Top
Image Alt

المذهب الرمزي

  /  المذهب الرمزي

المذهب الرمزي

يبدو أن الفترة التي أعقبت الرومانتيكية ظهرت فيها مذاهب كثيرة ومتتابعة، حتى إن الدكتور عبد الرحمن عثمان يذكر ذلك ويقول: إن هذه الفترة لا يستطاع تمييز إنتاج الأدباء والنقاد فيها على وجه يقال فيه: إن هذا الشاعر أو ذلك الناقد قد أخضع أعماله الأدبية للمذهب البرناسي مثلًا منصرفًا بها عن الاتجاهات الرومانسية أو الرمزية أو مال بها عن طريقة الفن للفن؛ لأن الاستلهام الكامل لمذهب بعينه والتنكر لما سواه أمر لم يظهر في الأعمال الأدبية أو النقدية في هذه الفترة.

وذكر أسماء لشعراء مشهورين فقال: فالقصيدة الواحدة من شعر “رامبو” أو “برلين” أو “مالارميه” تظهر فيها اتجاهات مختلفة ونزعات شتى.

على أية حال الرمزية كانت مذهبًا جديدًا في نظم الشعر، دعا إليه الشاعر الفرنسي “شارل بودلير” الذي عاش ما بين عامي ألف وثمانمائة وواحد وعشرين وألف وثمانمائة وسبعة وستين، ووجدت بذور هذا المذهب في شعر “بول برلين” وتحمس له طائفة من الشعراء أمثال “رامبو” و”مالارميه”.

وفلسفة الرمزيين تقوم على أنه لا ينبغي للشاعر أن يستنفد كل ما في وجدانه ليسكبه في وجدان الآخرين، بل عليه أن يوحي إلى نفوسهم عن طريق الصورة والموسيقى حالات نفسية، تثير فيها إحساسًا مشابهًا لما يحس به الشاعر.

فالمعول عند الرمزيين؛ المعول عليه عندهم هو الإيحاء والإيماء، وليس الوضوح والإفصاح؛ ولذلك تأتي موسيقى الشعر عنده في المقام الأول من الأهمية، أهم من المعاني ومن الأساليب؛ لأن الموسيقى عندهم تمثل الجانب الحي في الشعر؛ إذ إن الإيحاء لا يكون إلا بها، وعلى الشاعر عندهم أن يُعنى بموسيقى شعره، وأن يربط هذه الموسيقى بالصورة الشعرية في رباط وثيق حتى تستطيع أن توحي بالحالة النفسية التي يريد الشاعر نقلها إلى متلقي هذا الشعر.

وهذه الحالة من الإيحاء تحمل الإنسان على الغوص في نفسه لتوضيح المفارقات العاطفية أو الإحساس بجوها، واللغة بطبيعتها تعجز عن التصريح بهذه الحالات، ولذلك فهم يعتمدون على الإيحاء، ومن المسالك التي يتوصلون بها إلى الإيحاء ما يسمى عندهم بمبدأ تراسل الحواس، ومعناه أن تستعير حاسة وظيفة حاسة أخرى، أو أن توصف مدركات حاسة بما توصف به مدركات الحواس الأخرى، فمثلًا الورد الأصفر يشم الأنف منه نغمًا حزينًا، والأذن يمكن أن تسمع ألوانًا من الأصوات، وهو كما قلت ما يسمى عندهم تراسل الحواس.

والقصد من ذلك هو التوسعة على الشاعر في استعمال الألفاظ بسلب بعض الخواص التي لها، وتخليصها من معانيها ودلالاتها المعجمية حتى يتمكن الشاعر من تصوير مشاعره وأفكاره في سعة وحرية، فهذا شاعرهم “إدجر ألن بو” يقول مثلًا: إني أسمع قدوم الليل، وأرى من كل قنديل صوتًا ناعمًا رتيبًا، ينساب إلى أذني. فانظر كيف جعل قدوم الليل يُسمع، وجعل لكل قنديل صوتًا، ووصف هذا الصوت بأنه ناعم، ووصفه كذلك بأنه رتيب ينساب إلى الأذن.

وفي الرمزية ميل عن العبارات الكاشفة للمعنى الموضحة له، فهم يقبلون على الألفاظ التي تستر المعنى بشيء من الغموض والإبهام حتى يتحقق لهم ما يرمون إليه من الإيحاء؛ لأن الإيحاء في تصورهم هو الذي يحمل المتعة، ويستولي على الجمال، والوضوح عندهم شيء مبتذل لا يحرصون عليه، والشعر عندهم كالموسيقى الموحية، فرسالته أن يفعم النفوس بالنشوة، وأن يصبح معبرًا؛ يصل ما بين عالم الماديات المحسوسة وبين عالم المعنويات، وذلك لا يتحقق إلا بما يشيع في البيت من السحر والتأثير.

والعبارات الموحية عندهم هي الأثيرة والمفضلة، وفي طبيعة مذهبهم أو تعبيرهم الشعري التمرد على القافية لأنها في ظنهم تمثل معوِّقًا وقيدًا، وعندهم أن الشاعر ينبغي أن يكون حرًّا في التعبير عن خواطره؛ ولذلك هو يستطيع أن يعبر عن انفعاله النفسي متجاوزًا التقاليد القديمة المتمثلة في قواعد النحو وطريقة القافية، وبناء القصيدة على ما يقتضيه إحساسه الذي يريد أن يوحي به ويصوره، ولذلك نجد في أدبهم كثيرًا من هذه المفردات والجمل التي لا يمكن أن نفهم على النحو التقليدي علاقات تقوم بينها في إطار التشبيه أو الاستعارة، كقولهم مثلًا: السكون المشمس. وكقول بعضهم في بعض أشعاره: وفي جسمي الذي يستبد به الدم الداكن، يتمطى الكسل في تثاؤب موصول، إن غلالة من الشفق الأبيض البارد تنتشر في جمجمتي، تلك الجمجمة التي تعتصرها حلقة من الحديد، وحول جمجمتي حلقة محكمة من الحديد، وكأنها القبر المهجور.

ثم يقول مصورًا سأمه وعجزه وضجره وملله: وما أزال أهبط فيما حفرت من قبرٍ لنفسي مستشرفًا انقشاع الملل، فإن زرقة السماء تلوح كالبسمة المرفة على الأغصان اليقظى؛ حيث تختال العصافير مبتهجة اختيال الزهر في ضوء القمر.

وتتلخص خصائص هذا المذهب فيما يلي:

تتجه الرمزية إلى الحديث عن المجهول، وتستثير بأسلوبها إحساس القارئ وتشد انتباهه، وتحاول إيقاظ المشاعر حتى يجد بنفسه ما يروقه في العمل الأدبي، عسى أن يجد في تضاعيف نفسه وفي تضاعيف هذا العمل الأدبي ما لا يخطر على بال الأديب، والصورة عندهم تشير وتوحي، ولا تصرح ولا تنقل معنى ولا فكرًا، وإنما تنقل حالة من حالات النفس.

والرمزية ترى أن الغرض من الشعر هو الإيحاء؛ ولهذا وجب في طبيعة أدبهم أن تختار الكلمات الموحية ذات الإشعاعات، فالكلمة عندهم كالصدى الوافد من بعيد -كما يقول الدكتور عبد الرحمن عثمان، والصدى هو رجع الصوت- وإذن فإن وراء الكلمة ما يشبه الصوت، وعلى القارئ أن يصيخ بسمعه إليه. فاللغة إذن لا تقصد لذاتها، وإنما تستعمل لعلاقتها بحقيقة أخرى وراء الحواس أو لا تدركها الحواس، فالألفاظ لا تلازم الاستعمال فيما وضعت له؛ ولذلك سلكوا ما يسمى تراسل الحواس، ووصفوا مدركات الحاسة بما توصف به مدركات الحواس الأخرى.

والنقد عندهم يعتمد على القيم الجمالية التي تتوافر للأعمال الفنية من حيث التناسق الموسيقي والإيحاء المنوطان باختيار الألفاظ.

هذه هي الرمزية، وهذه هي طبيعتها، والطبيعة الغالبة عليها هي طبيعة الغموض بطبيعة الحال.

error: النص محمي !!