اللهجات الاجتماعية
إن هذه اللهجات تسمى أيضا: باللهجات الطبقية، أو الطائفية؛ حيث تنشعب أحيانا لغة المحادثة في البلد الواحد أو المنطقة الواحدة إلى عاميات أو لهجات مختلفة؛ تبعا لاختلاف طبقات الناس وفئاتهم.
فيكون مثلا: هناك لهجة لطبقة الارستقراطية، وأخرى للجنود، وثالثة للبحارة، ورابعة للرياضيين، وخامسة للنجارين، إلى غير ذلك.
يطلق علماء اللغة على هذا النوع من اللهجات اسم: اللهجات الاجتماعية؛ تمييزا لها عن اللهجات المحلية التي حدثتك عنها آنفا على مستوى وطننا العربي.
وأما عن أسباب نشأة هذه اللهجات الاجتماعية: فمنها ما يوجد بين طبقات الناس وفئاتهم من فروق في الثقافة، والتربية، ومناحي التفكير، والوجدان، ومستوى المعيشة، وحياة الأسرة، والبيئة الاجتماعية، والتقاليد، والعادات، وما تزاوله كل طبقة من أعمال، وتطلع به من وظائف.
والآثار العميقة التي تتركها كل وظيفة ومهنة في عقلية المشتغلين بها، وحاجة أفراد كل طبقة إلى دقة التعبير وسرعته، وإنشاء مصطلحات خاصة بصدد الأمور التي يكثر ورودها في حياتهم، وتستأثر بقسط كبير من انتباههم، وما يلجئون إليه من استخدام مفردات في غير ما وضعت له، أو قصرها على بعض مدلولاتها؛ للتعبير عن أمور تتصل بصناعاتهم، وأعمالهم.
لكل هذا لا تلبث اللهجة أن تنشعب -وأعني باللهجة: اللهجة العامية- إلى لهجات اجتماعية تختلف كل منها عن أخواتها في المفردات، وأساليب التعبير، وتكوين الجمل، ودلالة الألفاظ، وما إلى ذلك.
وهذه اللهجات الاجتماعية لا تنشأ من تلقاء نفسها، أو هكذا خيل إلى بعض العلماء: أن هذه اللهجات لا تنشأ من تلقاء نفسها؛ بل تخلق خلقا، وتبتدع بالتواضع والاتفاق بين أفراد الطبقة الواحدة، وترتجل ألفاظها ومصطلحاتها ارتجالًا؛ ولذلك لم تنل هذه اللهجات كبير حظ من عنايتهم، والمعروف غير هذا، فعهدنا بالنظم الاجتماعية، واللغة ظاهرة من ظواهر الاجتماع، أنها لا ترتجل ارتجالا، ولا تخلق خلقا؛ بل تتكون بالتدريج من تلقاء نفسها.
فهذه اللهجات الاجتماعية لا تختلف في نشأتها عن اللهجات المحلية، فكلا النوعين ينشعب عن لغة أصلية يستمد منها أصول مفرداته، ووجهة أساليبه، وتراكيبه، وقواعده، وكلاهما تلقائي النشأة ينبعث عن مقتضيات الحياة الاجتماعية، وشئون البيئة وكل ما بين النوعين من فرق: أن السبب الرئيس لنشأة اللهجات المحلية يرجع إلى اختلاف الأقاليم، وما يحيط بكل إقليم من ظروف، وما يمتاز به من خصائص، فالظروف في مصر تختلف عن الظروف في الشام، عن الظروف في المغرب، وهلم جرا.
في حين أن السبب الرئيس في نشأة اللهجات الاجتماعية هذه يرجع إلى اختلاف طبقات الناس في الإقليم الواحد، وما يكتنف كل طبقة منها من شئون، ويفصلها بعضها عن بعض من مميزات في شتى مظاهر الحياة.
ويزداد في العادة انحراف اللهجات الاجتماعية عن أخواتها؛ بل يشتد انحرافها عن الأصل الذي انشعبت منه، كما هو شأن اللهجات الفرنسية المستخدمة بين طبقات اللصوص والمجرمين، وبعض طبقات العمال، فكلما كثرت الفوارق بين الطبقة الناطقة بها، وبقية الطبقات، أو كانت حياة أهلها قائمة على مبدأ العزلة عن المجتمع، أو على أساس الخروج على نظومه، وقوانينه كثر الخلف بينها وبين غيرها؛ ولذلك كانت في فرنسا لهجات الطبقات الدنيا من العمال، بينما اللهجات السرية لجماعات المتصوفين، والرهبان، ولهجات المجرمين واللصوص ومن إليهم كانت كل هذه اللهجات أكثر اللهجات انحرافًا عن الأصل الذي انشعبت منه، وبعدًا عن المستوى العام لبقية اللهجات الاجتماعية الفرنسي، وكذلك الشأن في إنجلترا؛ فلهجات اللصوص، وقطاع الطريق، والمجرمين الإنجليز من أشد اللهجات بعدًا عن اللغة الأصلية، وعن المستوى العام للهجات الاجتماعية الإنجليزية.
وتؤثر هذه اللهجات الاجتماعية في لغة المحادثة العامية تأثيرًا كبيرًا، فتستعير منها هذه اللغة كثيرًا من التراكيب والمفردات، وخاصة المفردات التي تخصص مدلولها العام، واصطلح على إطلاقها على أمور خاصة تتعلق بفن، أو حرفة، أو ما إلى ذلك، فلغة المحادثة العادية بباريس في العصر الحاضر قد دخل فيها عن هذا الطريق كثير من مفردات اللهجات الاجتماعية، وخاصة لهجات العمال، والمجرمين، وكذلك الشأن في لغة الإنجليز.
وأهم أنواع اللهجات الاجتماعية: ما يسمى: باللهجات الحرفية، وهي: اللهجات التي يتكلم بها فيما بينهم أهل الحرف المختلفة، كالنجارين، والنقاشين، والصيادين، والبحارة، وهلم جرا.
كما قد يحدث في بعض الشعوب التي يقل فيها اختلاط الرجال بالنساء، أو يعيش فيها كلا الجنسين بمعزل عن الجنس الآخر تحت تأثير نظم دينية، أو تقاليد اجتماعية أن تختلف لهجة الرجال عن لهجة النساء اختلافا قد يكون يسيرًا، وقد يكون كبيرا. وتكثر مظاهر هذا الاختلاف كلما استحكمت حلقات الانفصال بين الجنسين، حتى إنه لينشأ أحيانا من جراء ذلك لكل منهما لهجة تختلف اختلافا بينا عن لهجة الآخر، أو تشتمل لهجة كل منهما على مفردات وجمل كثيرة لا تستخدم في اللهجة الأخرى. وقد لوحظ ذلك في بعض الشعوب البدائية على وجه الخصوص، ويخف هذا الاختلاف اللغوي كلما خفت قيود الاختلاط بين الجنسين، فتختصر مظاهره على فروق يسيرة في الأصوات، والمفردات، والجمل، والأساليب، كما هو مشاهد في كثير من المناطق المصرية في عصرنا الحاضر، وليست هذه اللهجات في الواقع إلا نوعًا من أنواع اللهجات الاجتماعية.
ومن الأمثلة التي تظهر بعض هذه اللغات الاجتماعية: ما تحتويه كتب أصحاب الشعوذة من كلمات غامضة مبهمة، وما يستخدمه الصيادون، أو البحارون، أو المنجدون، ولعلك تدرك على بعض الألفاظ التي يستخدمها أهل كل حرفة من أصحاب هذه الحرف.
فلفظ الحرامي مثلًا في العامية المصرية هو: اللص، ولكنه في لسان النقاشين، يعني: ما تفوته الفرشاة، أعني: فرشاة النقاش من أماكن يجب طلاؤها، وكلمة الخابور مثلًا في اللغة العربية تعني: نوعا من النبات أو الشجر، بينما هي في لسان النقاشين، يعني هذا اللفظ: خشبة تغرس في الحائط، تدق فيها المسامير، وفي لسان النجارين تعني: الخبز، وفي لسان الأطباء: هي قطعة من الشاش المعقم، يحشى بها موضع عملية الباسور، فالمعنى في كل مستوى يختلف اختلافًا بينًا، ولا علاقة بين المعنى المهني في حرفة الطب، أو حرفة النقش، أو النجارة، وبين المعنى اللغوي الأساسي المشترك، وكلنا يدرك الفرق في الاستعمال بين معنى كلمة كرسي في اللغة العامية، ومعناها في لغة مدمني المخدرات، والمدخنين.
فالأمثلة كثيرة ويمكن أن تراقبها وتلاحظها، وتصنع معجمًا لك من خلال ما تقف عليه من أصحاب هذه المهن.
وأختم هذا العنصر بالإشارة إلى الجاحظ الذي أدرك العلاقة المتبادلة بين البنيتين اللغوية والاجتماعية، وأدرك بصورة جلية طبيعة التركيب الطبقي، والاجتماعي للمجتمع الإسلامي في عصره، وخاصة في البصرة؛ حيث ولد وعاش معظم حياته، وأدرك طبيعة العناصر البشرية المكونة لهذا المجتمع من الناحيتين الاجتماعية، واللغوية.
بالإضافة إلى خبراته الواسعة بالحياة الاجتماعية، والعلمية، والفكرية في عصره؛ لذلك صار الجاحظ عالمًا من علماء اللغة الاجتماعي، لا يعرف تاريخ الفكر اللغوي الإنساني عنه شيئًا، ولعل النظرة المتسرعة لعناوين بعض كتبه ورسائله تضع بين يديك صورة صادقة لمعرفة الجاحظ لهذا التنوع الطبقي، والاجتماعي العربي الإسلامي في عصره، منها على سبيل المثال: كتاب (القحطانية والعدنانية) كتاب (العرب والموالي)، كتاب (الصرحاء والهجناء)، كتاب (القضاة والولاة)، كتاب (النساء)، كتاب (التجار)، كتاب (المعلمين)، كتاب (طبقات المغنيين)، كتاب (الجواري)، كتاب (اللصوص)، كتاب (الطفيليين)، كتاب (أخلاق الشطار)، كتاب (العرجان والبرصان)، كتاب (البخلاء)، كل هذا يدل على شعوره الواضح بمدى الارتباط بين البنيتين اللغوية والاجتماعية.
وقد أخذ في دراسة التنوع اللغوي في إطاره الاجتماعية محللًا، ومفسرًا له، راصدًا أسبابه، وعلله اللغوية والاجتماعية، فكتاب (الحيوان)، بالإضافة إلى (البيان والتبيين)، ورسائله التي أشرنا إلى بعضها، كلها تعكس اهتمامه بالتنوع اللغوي في عصره.