Top
Image Alt

المتنبي، ونماذج من شعره

  /  المتنبي، ونماذج من شعره

المتنبي، ونماذج من شعره

هو أحمد بن الحسين الكِندي، وُلِدَ سنة ثلاثمائة وثلاث من الهجرة، بالكوفة في محلة كندة، ونُسب إليها، ولُقب بالمتنبي لما زعمه بعض خصومه من أنه ادَّعى النبوة في بادية السماوة، وبعض الدارسين يشكك في هذا الأمر ويقول: إن خصومه وحُسَّاده هم الذين ألصقوا به هذه التهمة وحرضوا عليه أولي الأمر؛ لأنهم كانوا يحسدونه وينقمون عليه تفوقه وتفرده واعتزازه بنفسه وشعره. وبعضهم يقول: إن لقب المتنبي أطلق عليه لبراعته في الشعر.

على أية حال: عوقب المتنبي وطورد بسبب هذا الأمر: وهو ما زُعم بادَّعائه النبوة، وغلب لقب “المتنبي” عليه حتى صار كالعلَم، والناس يذكرون المتنبي -أو أكثرهم- من غير أن يعرفوا أن اسمه هو أحمد بن الحسين؛ فغلب اللقب حتى صار كالعلَم عليه.

نشأ أبو الطيب المتنبي في الكوفة، وكان يعيش في بيئة فقيرة، وكان أبوه خامل الشأن، وكان هذا الأب يعمل سقَّاءً في الكوفة؛ لكن الولد نشأ محبًّا للعلم والأدب؛ فاتصل بكثير من العلماء وأخذ عنهم، واتصل بكثير من الأعيان، والقضاة، والولاة، والأمراء بعد ذلك، يلقي عندهم شعره، ووصل إلى قمة المجد الأدبي في بلاط سيف الدولة الحمداني، وقد قويت صلته بسيف الدولة وأخذ يمدحه ويشيد ببطولاته، ويسجل انتصاراته، ويحصل منه على المال الكثير والهدايا العظيمة، وكان سيف الدولة معجبًا أشد الإعجاب بالمتنبي وشعره، ويقول مؤرخو الأدب ودارسوه: إن المتنبي ظل تسع سنوات يمدح سيف الدولة لا يمدح أحدًا غيره.

ودوام الحال من المحال -كما يقال- إذ تغيَّرت نفسية سيف الدولة على المتنبي بسبب وشايات الحساد، وساءت العلاقات بينهما؛ وحدث أن الأمير كان له مجلس علم يحضره العلماء والشعراء، وكان في هذا المجلس ابن خالويه العالم اللغوي والمتنبي، ونشأ بينهما جدالٌ؛ فضربه ابن خالويه بمفتاح أو شيء كان معه فسال دمه، ولم ينتصر سيف الدولة له؛ فغضب المتنبي ورحل عن بلاط سيف الدولة مغضبًا، وارتحل إلى مصر ومدح واليَها كافور الإخشيدي، وكان يؤمِّل أن يحظى عند كافور بولاية يوليها له.

وكان المتنبي يشعر بعظِم نفسه ويعتقد أنه أولى من الأمراء جميعًا بأن يكون أميرًا، وكان يمنِّي نفسه بهذا الأمر، ولما لم يحصل على ما يريده عند كافور -وكان قد مدحه بمدائح عديدة- عاد فهجاه هجاءً مريرًا، وعزم أبو الطيب على الرحيل من مصر وأعد العدة لذلك، ولما علم كافور بأنه ينوي الرحيل حاول منعه من الرحيل والتضييق عليه؛ لأنه يخشى لسانه، لكن المتنبي احتال للأمر واستطاع أن يخرج من مصر، واتجه بعد ذلك إلى بلاد فارس، ثم تركها متجهًا إلى بغداد، وفي الطريق خرج عليه بعض قطاع الطريق، وكان على رأسهم رجلٌ يسمى “فاتكًا الأسدي”؛ فقاتلوه ومن معه ولما أدرك أنه مغلوب هم بالفرار والهرب، لكن غلامًا له كان معه قال: لا يتحدث عنك الناس بالفرار وأنت القائل:

الخيل والليل والبيداء تعرفني

*والسيف والرمح والقرطاس والقلمُ

فعاد أبو الطيب راجعًا، وقاتل حتى قتل في مكان يسمى “دير العاقول” عام مائتين وأربع وخمسين من الهجرة.

وقد جاء المتنبي -كما يقولون- فملأ الدنيا وشغل الناس: ملأ الدنيا بشعره، وشغل الناس بما في هذا الشعر من معانٍٍ وأفكارٍ وصورٍ وتعبير؛ فالمتنبي من أكبر شعراء العربية عبر العصور، ومن الناس من يجعله أشعر شعراء العربية قاطبة.

وقد عُنِي الشراح بديوانه عناية كبيرة في القديم وفي الحديث، وكتب النقاد عنه وعن شعره دراسات كثيرة، وتناولوه من جوانب عديدة.

قصيدة من قصائده:

أما هذه القصيدة فقد قالها المتنبي بعد أن عزم على الرحيل من مصر يائسًا من كافور الإخشيدي، وعلم أن كافورًا يضيق عليه؛ فمرض المتنبي، وفاجأته الحمى؛ فصور في هذه القصيدة ألمه الجسدي وألمه النفسي.

فالقصيدة غرضها أو موضوعها الشكوى ووصف الحمى؛ يقول المتنبي في مطلع قصيدته:

مَلومُكما يجل عن الملامِ

*ووقع فِعاله فوق الكلامِ

ذراني والفلاةَ بلا دليلٍ

*ووجهي والهجيرَ بلا لِثامِ

ثم بعد ذلك يتحدث المتنبي عن بعض ما صار إليه حاله؛ فيقول:

وصرت أشك فيمن أصطفيه

*لعلمي أنه بعض الأنامِ

يحب العاقلون على التصافي

*وحب الجاهلين على الوسامِ

وآنف من أخي لأبي وأمي

*إذا ما لم أجدْه من الكِرامِ

ولست بقانعٍ من كل فضلٍ

*بأن أُعزَى إلى جدٍّ همامِ

ثم يقول:

ومن يجد الطريقَ إلى المعالي

*فلا يذر المطي بلا سنامِ

ولم أرَ في عيوب الناس شيئًا

*كنقص القادرين على التمامِ

ثم بعد ذلك يشكو المتنبي حاله ومرضه في مصر، ويصف الحمى التي داهمته، ويشكو ألمه الجسدي وألمه النفسي، يقول:

أقمت بأرض مصر فلا ورائي

*تخِبُّ بي الركاب ولا أمامي

وملَّنِيَ الفراش وكان جنبي

*يمَلُّ لقاءه في كل عامِ

قليلٌ عائدي سَقِم فؤادي

*كثير حاسدي صعب مرامي

عليلُ الجسم ممتنع القيامِ

*شديدُ السكرِ من غير المُدامِ

وزائرتي كأن بها حياءً

*فليس تزور إلا في الظلامِ

ويقصد بهذه الزائرة الحمى التي لا تأتيه إلا في الليل.

بذلت لها المطارف والحشايا

*فعافتها وباتت في عظامي

يضيق الجلد عن نفسي وعنها

*فتوسِعُه بأنواع السقامِ

إذا ما فارقتْنِي غسَّلتْني

*كأنا عاكفان على حرامِ

كأن الصبح يطردها فتجري

*مدامعها بأربعة سجامِ

ثم يقول مخاطب الحمى:

أبنتَ الدهر عندي كلُّ بنتٍ

*فكيف وصلتِ أنتِ من الزحامِ

جرحتِ مجرَّحًا لم يبقَ فيه

*مكانٌ للسيوف ولا السهامِ

ثم يقول أبو الطيب:

يقول لي الطبيب أكلت شيئًا

*وداؤك في شرابك والطعامِ

وما في طبِّه أني جوادٌ

*أضر بجسمه طوالُ الجِمامِ

تعوَّد أن يُغبَّر في السرايا

*ويدخل من قتامٍ في قتامِ

فأُمسِكَ لا يُطال له فيرعى

*ولا هو في العليقِ ولا في اللجامِ

فإن أمرضْ فما مرض اصطباري

*وإن أُحمم فما حُمَّ اعتزامي

وإن أسلم فما أبقى ولكن

*سلِمتُ من الحِمامِ إلى الحِمامِ

أما الألفاظ التي يمكن أن نفسرها ونشرحها:

فكلمة: “ملومكما” التي جاءت في البيت الأول يقصد نفسه، والخطاب لصاحبيه.

و”الملام”: هو اللوم.

و”ذراني”: اتركاني.

و”الفلاة”: الصحراء.

و”أصطفيه”: معناه اختاره.

و”الأنام”: الخلق.

و”الوسام”: حسن الصورة وجمال المنظر.

وكلمة: “آنف”: معناها: استنكف.

و”أُعزَى” أي: أُنسَب وأنتمي.

و”الهمام”: السيد الشجاع.

“المدام”: الخمر، وقبلها “العائد”: زائر المريض، و”المرام”: المطلب والمنال.

و”زائرتي”: يقصد بها الحمى.

و”المطارف”: جمع مِطرف، وهي الأردية.

و”الحشايا”: جمع حشية، وهي الفراش.

و”عافتها” يعني: كرِهَتْها.

و”المدامع”: مجاري الدمع.

وقوله: “أبنتَ الدهر عندي كل بنت” يقصد بـ”بنت الدهر”: الحمى، وبنات الدهر: مصائبه وشدائده.

و”الجواد”: الحصان الجيد.

و”الجِمام”: الراحة.

و”يُغبَّرُ”: أن يعلق به الغبار.

و”السرايا”: جمع سرية، وهي قطعة من الجيش.

و”القتام”: الغبار الكثيف.

و”أُمْسِكَ لا يطال له” أي: لا يُرخَى له الحبل الذي تشد به الدابة.

و”العليق”: هو الطعام الذي تأكله الدواب.

و”اصطباري” معناه: الصبر.

و”أُحمُّ” أي: أصاب بالحمى.

و”الحِمام”: الموت.

إذًا يشكو المتنبي في هذه القصيدة -كما أسلفتُ- ألمه النفسي وألمه الجسدي؛ إذ أحس أنه محدد الإقامة في مصر، أو أنه محبوس، ثم مرض بهذا المرض -مرض الحمى- فشكا في هذه القصيدة ما به من آلام النفس وما به من آلام الجسد.

والأساليب التي نجدها في القصيدة تدلنا على مدى الضيق النفسي الذي كان يشعر به المتنبي في هذه الحالة في مثل قوله: “وملني الفراش”؛ فالفراش لا يمل أحدًا، ولكن المريض هو الذي يمل الفراش؛ ولكن المتنبي كأنه أراد أن يقول: إن مرضه الشديد ألزمه الفراش فترة طويلة حتى مله هذا الفراش.

وقوله: “قليل عائدي” أي: أنه يشعر بالغربة؛ لأن الذين يزورونه قليل، و”سقِمٌ فؤادي” أي: قلبه مريض، وهو هنا المرض النفسي.

وقال: “كثير حاسدي”؛ فحساده مع هذا كثيرون، ثم قال عن نفسه: إنه عليل الجسم، وإنه ممتنع القيام لا يقدر على القيام، وإنه شديد السكر وليس سكره من خمر؛ وإنما بسبب فعل الحمى وشدة الألم، لما تحدث عن الحمى جعلها كأنها زائرة تزوره في الليل؛ وكأن الحياء هو الذي يجعلها تزوره في الليل ولا تزوره في النهار، ومن عادة هذا المرض أنه يشتد على صاحبه ليلًا، وقد يشعر الإنسان بالتحسن نهارًا، وعن شدة المرض عبر بقوله: “يضيق الجلد عن نفسي وعنها”، فكأنه يضيق بها لا يستطيع أن يتحملها، وقال عنها: “فتوسعني بأنواع السقام”: تأتي عليه بألوان من التعب.

ويستمر في تصويره لهذه الحمى على أنها زائرة، وأنها تزوره بالليل، وأن الحياء يمنعها من الزيارة في النهار؛ كأنها امرأة تزوره، يستمر في هذا التصوير حتى يجعلها تغسِّله قبل أن تفارقه؛ كأنهما كانا عاكفان معًا على حرام، أو على لذة محرمة، والتغسيل هنا كناية عن العرق الكثير الذي تسببه الحمى لمن تصيبه.

وفي قوله: “أبنتَ الدهر عندي كل بنت” يتعجب من شأن هذه الحمى التي استطاعت أن تنفذ إليه من بين المصائب الكثيرة التي يعانيها، وهذه المصائب بالطبع كانت مصائب نفسية؛ بسبب شعوره بأن كافورًا الإخشيدي والي مصر لم يعطِه ما يريد، وأحس بأنه مضيقٌ عليه ومراقب وممنوع من السفر، وهو قد جاء إلى مصر غضبان من سيف الدولة؛ فكل هذه بالنسبة له مصائب، وقد كان قبل هذه المحنة ملء العين والسمع في بلاط سيف الدولة الحمداني.

إذًا نستطيع أن نقول: إن تعبيره: “ملنيَ الفراش” فيه استعارة، وخطابه للحمى وتشخيصه لها على أنها زائرة أيضًا استعارة، وقوله:

بذلت لها المطارف والحشايا

*فعافتها وباتت في عظامي

فيه أيضًا استعارة، والتعبير كناية عن الْتصاق هذه الحمى به، وبلوغها بآلامها أقصى ما يتحمله الإنسان؛ حتى إنه جعلها تبيت في عظامه، وقوله: “كأنا عاكفان على حرام” تشبيه، المراد منه: تشبيه حالته بعد أن تُغرقه هذه الحمى بالعرق قبل أن تفارقه بحالة الخليلين.

وقوله: “الصبح يطردها فتجري مدامعها” أيضًا فيه استعارة مكنية؛ لأنه جعل الصبح والحمى شخصين، والصبح يطاردها فتجري.

وفي القصيدة نجد أيضًا بعض المحسنات البديعية؛ كالطباق في قوله: “ورائي” و”أمامي” و”قليل” و”كثير”، وبعض الجناس مثل “حاسدي” و”عائدي”، وكلها أضفت جوًّا من النغم والإيقاع اللذيذ على القصيدة بالإضافة إلى هذه القافية الميمية المكسورة.

وأيضًا من الجدير بالملاحظة في هذه القصيدة حديثه عن الطبيب: “يقول لي الطبيب أكلت شيئًا”، ثم يخبر أن داءه ليس من جهة الطعام ولا من جهة الشراب، ويقول: إن طب الطبيب ليس فيه ما يدله على حالته:

وما في طبه أني جوادٌ

*أضر بجسمه طولُ الجِمامِ

لا يعرف الطبيب أني مثل الجواد الذي لا يطيق أن يمسَك، وقد تعود دائمًا على الكرِّ والنشاط، فمرضه إنما هو بسبب حبسه، أي: حبس هذا الجواد عن الانطلاق، يقول عن هذا الجواد الذي يشبه نفسه به:

تعوَّد أن يُغبَّر في السرايا

*ويدخل من قَتَامٍ في قَتَامِ

تعوَّد على دخول المعارك؛ “فأُمسِك”: حُبِس، “لا يطال له فيرعى”: لا يترك، يرعى في المراعي حرًّا طليقًا، “ولا هو في العليق ولا اللجام”: ليس حرًّا كبقية الجياد.

ثم يقول المتنبي: “فإن أمرضْ فما مَرِضَ اصطباري” يتمسك بالصبر وقوة التحمل، وأن عزيمته لن تضعف، “وإن أُحمَم فما حُمَّ اعتزامي”.

لكنه -على أية حال- يعرف أن نهاية كل الأحياء: هي الموت؛ فقال في آخر القصيدة:

وإن أسلم فما أبقى ولكن

*سلِمتُ من الحِمامِ إلى الحِمامِ

أي: إذا سلم الإنسان من الموت؛ فإنه لا محالة سيلقى هذا الموت.

استطاع المتنبي إذًا أن يصور حالته وآلامه الجسدية والنفسية في هذه القصيدة، وهو شاعر لا يشق له غبار في مجال الحكمة والتصوير الشعري الذي يأخذ بمجامع القلوب.

error: النص محمي !!