المذهب الثاني في حكم العمل بالحديث المرسل
ذهب جماعة من الأئمة إلى قبول الحديث المرسل والعمل به بشروط، من هؤلاء الإمام الشافعي كما ذهب إلى ذلك المحققون من الحنفية أيضًا.
أولًا: مذهب الإمام الشافعي في الاحتجاج بالحديث المرسل:
اختلف العلماء في فهم مذهب الإمام الشافعي في الاحتجاج بالحديث المرسل، فمنهم من قال: إن الإمام الشافعي يردُّ الحديث المرسل مطلقًا، ومنهم من قال: إن الإمام الشافعي لا يردّ المراسيل ولكنه يُرجّح بها عند التعارض، ومنهم من قال: إن الإمام الشافعي يحتجّ بمراسيل سعيد بن المسيب مطلقًا، ومنهم من قال: إنه يستحبّ العمل بمراسيل سعيد بن المسيب ولا يُوجبه، ومنهم من قال: إن مراسيل سعيد بن المسيب عنده كمراسيل غيره. ولكن من يرجع إلى كتاب (الرسالة) للإمام الشافعي يجد أن الإمام الشافعي يحتجّ بمراسيل كبار التابعين بشروط ذَكَرها في رسالته، ولا يخصّ مراسيل سعيد بهذا؛ بل لو فقدت مراسيل سعيد ما شرطه الشافعي ردَّها، وسنذكر شروط الإمام الشافعي التي شرطها في مراسيل كبار التابعين لتكون مقبولة عنده.
ومن المعلوم أن (الرسالة) للإمام الشافعي برواية الربيع بن سليمان الجيزي هي من كتابه الجديد.
الشروط التي شرطها الإمام الشافعي لقبول الحديث المرسل:
شرط الإمام الشافعي شروطًا في المُرسِل، وشروطًا في المُرسَل حتى يكون الحديث المرسل عنده مقبولًا:
أولًا: شروط المُرسِل -بكسر السين-: شرط الإمام الشافعي فيمن يُحتج بمرسله شروطًا وهي:
الأول: أن يكون المرسل من كبار التابعين، فإن كان المرسل من صغار التابعين؛ ردَّ الإمام الشافعي مرسله.
الثاني: إذا سمى المُرسِل من أرسل الحديث عنه سمَّى ثقة لا مجهولًا ولا مرغوبًا عن الرواية عنه.
الثالث: إذا شارك المُرسل أحدًا من الحفاظ في رواية حديث لم يخالفه.
ثانيًا: شروط المرسَل -بفتح السين-: شرط الإمام الشافعي في الحديث المرسل الذي يحتج به شروطًا وهي:
الأول: أن يأتي الحديث المرسل من وجه آخر مسندًا، فإن لم يأتِ من وجه آخر مسندًا شرط فيه ما يأتي:
الثاني: أن يأتي من وجه آخر مرسلًا أرسله من أخذ العلم من غير رجال المرسل الأول ممن يُقبل عنه العلم.
الثالث: أن يوافق الحديث المرسل قول بعض الصحابة.
الرابع: أن يُفتي أكثر العلماء بمقتضى الحديث المرسل.
فإذا تحققت هذه الشروط في الحديث المرسل كان مقبولًا معمولًا به عند الإمام الشافعي، وإذا لم تحقق هذه الشروط في الحديث المرسل ردَّه الشافعي، ومع ذلك فإن الحديث المرسل الذي اجتمعت فيه هذه الشروط لا يكون مثل الحديث المتصل في الاحتجاج به.
قال الإمام الشافعي في رسالته: “ولا نستطيع أن نزعم أن الحجة تثبت به -أي: بالحديث المرسل الذي تحقَّقت فيه هذه الشروط- ثبوتها بالمتصل. وهذا الذي ذهب إليه الإمام الشافعي من تقديم الحديث المتصل على الحديث المرسل هو الذي ذهب إليه الإمام أحمد وغيره من أئمة الحديث.
مثال للحديث المرسل الذي تأيَّد بما جعله مقبولًا عند الإمام الشافعي: أخرج المزني قال: قال الشافعي: أخبرنا مالك عن زيد بن أسلم عن ابن المسيب: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع اللحم بالحيوان))، فقد تأيَّد مرسل سعيد بن المسيب بأمور ثلاثة جعلته مقبولًا عند الإمام الشافعي، وهي:
أ. لهذا المرسل شاهد آخر أرسله من أخذ العلم من غير رجال المرسل الأول، وهو قال الحافظ السيوطي: “أخرج البيهقي في المدخل من طريق الشافعي عن مسلم بن خالد عن ابن جريج عن القاسم بن أبي بزة قال: قدمت المدينة فوجدت جزورًا قد جُزرت، فجُزِّئت أربعة أجزاء كل جزء منها بعناق، فأردت أن أبتاع منها جزءًا فقال لي رجل من أهل المدينة: “إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يباع حي بميت”، فسألت عن ذلك الرجل فأخبرت عنه أخيرًا، قال البيهقي: فهذا حديث أرسله سعيد بن المسيب، ورواه القاسم بن أبي بزة عن رجل من أهل المدينة مرسلًا، والظاهر أنه غير سعيد فإنه أشهر من ألا يعرفه القاسم بن أبي بزة المكي، حتى يسأل عنه.
ثم إن مرسل سعيد بن المسيب تأيد بحديث آخر قال البيهقي: “وقد روينا مرسل سعيد بن المسيب من حديث الحسن عن سمرة بن جندب، عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن الحفاظ اختلفوا في سماع الحسن من سمرة في غير حديث العقيقة، فمنهم من أثبته فيكون مثالًا لما له شاهد مسند، ومنهم من لم يثبته فيكون أيضًا مرسلًا انضم إلى مرسل سعيد بن المسيب.
ب. قول الصحابي: فعن ابن عباس: “أن جذورًا نُحرت على عهد أبي بكر رضي الله عنه، فجاء رجل بعناق فقال: أعطوني جزءًا بهذه العناق، فقال أبو بكر رضي الله عنه: لا يصلح هذا”. وهذا الحديث أخرجه المزني.
ج. فتوى العلماء: فقد أفتى العلماء ومنهم فقهاء المدينة السبعة بما يوافق مرسل سعيد بن المسيب، قال المزني: “قال الشافعي: كان القاسم بن محمد وابن المسيب وعروة بن الزبير وأبو بكر بن عبد الرحمن يُحرمون بيع اللحم بالحيوان عاجلًا وآجلًا يعظمون ذلك، ولا يرخصون فيه”، قال الشافعي: “وبهذا نأخذ كان اللحم مختلفًا أو غير مختلف، ولا نعلم أحدًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خالف في ذلك أبا بكر، وإرسال ابن المسيب عندنا حسن”.
قال الحافظ السيوطي: “وقد نقل ابن الصباغ وغيره هذا الحكم -أي: تحريم بيع اللحم بالحيوان- عن تمام السبعة أي: فقهاء المدينة السبعة” وهو مذهب مالك وغيره فهذا عاضد ثانٍ للمرسل”، قال الإمام النووي: “ثم المرسل حديث ضعيف عند جماهير المحدثين، والشافعي وكثير من الفقهاء وأصحاب الأصول”، ثم بيَّن الإمام النووي أن الشافعي قد احتج بالمرسل الذي تقوى بما ذكرنا سابقًا، هذا والله أعلم.
ثانيًا: ذهب المحققون من أتباع أبي حنيفة -رحمه الله تعالى- إلى الاحتجاج بالحديث المرسل بشروطٍ أن يكون مرسله من أهل القرون الثلاثة الأولى الفاضلة، الذين زكَّاهم النبي صلى الله عليه وسلم وعدلَّهم، وأثنى عليهم، واستدلوا على ذلك بما يأتي:
عن عبد الله مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينُهُ شهادته)) الحديث أخرجه البخاري ومسلم.
قال السخاوي: “خص بعض المحققين من الحنفية الحديث المرسل الذي يُقبل بأهل الأعصار الأُوَل” يعني: القرون الفاضلة لما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((خير الناس قرني ثم الذين يلونهم)).
قال الحافظ السيوطي: “محل قبول الحديث المرسل عند الحنفية ما إذا كان مرسله من أهل القرون الثلاثة الفاضلة، فإن كان غيرها؛ فلا، لحديث: ((ثم يفشوا الكذب))، ولكن هذا التعديل الذي ورد في الحديث لأهل القرون الثلاثة الأولى الفاضلة، إنما هو باعتبار المجموع وليس باعتبار الجميع، بمعنى أنه ليس تعديلًا لكل فرد من التابعين، والذين جاءوا بعدهم؛ فقد وُجد في زمن التابعين الضعفاء والمبتدعة، بل وُجد في زمن الصحابة من غير الصحابة من ابتدع وخالف.
وقد ذهب إلى القول بنفي القدر معبد بن خالد الجُهني، كما جاء ذلك في حديث يحيى بن يعمر في (صحيح الإمام مسلم)، وقد عرض يحيى بن يعمر ما قاله معبد بن خالد الجهني على عبد الله بن عمر، وتبرَّأ ابن عمر ممن يقول بنفي القدر، بل ظهر الخوارج في زمن الصحابة أيضًا، فقد خرجوا على الإمام علي رضي الله عنه ولذلك ظهر القول في الرجال جرحًا وتعديلًا في زمن الصحابة، وإن كان قليلًا نادرًا لضعف الدواعي إليه.
كما بدأ الصحابة ينظرون في الرواة ولا يقبلون من كل من يُحدِّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثه، بل بدءوا في تمحيص المرويات، عن مجاهد قال: “جاء بشير العدوي إلى ابن عباس فجعل يُحدِّث ويقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل ابن عباس لا يأذن لحديثه، ولا ينظر إليه، فقال: يا ابن عباس، ما لي لا أراك تسمع لحديثي أُحدِّثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تسمع؟ فقال ابن عباس: إنا كنا مرة إذا سمعنا رجلًا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتدرته أبصارنا، وأصغينا إليه بآذاننا، فلما ركب الناس الصعب والذَّلول لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف”. أخرجه الإمام مسلم في مقدمة صحيحه.
وعن محمد بن سيرين قال: “لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة، فيؤخذ حديثهم، ويُنظر إلى أهل البدع فلا يُؤخذ حديثهم” أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه، وإنما وقعت الفتنة بمقتل الخليفة الراشد العادل عثمان بن عفان رضي الله عنه سنة خمس وثلاثين من الهجرة، فالتعديل الذي ورد في حديث عبد الله بن مسعود وعمران بن حصين وغيرهما، إنما هو تعديل للمجموع، وليس تعديلًا للجميع؛ فلا يُنافي هذا أن يوجد في التابعين أو الذين جاءوا بعدهم مبتدعة أو فسقة، ولكن هذا فيهم قليل بالنسبة لغيرهم من الذين جاءوا بعدهم.
قال الحافظ ابن حجر: “واستدل بهذا الحديث -أي: حديث عبد الله بن مسعود- على تعديل أهل القرون الثلاثة، وإن تفاوتت منازلهم في الفضل، وهذا محمول على الغالب والأكثرية؛ فقد وجد فيمن بعد الصحابة من القرنين -أي: من التابعين وأتباع التابعين- من وجدت فيه الصفات المذكورة المذمومة، لكن بقلة بخلاف من بعد القرون الثلاثة، فإن ذلك كثير فيهم وأشهر”.