المذهب الرومانتيكي
ظهور الرومانتيكية بعد الكلاسيكية:
نتحدث -بمشيئة الله وتوفيقه- عن الرومانتيكية المذهب الأدبي الذي ظهر بعد الكلاسيكية، وكلمة الرومانتيكية تعني ثورة على هيمنة العقل وسلطانه، هذه الهيمنة التي أكد عليها الكلاسيكيون.
وتعتمد الرومانتيكية على مشاعر النفس، وعلى الوجدان الفردي، وتعتمد على إطلاق العنان للعواطف دون قيد حتى تتخطى حواجز العقل؛ لأن العقل مهما بلغت قوته يعجز عن ارتياد المناطق التي ينفذ إليها القلب وتحلق فيها المشاعر والعواطف الإنسانية.
وكما كانت هناك جهود فلسفية وأدبية مهدت للكلاسيكية كذلك كان للرومانتيكية تمهيد بجهود فلسفية وأدبية أرادت أن يتفاعل الأدب على نحو جديد مع الظروف الجديدة التي وجدت في أوربا -وخاصة في فرنسا- هذه الظروف التي تتعلق بالسياسة والاجتماع، فقد تطلعت الطبقة الوسطى في القرن الثامن عشر الميلادي إلى تغيير القوانين الاجتماعية التي تحمي مصالح الطبقات التي كانت تسيطر على المجتمع وتهدر مصالح الطبقات الأخرى -الطبقة الوسطى وما دونها.
وبدأ الثائرون على الأوضاع القائمة يدعون إلى فكر جديد وإلى تحول في المجتمع، وأراد النقاد والفلاسفة أن ينهض الأدب بدوره في هذه الظروف الجديدة التي تختلف عن الظروف التي هيأت لظهور الكلاسيكية من قبل.
وبما أن الكلاسيكيين كانوا يولون وجوههم نحو الأدب الإغريقي والروماني فإن الرومانتيكيين خالفوهم في ذلك، والذي غلب على النقد الرومانتيكي والأدب الرومانتيكي هو التمرد على التقليد، والدعوة إلى الابتكار والتجديد.
والرائد الأكبر للمذهب الرومانتيكي هو الشاعر “فيكتور هيجو”، ولم يكن هو وحده الذي مهد لظهور الرومانتيكية، وإنما كان معه شعراء ونقاد آخرون مثل: “فولتير وشاتبيان” وغيرهما لكن “فيكتور هيجو” هو الذي أثر تأثيرًا كبيرًا بأفكاره الجريئة وأدبه الذي صاغه على نحو جديد ليكون ممثلًا لهذا المذهب الجديد الذي قام على أنقاض الكلاسيكية.
في ديوانه بعنوان “التأملات” كما يقول الدكتور عبد الرحمن عثمان، وفي قصيدة عنوانها “تفنيد اتهام” دحض “فيكتور هيجو” اتهامات الذين يهاجمون المذهب الجديد؛ فقد حمل على مخالفيه حملة شديدة سفه فيها آراءهم التي لا تواكب الاتجاه الجديد الذي مهد له السبيل، ومما جاء في هذه القصيدة قوله:
إذًا فأنا الداعية الرهيب الذي أرخص ذوقًا جيدًا، واستهان بشعر القدامى، ولم يبالِ أن يطأ هذا وذاك بقدميه في فترة حرجة من هذا القرن اضطربت فيها القلوب من اختلاط الأفكار، وتناكر الآراء، فغشّى آفاق الأدب وحجب ضوءها.
وأنا الذي أطفأ الجمال الذي كان يتألق في اللغة والفن، وأنا الذي أشاع في الفن التمثيلي روح الفوضى، وسلك بالأدب سبيلًا لا يواكب الاتجاه الكلاسيكي، فأنا الذي اجترأ على التراث، وأطاح بمعوله كل ذلك، وبدد ما أنفق فيه الأقدمون من الليالي الطوال.
ثم يقول: ذلك ما تنقمون مني، وهذا هو رأيكم في فني فلأكن كما تقولون، وإني لراض عما ترضون عنه في أنفسكم من نصوع أدبكم وخلود نماذجكم الفنية، وأقبل منكم السخرية من إنتاجي، بل سوف أقدم لكم شكري على تلك السخرية؛ إذ لست مستجيبًا في شعري إلا لروح الفن، ولست ملبيًا إلا لهواتف الحرية التي تهتف بي في نماذجي.
ثم يقول: إن علينا أن نتفهم طبيعة الفترة التي نعيش فيها؛ لأنها لا تشبه تلك الفترات التي كان لها طابع الاستقرار والتواكل والرتابة والانقطاع إلى شئون الآخرة.
ولهذا الاختلاف، فقد صنع عصرنا اتجاهًا جاء على غراره؛ إذ أناط به تهذيب قواعد الفن وإطلاقه من أغلاله حتى يرتاد كل مجال، فإذا قبلت جانبًا يسيرًا من اتهاماتكم، وساغ لي أن أعيره نظرة عابرة، فإنه يطيب لي أن أقدم إليكم ما لا تعرفون عني حتى يتاح لكم أن تروا مني شخصًا كريهًا تتزاحم فيه العيوب.
إذن فاسمعوا: أنا الذي اقترف جرائم أدبية غابت عنكم، فقد نسيتم أنني تناولت مضامين غامضة، وأني خدشت الأخلاق وأثخنت الفضائل جراحًا، والتمست لأمراض الخُلق دواء لا يلائم الداء، وقد غاب عنكم كذلك أني اغتصبت أكثر نماذجي من الآخرين. إن اللغة التي يتحدث بها الشعب أو النبلاء هي الأداة التي تفصح عن نهج المجتمع ونظامه في تناول الحياة، فأما الشعر فإنه يتخذ نمطًا عاليًا من هذه اللغة بحيث تستجيب له أذواق المجتمع، ولا تماري فيه أفكار الأمة كلها، على الرغم من تباين الطبقات وتنوع أذواق الشعب وأفكاره.
ثم يقول: إن اللغة الفرنسية في عصر الثورة هي نفس اللغة قبل الثورة، فمرد الحسن والقبح حينئذ راجع إلى استعمال الكلمات ونظمها في أسلوب متجانس، ولهذا فالكلمة الذابلة السوقية التي قد يستحسنها “موليير” أحيانًا يفطن إليها “راسين” ويشعر برداءتها في شعر “موليير” وإذا أحس “كورني” أن لفظًا ثقيلًا جسم على بيت من شعره؛ فكر طويلًا في التخلص منه، فإذا أطال النظر، ولم يجد من ذلك مخرجًا تركه في مكانه؛ ليذهب هكذا على ألسنة الرواة، حتى إذا قرأه “مولتير” صاح إن “كورنيه” قد أسف، فلا يجد الشاعر مفرًّا من أن يخجل ويلوذ بالصمت.
أما إذا اعترضت على ما تعارفوا عليه من تقديم واجب أو تأخير لازم في الأحداث أو التعابير، وجدت أعضاء المجمع العلمي -تحت أرديتهم التقليدية- ينكرون علي تخطئة الأوائل، ويدفعون اعتراضي على الأقدمين لأن ما اشتبه فهمه علي إنما هو مجاز خفي، ومن أجل كل هذا أودعت في شعري روح الثورة ونشاطها، فانطلق كالريح العاصف في المجتمع الفرنسي الثائر، وأسلمت مقاليد الأساليب القديمة لأسلوب الثورة الجديد.
ويستمر “هيجو” في هذه القصيدة التي تحمل آراءه الثائرة على المذهب الكلاسيكي وقواعده، فيقول: كان فهم النقاد الكلاسيكيين للفن الشعري أن الكلمات النبيلة للأغراض النبيلة، وأن الكلمات السوقية لما يشبهها من الأغراض، فالمفردات النبيلة تطلب ما يشبهها نبلًا وسموًّا من المعاني، والكلمات الممجوجة الوقاح تستدعي ما يلائمها من المعاني خشونة ووضاعة، ولسمو المآسي وشرف أهدافها كانت ألفاظها سامية شريفة، حتى لتبدو من خلال الأساليب ذات إشعاع وجلال، كأن لها هيبة النبلاء، وهم يذهبون إلى “فرساي” في عربة الملك. فأما القبيل الثاني من الألفاظ فإن كلماته تظل قابعة في مواضعها، منطفئة الألوان، شاحبة؛ لأنها تستعمل في غرض مسف رخيص.
ثم يعبر عن رأيه بالنسبة لهذه المسألة -مسألة الكلمات والتفرقة بينها- على اعتبار أن هناك كلمات نبيلة، وكلمات سوقية، فيقول: ليست هناك كلمة نبيلة، وكلمة سوقية، لقد مزجت النوعين في إنتاجي، وخالطت الشعب كله، وعبرت عنه بلغته، فبدت أفكاري لامعة في اللغة التي يتحدث بها، وفي رأيي أن الفكرة المسروقة لا تأخذ مكانها في القلوب، ولن يشفع لها في ذلك التأنق في اختيار الكلمات، بل هي مدعاة خجل شديد.
ثم يقول: لقد واكبت الثورة بمنهج شعري مذهل، حوّل الاتجاه الأدبي كله، فلم أحفل إلا بتعاطف الكلمات لتقوم بحق المعنى، وتنهض به، وبهذا المنهج ارتفعت بالأدب إلى المستوى الذي أراده أرسطو لفن الكلام، وأعلنت أن الكلمات في مجال الفن ينبغي أن ينظر إليها نظرة متساوية، وعلى الأدب أن يتركها لكي تحتل مكانها بحرِّية فنية مطلقة لتنشر صورًا حية من العظمة والجلال.
إن البطولات الشامخة في مختلف مراتبها وعصورها ليست إلا موضوعات سهلة أمام جرأتي وصدق عزيمتي؛ لأنها تخضع في تناولها قبل كل شيء إلى مهارتي في التعبير عنها، وتفتقر في بعثها إلى براعتي على نحو مثير مؤثر.
ويستمر معبرًا عن ثورته فيقول: لقد تخطيت ما تواضعوا عليه، وحطمت مقاييسهم الأدبية، وسميت الأشياء بأسمائها، وصغت شعري الثقيل من شتى الموضوعات؛ إذ لا فضل عندي لموضوع على موضوع ما دامت البراعة الفنية بالغة مداها.
لقد كانت كلمات الكلاسيكيين قوية ذات جمال متجدد، كأنما كانت تستمد هيبتها وفخامتها من هيبة “لويس الرابع عشر”، وهو في شَعره المستعار، ولكن روح العصر منحها كل ما تشتمل عليه من خصائص.
ثم يقول: أخذت نذر الثورة الفرنسية تلوح، وبدأت سحبها تتجمع، فلما حانت الساعة صاحت بالكلمات أن تنبض بالاتجاه الثوري ذلك الاتجاه الذي كان غافيًا في تضاعيفها، وأهاب بها أن تطلق إيثار المشاعر التي كانت حديثة في ثنايا حروفها، وحينئذ تحولت الكلمات من حذلقة إلى شعور، واستبدلت بشَعرها المستعار ذؤابة ترف في الأسلوب الفاتن الجميل، وهكذا كان تحولنا إلى الأدب الجديد، أدب الثورة الذي يشاكل العصر، والذي يفصح عن طبيعته، فأنا إذًا متهم بإطلاق الأساليب من إسارها لتنطلق كما يشاء لها الانطلاق حرة ريّا بعبير الإحساس والمشاعر.
نعم لقد أطلقت الأسلوب في مجال المضمون الثوري، وأعلنت في المجتمع الفرنسي كله أنه يجب أن نلقي في سلة المهملات كل ما كتبه البلاغيون والنقاد والأدباء في العصر الكلاسيكي، وأن على الأدباء كي يثوروا على القيود التي تعوق الوثبة بالفن إلى حيث الحرية والتجديد، عليهم أن ينظروا في إنتاج أدباء الكلاسيكية؛ حتى يشهدوا بأنفسهم أن قصائدهم تمر أمام أبصارنا بطاء متثائبة لا نشاط فيها ولا تنوع، كأنما صفدت أبياتها بقيود من حديد، وليروا بأفكارهم كيف تدور مآسيهم في نطاق ضيق مظلم، حتى أصبح المقلدون منهم أشهر من أدباء الطبع، وأنبه من “راسين”.
أنا لا أبالي بالقواعد التي وضعها “بوالو” ولا أكترث بالحذلقة البلاغية التي يدافع عنها، بل إني أعلن على كل ذلك حربًا مدمرة، إنني في ثورتي الشعرية أشبه ما أكون بزعيمي ثورة فرنسا، فأنا عدو الكلمة المتعالية، وأنا المتمرد الذي يعصف بالأسلوب الخشن المسف، لقد وضعت قبعة الثورة الحمراء على معاجم اللغة القديمة.
ثم يقول هيجو: وقد مضيت إلى أبعد من هذا؛ إذ حطمت الأصفاد التي التي تحذو الكلمة الشعبية أن تأخذ مكانها في الأسلوب الأدبي، وقذفت إلى الجحيم تلك الكلمات القديمة المهجورة الفاترة، وقضيت على الالتواء والاختلاط في دلالة الألفاظ على معانيها. إن التفوق قي الفن لا يتسنى إلا لفنان يبذل قصارى جهده لإيجاد وحدة قوية تشد عمله الفني بعضه إلى بعض؛ بحيث تنتظم تلك الوحدة وسائل الفن وغاياته جميعًا.
ويتحدث “هيجو” عن طبيعة الفن المسرحي وحقيقته، فيقول: إن القوانين التي ينبغي أن تهيمن على الفن، هي تلك القوانين التي تتبلور فيها الطبيعة، فتنزل على أحكامها.
هذه هي الأفكار التي عبر بها “فيكتور هيجو” في قصيدته عن آرائه الثائرة على المذهب الكلاسيكي، وهذه الآراء تتبنى التجديد وتعصف بالقواعد التي أرساها الكلاسيكيون، فهو ينادي بالحرية في الفنون، ويسخر من هذه الفنون عندما لا تتكيف بالطبيعة، وتنسجم معها، إنه يريد أن يكون الأدب متسقًا ومتفقًا مع الظروف التي تحيط به.
وهذه المبادئ التزمت بقراءتها لك كما هي مترجمة، وقد ترجمها الدكتور عبد الرحمن عثمان في كتابه (مذاهب النقد وقضاياه). إذن تكون هذه القصيدة لـ”فيكتور هيجو” عند الرومانتيكيين مقام قصيدة فن الشعر لـ”بوالو” التي أودعها مبادئ المذهب الكلاسيكي.
والقواعد والأصول التي بني عليها، وقام عليها المذهب الرومانتيكي تتلخص فيما يلي:
أولًا: الحرية مكفولة للأديب، فليست هناك نماذج تحتذى، وإنما موهبة تستخدم في كل مجال، يرى الرومانتيكيون إذن أن النماذج الرائعة من الأدب التراثي القديم، الأدب اليوناني والإغريقي ليس بالضرورة الشاعر أو الأديب مطالبًا باحتذائها أو النسج على منوالها كما كان يقول الكلاسيكيون.
إن حرية الأديب هي الأساس الأول المعوّل عليه عند الرومانتيكيين، فلا يقبل عندهم أن يكون الشاعر أسيرًا لنماذج أدبية معينة، وما دامت الحرية مكفولة للأديب فإنه حر في اختيار موضوعاته، وليست هناك موضوعات جيدة وأخرى رديئة في الشعر، هذا هو الأصل الثاني، وليس هناك موضوع مناسب وموضوع غير مناسب، وإنما هناك شاعر جيد وشاعر رديء، فكل شيء صالح لأن يكون موضوعًا للشعر، والذي يبحث عنه في الموضوع أيًّا كان، كيف كانت صنعة الفنان فيه؟!.
الأصل الثالث: الفن لا يعترف بالقيود والأغلال، ولا يرضى بالحد من حرية القول، ولا يؤمن بالمعالم التي تحدد له طريقه، بل إن الفن هو أن يعتقد الفنان كما يحب أن يعتقد، وأن يفعل ما يريد أن يفعل، فهو الذي يختار: النوع والقصة والزمان، والمذهب، هكذا يقولون.
من الأصول التي قام عليها هذا المذهب كذلك: الدعوة إلى أدب جديد، يعلي من كرامة الطبقة المظلومة، ويرد إليها ثقتها وعدالة المجتمع ورحمته، واستتبع هذا من الأدباء أن يتبنوا في أدبهم المناداة بعدالة اجتماعية، وهذا ما فعله “هيجو” نفسه في روايته المشهورة (البؤساء) واستتبع هذا من أدباء الرومانتيكية الجنوح إلى الخيال والتصوف في حقائق التاريخ عند صياغة المسرحيات للوصول إلى الأهداف التي ينزعون إليها، ومنها تصوير مستقبل أفضل للطبقة المتوسطة، وإبراز تاريخ وطني جليل، وإذاعة اللوم المحلي، وبعثه في الصور الأدبية.
ولم يتقيد الرومانتيكيون برأي الكلاسيكيين في أن تكون المسرحية محتوية على خمسة فصول، كما حطموا ما يسمى بوحدة الزمان والمكان، وخلطوا المأساة بالملهاة، وأنتجوا ما يسمى بالدراما الرومانتيكية، وصارت الشخصيات في مسرحهم شعبية تتحدث بلغة الشعب وتتبنى قضاياه، ونتج عن ذلك كله أن النقد الأدبي انحصرت مهمته في فهم النصوص وشرحها وتفسيرها على أساس علاقاتها بأصحابها الذين ابتكروها.
إذن لو تأملنا سنجد أن الأسس التي قام عليها المذهب الرومانتيكي كانت مناقضة إلى حد بعيد للأسس التي قام عليها المذهب الكلاسيكي، وبناء على ذلك فإن طبيعة الأدب الرومانتيكي تختلف عن طبيعة الأدب الكلاسيكي، تميل طبيعة الأدب الرومانتيكي إلى التحرر من القيود القديمة إلى عدم احتذاء النصوص التراثية إلى أن يكون الأديب حرًّا في اختيار موضوعه، وفي اختيار لغته، وأن يكون تعبيره قريبًا من لغة الشعب، وأن يكون متبنيًا لقضايا هذا الشعب، وأن يكون خياله حرًّا طليقًا، يتخير ما يشاء من الأفكار ومن الصور دون تقيد بقيد أيًّا كان هذا القيد.