شخصية الفرد محور أساسي لسلوكه، وهذا السلوك يظهر في صفات معينة، والمعروف تربويًّا ونفسيًّا أن الشخصية تحدد السلوكَ العام للأفراد.
تعريف الشخصية:
للشخصية تعريفات مختلفة تتنوع بتنوع الناظرين إليها، من علماء النفس، أو علماء التربية أو من غيرهم، ممن لهم علاقة بدراسة الإنسان وسلوكه، ولكنهم أجمعوا على أنها: عبارة عن كل العناصر أو الصفات المتداخلة لتكوين الشخصية.
وهناك عدة نظريات عنها؛ منها -على سبيل المثال-:
نظرية الصفات: وتركز على تحديد صفات معينة لتعريف نوع الشخصية، إن الشخصية تتكون من مجموعة صفات معينة تلتصق بالفرد، فهي مستديمة فيه بشكل غالب، ويختلف الفرد من شخصيته عن الفرد الآخر بقدر درجة اختلافه في صفة من هذه الصفات.
وقد تعددت نظريات العلماء النفسيين، والتربويين في عدد الصفات التي يمكن في ضَوْئها أن تُختبر شخصية الفرد، فبعضهم رآها عشرين صفةً، مقسمةً في مجموعات رئيسة يمكن حصرها في خمس، وذلك على أساس تشابه العلاقات بين صفات كل مجموعة؛ بل وتشابه العلاقة بين كل مجموعة وأخرى، ومن تلك المجموعات ما يسمى بـ”التأقلم الاجتماعي”، فيوصف الفرد بأنه إما مجتهد أو حزين، كما يوصف بأنه حذر أو مغامر، كما يوصف بأنه مرن أو جامد، كما يوصف بأنه ثابت أو قلق، ويوصف أيضًا بأنه أما إن يكون متحدثًا أو يكون ساكتًا. فاللغة هنا صفة من صفات هذه المجموعة.
وهناك مجموعة أخرى؛ حيث يُنظر إليها من الناحية العاطفية، فيوصف الشخص بأنه إما أن يكون سريع الغضب أو أنه بطيؤه لا يهتز، كما يوصف بأنه قد يكون معتزًّا بنفسه، معتمدًا عليها.
وإما أن يكون معتمدًا على الغير، كما يوصَف بأنه قد يكون محدود التأثير أو يكون سريعَ التأثر بالعبارات العاطفية.
وهناك مجموعة ثالثة أيضًا تدور حول الالتزام؛ فإما أن يكون الشخص جادًّا هزليًّا، ويمكن أن يكون موضعَ ثقة أو موضع شك، ويوصف كذلك بأنه قد يكون مستعدًّا للتعاون والتعامل مع الغير، أو يكون غير متعاون.
وهناك مجموعة رابعة تدور صفاتها حول الثقة في النفس؛ ومنها: أنه قد يوصف بأنه متحدث أو ساكت، أو صريح أو متحفظ، وهكذا ينظر إلى الشخص من مجموعة صفات معينة، وهي مهما تعددت فهي متشابكة ومتعاونة.
ولعل من هذه الصفات، الصفة اللغوية؛ حيث يوصف بأنه متحدث بمعنى أنه لبق، أو يكون غير لبق، غير متحدث، عنده إعاقة ذهنية عقلية تؤثر على لباقته أو طلاقته، أو يكون العكس، بمعنى: أنه يكون خاليًا من العيوب التي قد تؤدي به إلى اضطراب لغوي، أو فكري، أو عقلي.
إن الشخصية صارت عِلمًا يسمى بـ”علم نفس الشخصية”، فيتناول مشكلة هذه الشخصية، ومدى تكاملها، والمكونات التي تكونها.
كما يتحدث عن مدى إدراكها، ومدى ذاكرتها، ومدى تفكيرها، ومدى ذكائها.
إن للشخصية مكونات بعضها يعود إلى الشخص نفسه، وبعضها يعود إلى البيئة التي تحيط بهذا الشخص، فالمكونات الشخصية التي تعود إلى للشخص ذاته بعضها يعود إلى جسمه، وبعضها يعود إلى نفسه، ومما يعود إلى الشخصية من ناحية النفس العقل والمزاج والخُلق، والشخصية النفسية في جانبها العقلي قد تكتسب أشياءً، وقد ترثها، فالثقافة -مثلًا- تُكتسب بينما الذكاء والقدرات العقلية تعود إلى الوراثة، وكذلك الأمر بالنسبة للمزاج، فبعضه مُكتسب، وبعضه موروث، فالعواطف أو العقد النفسية تعود إلى الاكتساب، بينما الانفعال قد يعود إلى جوانب وراثية.
أما بالنسبة لمكونات الشخصية من ناحية البيئة، فإن الشخص يتأثر بطبيعة الحال، وتكونه عوامل بيئية يعود بعضها إلى البيت الذي يعيش فيه الفرد، والمدرسة التي يتعلم فيها، وإلى المجتمع الذي يعيش فيه.
إن الشخصية هي مصدر القوة المحركة، وتؤثر فيما حولها وتتأثر به، إن الشخصية مزودة بطاقات، بعضها يعود إلى الوراثة، لكن هذا الجانب الوراثي قد يحدث له تغير ما إذا ما توافر لهذا الشخص من عوامل تحيط به؛ ولذلك فإن كثيرًا من علماء نفس اللغة، ومن علماء التربية، ومن علماء النفس -بصفة عامة- يرون أن صلاح الفرد وتكامل شخصيته، مرتبطٌ بصلاح العوامل الشخصية والبيئية المحيطة به، والعكس صحيح، إذا أُهمِلت العوامل المكونة لشخصية الفرد، فإن فساد الفرد أمر متوقع.
ونعود إلى مزيد من تفصيل هذه العوامل التي تعود إلى الشخص ذاته، وتعود إلى البيئة التي تحيط بالفرد، وقد نجملها في ثلاث مجموعات:
أ. عوامل جسمية.
ب. عوامل نفسية.
ج. عوامل اجتماعية، أو بيئية.
مجموعة العوامل الجسمية: فهي كل ما يتعلق بنمو الجسم وصحته، ومقاومته للأمراض، وكذلك صفاته المتعلقة بالجسم من حيث طوله وقصره، ومن حيث بدانته أو نَحافته، ومن حيث تميزه بكامل جسم خالٍ من العاهات والنقائص، أو اضطرب جسمه فأصيب بعاهة أو نقص.
مجموعة العوامل النفسية: فبعضها يعود إلى العقل، وبعضها يعود إلى المزاج؛ أما الوظائف العقلية، فيأتي على رأسها الذكاء، أو القدرات العقلية الخاصة كالقدرة اللغوية والحسابية والعلمية.
وكذا العمليات العقلية العليا كالتصور والتخيل والتذكر، بالإضافة إلى المهارات العقلية المكتسبة من التعلم، سواء كان هذا التعلم مباشرًا أو غيرَ مباشر.
كما تشتمل العوامل النفسية على جانب آخر: وهو جانب المزاج، والجانب المزاجي من الشخصية، يشمل أساليبَ النشاط الانفعالي المتعلقة بالوجدان، ومزاجُ الفرد يشتمل على دوافع فطرية موروثة، وأخرى مكتسبة، فمزاج الفرد يشمل العواطف والميول والدوافع والحاجات.
كما يتضمن ما يسمى بالدوافع اللاشعورية التي تتضمن ما يسمى بالعُقد النفسية التي تظهر على سلوك الفرد دون وعي منه.
كما تتضمن هذه العوامل النفسية الاتجاهَ الخُلقي، كما تتضمن أيضًا ما يكتسبه من ثقافة عامة، أو ثقافة تخصصية.
العوامل الاجتماعية، أو البيئية: هذه العوامل قد ترتبط بالبيت الذي يعيش فيه الفرد، أو ترتبط بالمدرسة، أو ترتبط بالمجتمع.
إن الفرد داخل بيته يتأثر بحالة هذا البيت من الناحية الاقتصادية مثلًا، كما يتأثر بالأسرة التي ينشأ داخلها في هذا البيت، فعلى قدر ترابطها وتماسكها يكون صلاح الفرد.
كما يرتبط الفرد داخل أسرته بالطريقة التي ينشأ عليها، ومدى ثقافة الوالدين في معالجة الأشياء التي تحيط بالطفل داخل هذا البيت؛ من تسامح أو عنف أو ما إلى ذلك؛ لذلك فإن أخلاق الفرد ومدى التزامه بها ترتبط بمدى ثقافة الوالدين في داخل الأسرة.
كما يتأثر الطفل والفرد بصفة عامة بالأنشطة خارج البيت، فيتأثر بأصدقائه، كما يتأثر بالعمل الذي يزاوله، ومدى ملائمته لميوله.
إن شخصية الفرد، ما هي إلا نسيج عوامل وراثية جسمية، ونفسية، واجتماعية، ويمكن أن نشبهها بالنَّبْت، فالنبتة لا يمكن أن تنموَ إلا إذا صلُحت بذرتها، وصلُحت التربة التي تغرس فيها تلك النبتة، فالفرد أيضًا هكذا، لا يمكن أن يكون سليمًا إلا إذا كانت صحته سليمةً، ونفسيتُه سليمةً.
والبيئة التي يحيا في كنفها سليمة؛ بل إن هناك صفاتٍ تبدو وراثية فِطرية، لكنها تتأثر بالمحيط وبالبيئة وبالمجتمع الذي يحيا فيه الإنسان.
فالذكاء -مثلًا- يتأثر بالمحيط الذي يحيا به صاحبه، فللمجتمع فيه دَوْر؛ في إبرازه، أو كبته، في زيادته أو نقصه، وطريقة التفكير تتأثر بالبيئة، والتربية تؤثر في التفكير تأثيرًا واضحًا.
كل هذا يقودنا إلى اللغة؛ حيث ترتبط بتفكير الطفل أو تفكير الفرد بصفة عامة، كما ترتبط بثقافته، وكما ترتبط بالمجتمع الذي يحيا فيه.
وبِناءً على ما ذكرنا، فقد أُسس شيئًا مهمًّا، وهو أن اللغة وسيلة الإنسان إلى تنمية أفكاره وتجاربه، وإلى تهيئته للعطاء والإبداع، والمشاركة في تحقيق حياة متحضِّرة، فبواسطة اللغة يختلط الفرد بالآخرين، وعن طريق هذا الاختلاط يكتسب خبراته، وينمي قدراته، ويزداد اكتسابه لهذه الخبرات والقدرات كلما نمت لغته وتطورت، وزادت علاقاته بغيره قوةً واتساعًا.
إن اللغة تعين الإنسان -وخاصةً إذا كان مفكرًا- على تحديد تصورات عقله، وخيالِه، وتعينه على تصوير ما ينتجه عقله وخياله، وتعينه على التعبير عما تفيض به أحاسيسه من انفعالات، وما تتمخض عنه قريحتُه من خواطرَ وأفكار، وما يكتسبه من خلال تفاعله مع الحياة من تجاربَ ومعارف؛ ولذلك يؤكد علماء النفس والتربية: أن النمو العقلي للإنسان مرتبط بنموه اللغوي، وأنه كلما تطورت واتسعت لغةُ هذا الإنسان ارتقت قدراته العقلية، فنما ذكاؤه، وقوي تفكيره.
وبناءً على ذلك، اعتُبِرت المهارات اللغوية مِقياسًا مهمًّا لمعرفة نسبة الذكاء.
إذن، هناك علاقة قوية بين اللغة التي يكتسبها الإنسان وبين نسبة ذكائه، إن الذكاء يسوق إلى التفكير، والتفكير يسوق إلى اكتساب المادة المعرفية التي يعمل فيها الفكر، والمادة المعرفية المكتسبة تقود في العادة إلى البحث عن اللغة التي تعبر عنها، وبهذا يتكون الرصيد اللغوي؛ ليكون دليلًا على الذكاء، أو مشيرًا إليه.
إن اللغة عامل مهم في تكوين شخصية الفرد، وإنها عامل مهم في نموه بصفة عامة، ونمو تفكيره بصفة خاصة، وهي مقياس لمعرفة مدى نموه العقلي.
وتشير الدراسات الحديثة إلى أن ضعف المهارة اللغوية للفرد -في كثير من الأحيان- دليلٌ على بطء أو تعثر الإدراك، أو ضعف الذاكرة، أو تبلد الذهن أو خموله، والعكس صحيح أيضًا.
وبهذا تَميز الإنسان باللغة عن سائر المخلوقات، وصدق الله العظيم؛ حين قال: {الرَّحْمَن * عَلَّمَ الْقُرْآن * خَلَقَ الإِنسَان * عَلَّمَهُ الْبَيَان} [الرحمن: 1-4]، إن الإنسان حينما ينشأ تنشئةً لُغويةً صحيحةً، فتزداد حصيلتُه من لغته، يكون عضوًا صالحًا في مجتمعه من النواحي العقلية، والنفسية، والتواصلية مع غيره.
ونذكر بعض النتائج الإيجابية المترتبة على التنشئة اللغوية الصحيحة، كما نذكر في الوقت نفسه بعضَ النتائج السلبية الناجمة عن إهمال الفرد لغويًّا، على النحو التالي:
النتائج الإيجابية:
أ. زيادة الخبرات والتجارب والمعارف والمهارات التي يكتسبها الفرد، ومن ثم تزداد حصيلته الفكرية والثقافية بصفة عامةٍ.
ب. أن التنشئة اللغوية الصحيحة للفرد تعود عليه بنتائج نفسية مهمة، تتمثل في انفتاح شخصيته على ما يحيط بها.
كما تنمو روح الأُلفة والجرأة الأدبية والثقة بالنفس.
إن التنشئة اللغوية الصحيحة لها دور كبير في جعل الفرد فعالًا في محيطه وبين أفراد مجتمعه وأمته.
النتائج السلبية:
من النتائج السلبية الناجمة عن التنشئة اللغوية الخاطئة التي تعود على الطفل بفقرٍ لغوي، وحصيلة لغوية متدنية، ما يلي:
أولًا: العزلة الاجتماعية: إن الشخص ينعزل اجتماعيًّا إذا قل محصوله اللغوي، فضعفت عباراته وأساليبُه، ومن ثم تقِل قدرته على التواصل والتخاطب والتفاهم مع الآخرين، مما يؤدي إلى تقليل فرص الاختلاط بهم، فضعيف اللغة يصبح في عزلة، وهو إن لم يعتزل الناس اعتزلوه.
ثانيًا: اضطراب الشخصية: كعجز الإنسان عن التعبير عن مشاعره وأفكاره بصورة طليقة، وعجزه عن التواصل أو التخاطب الاجتماعي، يؤدي به إلى اضطراب شخصي، فتظهر عليه بعض الانحرافات السلوكية.
ويرى علماء النفس، أن العَرَض الرئيس عند مضطربي الشخصية، عجزهم عن تحديد مشاعرهم ومشاكلهم بالألفاظ، وقد يكون اضطراب الشخصية لدى الفرد ناتجًا أيضًا عن كبت الغريزة الاجتماعية، فالإنسان بفطرته ميال إلى إثبات وجوده في مجتمعه، وإلى الاجتماع بالآخرين والتحدث إليهم، وهو باجتماعه بالآخرين والتحدث إليهم لا يكتسب التجارب والخبرات والمعلومات فقط، وإنما يخفف من شعوره بالوحدة، ويجد مجالًا للتنفيس عمَّا قد يضطرب في داخله من أحاسيس، وفي المقابل عدم القدرة على التواصل والتفاهم -نتيجةً لضعف اللغة- يحرمه من إشباع غريزته الاجتماعية، ومن تلبيه رغباته النفسية من الآخرين، كما يولد لديه نوعًا من القلق والتوتر، ربما يشجعه على اللجوء إلى وسائل منحرفة؛ للتخفيف من هذا القلق أو التوتر، أو يولد لديه عادات سيئة شاذة، تجعل من شخصيته شخصية مضطربة.
هذا بالإضافة إلى ضيق أفقه الثقافي والفطري، وضعف أو ضحالة نتاجه الفكري أو الإبداعي، فالمعروف أن بروز شخصية الفرد، وظهور مكانته، يقومان بحسب المقياس الحضاري على أساس ما يسهم به من إنجازات مهمة، وما يبدع من نتاج فكري؛ بل إن سيادة الأمة -بصفة عامة- تعتمد على ما لديها من تراث عقلي وروحي، وتقوم في الأساس على ما يصنع أفراد المجتمع من إنجازات حضارية، وما يظهر لهؤلاء الأفراد بلغتهم من نتاجات فكرية مثمرة نافعة؛ لذلك فإن تراجع الأمة وتراجع أفرادها عن النتاج الفكري، وضعف مشاركتهم في حركة التأليف والتدوين للغتهم القومية، معناه: الهبوط بمستوى مكانة أمتهم، والتقليل من شأنها ومن شأن أهلها.
هذا قليل من النتائج السلبية الناجمة عن التنشئة اللغوية السيئة للفرد، إنها تجعل الفرد مضطربًا، وتهتز شخصيته، ومن ثَم يتأثر عامل مهم من عوامل تكوين شخصية الفرد، ألا وهو التنشئة اللغوية الصحيحة.