Top
Image Alt

المذهب البرناسي

  /  المذهب البرناسي

المذهب البرناسي

وظهر بعد المذهب الذي يسمى مذهب الفن للفن مذهب يسمى المذهب البرناسي، وهذا المذهب نسبة إلى جبل اسمه “لوبرناس” وهو جبل للإغريق القدماء جعلوه رمزًا للشعر، ونسبوا إليه الشعراء النابهين.

ويقول الدكتور عبد الرحمن عثمان عن هذا المذهب وعن رائده: إن رائد هذا المذهب هو الشاعر الفرنسي “شارل لوكنت ديلي” وقد قام هذا المذهب مخالفًا للاتجاه الرومانتيكي، ومطورًا من نظرية الفن للفن، فالنزعة البرناسية تتفق مع نظرية الفن للفن في توجيه الشعراء إلى القيم الجمالية، وصرفهم عن العكوف على الموضوعات الذاتية التي تجعل من الشعر وسيلة وأداة للتعبير عن معان ضيقة محدودة تسلبه قيمته، وتجعله دائمًا خادمًا لا مخدومًا.

فالجمال هو غاية الشعر وليس له غاية سوى أن يكون جميلًا، والشعر لا ينبذ بالموضوعات الأخلاقية، ولا يشرف بالمواعظ والحكم واستكناه الحقائق المستقرة في الطبيعة، وإنما جمال الشعر في نصوع الديباجة وحسن التمثيل وقوة التجسيم، فليس من منهجه البحث في الأخلاق أو نشدان الحقائق، وإنما المنهج الخليق هو إبراز الصور الجميلة وإثارة الخواطر بما يسلكه من حسن تعبير وجمال تصوير.

طريقة البرناسيين في الشعر:

وتتجه البرناسية بالشعر إلى الطبيعة مطالبة الشاعر بأن يجلو جمال الطبيعة، وأن ينشر للناس محاسن الحياة في تعبير جميل، والشاعر العظيم عند البرناسيين هو الذي يستطيع أن يحشد القراء حول شعره، ويستميل الألباب إلى جمال فنه وقوة بيانه وتتابع المشاهد والصور التي يصورها في أدبه، فالتأنق في التعبير، وإبراز الصور على نحو جميل مثير، هما الأساس الذي ينهض عليه المذهب البرناسي.

ومن الأمثلة التي تدل على طريقة البرناسيين في الشعر قصيدة “البحيرة” لشاعرهم “لوكنت ديلي” وقد جاءت هذه القصيدة عند هذا الشاعر البرناسي على نسق يختلف عن النسق الذي جاءت به قصيدة البحيرة للشاعر الرومانتيكي “لامرتين” فلامرتين في قصيدة البحيرة يعبر عن عاطفته الذاتية، ويجعل موضوع قصيدته عاطفة الحب التي كانت تربطه بمحبوبته التي ماتت، فيناجي “لامرتين” البحيرة، ويتذكر ذكريات حبه مع هذه المحبوبة التي رحلت عندما كان يجلس معها أو إلى جوارها عند البحيرة.

فـ”لامرتين” في قصيدته “البحيرة” يصف مشاعره الذاتية، أما الشاعر البرناسي فإنه يصف البحيرة فيقول: وحينما ينتشر البخار من زفرات الليل العبوس، يهب إعصار من البعوض، يطن طنينًا كريهًا خارجًا من الطين الدافئ، ومن العشب الذي انعقد حوله الدخان، ويختلط بالهواء الراكد جماعات جماعات، على حين أن هناك فهودًا وأسودًا خلال الأحراش الملتفة دامية الحلقوم، قد أتخمت من لحوم فرائسها ترد الماء حين تهجع الصحراء، فالفهود تندفع في سيرها مدمرة، وهي تجمجم ظمأ ولذة، والأسود في خطوها الوئيد تستعلي أن توقظ ما دونها بأسًا من الهوام المفترسة.

فـ”لامرتين” كما قلنا يجعل من قصيدته تعبيرًا عن ذكريات كانت له مع حبيبته على شاطئ البحيرة، فهو حريص على استعراضها مع الصخرة والأمواج والزبد، كما يقول الدكتور عبد الرحمن عثمان.

فأما “لوكنت ديلي” فإنه حريص على أن يصف مناظر الطبيعة التي تكتنف البحيرة عادة، فمن ليس يتنفس البخار والضباب إلى جحافل من البعوض الكريه، تنسل من الطين الدافئ والعشب الداكن؛ ليدور مع الهواء. فهذه الصورة يقرنها بصورة أخرى يتخيلها ويجسمها لنا حتى كأنها تمر حقيقة أمام أعيننا، وهي صورة الفهود المتخمة التي أسرعت مع الليل؛ لترد ماء البحيرة حتى تتم لها اللذة بشراب هنيء بعد أن التهمت فريسة من الفرائس، وكذلك صورة الأسود التي تمشي في جلال وكبرياء ثقة من أنها سترد الماء، ولكن في غير لهفة أو حرص شديد.

إذن طبيعة التعبير عند البرناسيين تختلف عن طبيعة التعبير عند الرومانتيكيين، وكتّاب هذه النزعة أو هذا المذهب يحرصون على اختيار الألفاظ لصورهم بحيث تجيء مناسبة للصورة التي يراد إبرازها، وتكون مساعدة في توفير الجمال الذي هو غاية لهذا المذهب.

وفي نقدهم للنصوص الأدبية يبحث البرناسيون، كما يبحث أصحاب الفن للفن عن الجمال الخالص في الأدب، ولا يُقوّمون هذا الأدب على أي اعتبار آخر غير اعتبار الجمال، فلا شأن لهم بالأهداف الخلقية أو القيم المعنوية التي يحتويها هذا الأدب، إنما همهم كله منصرف إلى جمال التعبير والتصوير في الأدب.

error: النص محمي !!