المذهب الرابع في حكم العمل بالحديث المرسل
ذهب جماعة من العلماء إلى أن الحديث المرسل أرجح وأقوى من الحديث المسند المتصل.
وجهة نظرهم: ترجع وجهة نظر هؤلاء الأئمة إلى الآتي:
أولًا: الإمام الثقة إذا أرسل الحديث وأضافه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن ذلك يدلّ على صحة الحديث؛ لأن الإمام الثقة مع أمانته وديانته لا يستجيز أن يُرسل الحديث ويضيفه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم إلا إذا كان واثقًا أن من أسقطه من الإسناد ثقة، وأن الحديث صحيح.
ثانيًا: الإمام الثقة إذا أرسل الحديث، فإنه يكفي الناس مؤنة البحث عن رجاله وصحته، ويكون هو المسئول عن صحته، أما إذا ذكر الحديث بالإسناد المتصل، فإنه يُحيل القارئ على البحث عن رجاله، وعن مدى صحته؛ لذلك قالوا: من أسند فقد أحالك، ومن أرسل فقد تكفَّل لك، أي: بالصحة.
قال ابن عبد البر -وهو مالكي المذهب-: “وقالت طائفة من أصحابنا -أي: المالكيين- مراسيل الثقات أولى من المسندات، واعتلوا بأن من أسند لك فقد أحالك على البحث عن أحوال من سماه لك، ومن أرسل من الأئمة حديثًا مع علمه ودينه وثقته، فقد قطع لك على صحته وكفاك النظر”.
قال الخطيب البغدادي حاكيًا قول من ذهب إلى أن الحديث المرسل أقوى من الحديث المسند المتصل: قال بعضهم: إن المنقطع عند أهل النظر أبين حجة وأظهر قوة من المتصل، فإن من وصل الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإسناد إذا كان لما سمع مؤديًا، وإلى الأمة ما حمل مسلمًا، وإذا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كان للشهادة قاطعًا، ولصدق من رواه له ضامنًا، ولا يظن بثقة عدل أن يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا لتلقِّيه خبرًا متواطئًا، وهذا الكلام غير صحيح.
الرد على أصحاب هذا المذهب:
قال الخطيب البغدادي في الرّدّ على أصحاب هذا المذهب: الذين يفضلون المرسل على المسند، وقول المخالف: إن المنقطع عند أهل النظر أبين حجة وأظهر قوة من المتصل دعوى باطلة؛ لأن أهل العلم لم يختلفوا في صحة الاحتجاج بالأحاديث المسندة، واختلفوا في المراسيل، ولو كان القول الذي قاله المخالف صحيحًا؛ لوجب أن تكون القضية بالعكس في ذلك”.
أما عن قولهم: إن الإمام الثقة لا يُرسل الحديث إلا إذا كان واثقًا أن الذي أسقطه من الإسناد ثقة، فهذا قول غير مسلم؛ لأنه قد عُلم من حال الثقات أنهم يُمسكون عن تعديل الراوي وجرحه، فإذا سئلوا عنه جرَّحوه تارة وعدَّلوه أخرى، فعلم بذلك أن الإمساك عن الجرح ليس تعديلًا، كما أن الإمساك عن التعديل ليس بجرح.
ومن الممكن أن يكون الممسك عن الجرح والتعديل أمسك عن الأمرين للجهل بحال الراوي من عدالة، أو جرح؛ فيمسك عن الأمرين، وعلى فرض أن الذي أسقطه المرسل من الإسناد ثقة عنده، فقد يكون ثقة عنده ضعيفًا عند غيره من علماء الجرح والتعديل؛ لأن المجرِّح اطلع على جرح في الراوي لم يطلع عليه المرسل.
ومن المعلوم أن الجرح المفسر مقدم على التعديل، لأن مع الجارح مزيد علم لم يطلع عليه المُعدِّل، ولكن المعدِّل أخبر عن ظاهر حاله، وسيأتي ذلك مفصلًا في باب الجرح والتعديل إن شاء الله تعالى.
قال الإمام الغزالي -وهو يردُّ على من احتج بالحديث المرسل-: “والدليل على أن الحديث المرسل مردود وهو المختار أن الراوي لو ذكر شيخه ولم يُعدّله، وبقي مجهولًا عندنا؛ لم نقبله، فإذا لم يسمه فالجهل أتمّ، فمن لا تُعرف عينه كيف تعرف عدالته”، وعلى ذلك إذا بطل الاحتجاج بالحديث المرسل؛ بطل القول بترجيح المرسل على المتصل من باب أولى.