المذهب الكلاسيكي: نشأته، وقواعده
نأتي إلى الكلاسيكية:
يقول الدكتور عبد الرحمن عثمان في كتابه القيم (مذاهب النقد وقضاياه): تكمن بذور هذا المذهب في الخدمات الجليلة التي أداها الشعراء والمفكرون للأدب الفرنسي ولغته إبان القرن السادس عشر الميلادي، وقد تعهدت هذه البذورَ قرائحُ نافذة وظلت تنمو وتورق حتى بدأت دور الإثمار حوالي عام ألف وستمائة وتسعين من الميلاد، ومن ثم استقامت أصول المذهب على نحو ما تراه في قصيدة بوالو المشهورة: “فن الشعر”.
يقول الدكتور عبد الرحمن عثمان: ويشير اشتقاق كلمة Classism إلى الأهداف الجليلة التي نصبها المفكرون والداعون إلى المذهب نصب أعينهم؛ فهي مشتقة من الأصل اللاتيني Class التي تطلق على مجموعة من السفن الحربية أو التجارية؛ كما تطلق كذلك على مجموعة من الطلاب يتلقون العلم في مكان واحد بقصد التعلم؛ ومن هذا الأصل اللاتيني أخذ الفرنسيون في القرن السابع عشر كلمة Classism بمعنى الأدب الذي يصلح أن يكون أساسًا لتثقيف النشء وتهذيبه؛ فقالوا مثلًا غناء كلاسيك على معنى أن الغناء بلغ الجودة بحيث يصلح أداة لتهذيب النشء في دور التكوين … هذا إذن أصل اشتقاق الكلمة -كما يذكر الدكتور عبد الرحمن عثمان.
وكلمة الكلاسيكية في الأدب تعني: الاتباع، ويقول الدكتور عبد العزيز عتيق: إن الكلمة مشتقة من كلمة لاتينية تدل على الطبقة الممتازة في عصر الرومان ثم استعملت في الأدب رمزًا على الأدبيْن: الإغريقي، والروماني، الذين قاما على أساسهما عصر النهضة؛ كذلك أطلقت الكلاسيكية على خير ما أنتجته قرائح الأدباء في ذلك العصر.
يضيف: وقد كانت روائع الأدبين الإغريقي والروماني مجهولة مطمورة لا يعلمها إلا القليل، وظل الأمر كذلك حتى غزا الأتراك بيزنطة -أي قسطنطينية- فهرب الأدباء والعلماء منها يحملون معهم كثير من مخطوطات تلك الروائع القديمة؛ فأقبل عليها أدباء القرن السادس عشر وكانوا من قبل يحاكون ما شاع في القرون الوسطى من الأدب الشعبي؛ ولهذا عدلوا عن تلك المحاكاة مؤثرين عليها اتباع ما حمله إليهم الأدباء المهاجرين من بيزنطة من أدب الإغريق والرومان؛ فقلدوه في ملاحمه ومآسيه ومراثيه وهجائه…
كيف نشأت هذه الكلاسيكية؟:
نشأت بعد أن حدثت تغيرات جذرية -كما أشرنا في تعريف المذهب- وسبقت ظهور المذهب الكلاسيكي جهود لغوية وأدبية وفلسفية كذلك…
في حديثه عن نشأة المذهب بالكلاسيكي أشار الدكتور عبد الرحمن عثمان إلى جماعة في فرنسا تسمى جماعة الثريا، ظهرت ما بين عامي ألف وخمسمائة وألف وخمسمائة وخمسة وسبعين، وتحدث الدكتور عبد الرحمن عثمان عن جهود هذه الجماعة في تحريك الذوق الأوروبي -خاصة في فرنسا نحو أدب فرنسي أصيل، وأشار الدكتور عبد الرحمن أيضًا إلى مذهب مالير، وذكر أن مالير شاعر فرنسي كان له جهود في تحريك الذوق الأدبي والتمهيد لظهور المذهب الكلاسيكي.
فأجود الشعر عند مالير هو ما صدر عن صاحبه في أصالة ونظم بعناية؛ فالموهبة وحدها لا تقدم شعرًا خالدًا إلا بإعمال الفكر وكبت الخاطر، وإذن فالشعر عمل له قواعده التي تحكمه، وما قواعده إلا ثلاثة أشياء: هي اللغة، والأسلوب، والوزن.
وقد كان مالير يتشدد في استعمال الألفاظ، ولا يجيز للشعراء الترخص في استعمال الألفاظ الأجنبية عن لغتهم أو العامية أو القديمة، ولا يجيز للشاعر أن يخترع لفظًا؛ بل يؤكد وجوب اتجاه الشعراء إلى الارتباط بالكلمات الفرنسية التي يستعملها الفرنسيون والتي يفهمونها؛ ولأنه يريد أن يرقى بذوق الجماهير وجَّه الشعراء إلى أن تكون لهم أصالة في لغتهم، وحظر على الشعراء الاستهانة بقواعد النحو واللجوء إلى الضرورات، وحظر عليهم التساهل في بناء المفردات واستحداث مشتقات لا يجيزها قياس اللغة.
والأسلوب الشعري في رأيه ينبغي أن يحمل خصائص الأسلوب النثري من حيث الوضوح والاتجاه إلى أهداف تهذيبية نبيلة، وينهى مالير الشعراء عن اللجوء إلى الأساليب الشاذة التي تخالف الأصول وتصادم ما استقر عليه رأي الجمهور، وينهاهم عن الجنوح إلى التعبيرات الغائمة التي تفتقر إلى الوضوح والبيان، وينهاهم أيضًا عن الإطناب والثرثرة من غير طائل، ويدعوهم إلى أن يتعبوا أنفسهم ويكدوا عقولهم ليصلوا إلى التعبير الدقيق عن المعنى العميق الذي يراد التعبير عنه، والأسلوب الشعري في رأيه يجب أن يبرأ من العيوب التي تغض من شأن النثر؛ فلا يلجأ الشاعر إلى الضرورات ولا يستخدم الأساليب الشاذة أو يبتعد عن قواعد النحو في تأليف الكلام.
ولاحظ مالير أن طبيعة الشعر لا تتحقق بمراعاة القواعد النحوية وترتيب الجمل وبراعة الأسلوب فحسب؛ وإنما لا بد للشعر من الأوزان، ولا بد فيه كذلك من الموسيقى، وتكمل الطبيعة الشعرية في رأيه بأن لا يقع الشاعر في أي خطأ في وزن الشعر بارتكاب الضرورات فيه وألا تقرع قوافيه الخشنة النشاز أسماع القراء؛ فعلى الشاعر إذن أن يهتم بلغته وأسلوبه، وأن يجيد اختيار الأوزان والقوافي، وألا يرتكب شيئًا من الأخطاء أو الضرورات في شيء من ذلك؛ لا في جمله وألفاظه، ولا في أسلوبه، ولا في موسيقى الشعر: الوزن، والقافية.
هذه جهود لغوية وأدبية؛ أما الجهود الفلسفية؛ فإن الدكتور عبد الرحمن عثمان يشير إلى جهود ديكارت الذي ولد عام ألف وخمسمائة وستة وتسعين، وقد كان عالمًا بالرياضيات والطبيعة والفلسفة والأدب، وهذه الجهود الفلسفية تفاعلت مع الجهود اللغوية والأدبية ونتج عن ذلك كله المذهب الكلاسيكي.
كان المذهب الكلاسيكي إذًا نتاج تغيرات جذرية في المجتمع الغربي؛ تغيرات فكرية وفلسفية وسياسية واجتماعية، وكانت هذه التغيرات هي المؤذنة بما يسمى عصر النهضة الأوربية.
نادى ديكارت بمجموعة من المبادئ الفكرية والفلسفية التي أصبحت فيما بعد قواعد منهجية تساند القواعد الأدبية التي قام على أساسها المذهب الكلاسيكي.
المبادئ التي نادى بها ديكارت في منهج التفكير:
أما المبادئ التي نادى بها ديكارت في المنهج -منهج التفكير- فهي ما يلي:
أولًا: استرشد بعقلك لتصل إلى الحق الصراح.
ثانيًا: كن منطقيًّا في عرض المشاكل الأدبية وحللها بدقة.
ثالثًا: ليكن انطلاقك طبيعيًّا واصعد إلى الفكرة؛ حتى تصل إلى قمتها.
رابعًا: إذا ما انتهيت فعليك بالعودة إلى العمل؛ لتتأكد من شموله وسلامته.
فديكارت يرى أن العقل والإرادة يتحكمان في أهواء النفس؛ فالعقل يرشدنا إلى قيم وجودنا والإرادة تحقق الميل النافع وتكبح النزعة الضارة؛ ولهذا تأثر النتاج الأدبي بهذه الفكرة فأصبح يتميز بأمرين جوهريين:
أولهما: التحليل الدقيق للعواطف والميول الإنسانية.
وثانيهما تحكيم العقل باتباع ما يقضي به إزاء الميول والنزعات، وهذان الأساسان من أهم قواعد المذهب الكلاسيكي، والفضل فيهما راجع إلى ما ذكره ونادى به ديكارت.
على هذا النحو يربط الدكتور عبد الرحمن عثمان بين الجهود الأدبية واللغوية والفلسفية.
ثم ينتقل إلى الحديث عن بوالو وكتابه (فن الشعر)؛ فيقول: لقد توج بوالو المجهودات الأدبية التي بذلها قبله مالير، والمجمع العلمي، وباسكال، وديكارت، بما وضع من قواعد للمذهب الكلاسيكي في كتابه المشهور (فن الشعر)، وكانت معاصرته بفحول شعراء هذا المذهب عاملًا قويًّا في إرساء القواعد الشعرية، فقد كان صديقا لتورلي، وراسيل، وموليير …
يدل هذا على أن المذهب لم ينشأ هكذا بدعوة رجل يقال عنه: إنه مجدد، أو جماعة قالت: إنها تريد أن تجدد، أو نزعة تتمرد على لون من ألوان التعبير، أو قيد من قيود الفن؛ لا… هناك جهود تراكمت وتضافرت وعوامل مهدت التربة ليظهر هذا المذهب، والذي مر من الجهود التي أشرت إليها يبين هذا الجهد الكبير وهذا الوقت الزمني الممتد حتى جاء بوالو هذا الذي لخص في كتابه (فن الشعر) القواعد التي قام عليها المذهب الكلاسيكي، وبوالو هذا عاش بين عامي ألف وستمائة وستة وثلاثين وألف وسبعمائة وأحد عشر.
القواعد والأسس التي ضمنها بوالو آراءه التي صاغها في كتابه (فن الشعر):
تتمثل هذه القواعد والأسس للمذهب الكلاسيكي فيما يلي:
أولًا: الإلهام هو نقطة الانطلاق في الفن الشعري عند الكلاسيكيين، ومن كلام بوالو: من شاء أن يرقى إلى قمة الشعر دون استعداد لتلقي هواتف الغيب؛ فإنه يصبح بذلك أسيرًا في عالم ضيق من موهبته الفذة.
ثانيًا: إذا كان الإلهام هو الأصل في الفنون؛ فإن العقل هو الرائد الآمر؛ فإذا اشتبهت السبل على الفنان وتجاذبته نوازع شتى كل منها ينزع به إلى جانب من جوانب الحسن والجمال؛ فإن العقل هو صاحب الكلمة في هذا المعترك؛ لأنه لا يسلك إلا طريقًا واحدًا مستقيمًا في غير تردد أو إحجام…
ومن كلامه في توضيح ذلك يقول: كل فن يجب أن يصدر عن ذوق سليم، غير أن الوصول إليه يكلف جهدًا ومشقة، والانحراف عنه يطمس كل شيء في الصورة؛ فأما إذا كان العقل هو المرشد فإنه لا يسلك بك إلا طريقًا واحدًا.
ثالثًا: التفكير الطويل في حياطة العقل ينير الفكرة ويخرجها من ضباب الغموض إلى آفاق الوضوح؛ فتصبح ذات شفافية وإشراق بعد أن كانت ملامحها لا تكاد تُرى من خلف السحب المتراكمة والأفكار المعتمة؛ فالتعبير عن الفكرة يجيء على مثال ما بها من وضوح أو غموض في ذهن الشاعر وكل ما يتصل بإدراكها وفهمها…
ومن كلامه في ذلك يقول: هناك أذهان تلفها سحب داكنة؛ فتشيع الظلام في أفكارها، ومن ثم فهي مغلفة بغلاف كثيف يحجب عنها نور العقل؛ فتعلم إذن أيها الشاعر أن تفكر قبل أن تكتب؛ فالتعبير تابع لوضوح الفكرة عندك أو غموضها… إنك حين تحسن إدراك المعنى ستحسن لا محالة التعبير عنه تعبيرًا ملائمًا، وستكون الألفاظ في متناول طاقتك.
رابعًا: إن مما يعلي الشعر ويرفعه انتقاء الألفاظ وتخير الأسلوب، وإذا كان النسج مهلهلًا؛ فإن النغم الشجي واللفظ الرنان لا يستران عوار هذا النسج ولا يستميلان أحدًا برنينهما الأجوف … في ذلك يخاطب الشاعر فيقول: أنت عابث حين تحاول إثارتي بنغم شجي إذا جاء تعبيرك رديئًا وأسلوبك مختلطًا غير نقي؛ فاللغة واختيار ألفاظها هو كل شيء.
خامسًا: وسبيل تخير الألفاظ وانتخاب الأساليب هو الأناة والصقل والنزول على أحكام صناعة النظم، واطراح العجلة والاستجابة لأول خاطر، وذلك يدعو إلى الحذف والإضافة…
يقول بوالو: راجعوا أعمالكم على هدى ما تقضي به صناعة الكلام، وهذبوها في صبر لا ينفذ، وأعيدوا تهذيبها بإضافة ما يعن لكم من جيد الأفكار ورائع الأساليب، واحذفوا ما ترون أنه يقلق في موضعه -هذه دعوة إلى الصنعة الأدبية والتجويد والحذف والإضافة والنظر فيما يمكن تعديله من الكلام.
سادسًا: إن الناقد الناصح لا يقبل منك شعرًا غير مؤتلف؛ إنه يريد منك أن تهذب الألفاظ حتى تجيء مأنوسة غير نابية؛ فالناقد يطيل النظر في أسلوبك وفكرتك؛ إنه يريد منك أن يجيء كلامك شعرًا متوازنًا لا خشونة فيه ولا تكلف ولا اضطراب…
وقول بوالو في هذا: بأن الناقد يشيد بتهذيب الألفاظ وسماحتها؛ فمثلًا التعبير هنا يؤذي سمعه والمعنى هناك يصادم فكره.
سابعًا: ولا يظفر بحب الجمهور ذلك الشاعر الذي ينظم أفكاره بأسلوب رتيب ولا يخالف بين أجزاء فكرته ويعد لكل جزء منها أسلوبًا يلائمه؛ لأن نغمته الرتيبة ستجعل النوم يعابث جفوننا -لا محالة…
والكلام الذي يأتي به الدكتور عبد الرحمن عثمان من النص بوالو في هذه النقطة قوله: إذا شئت أن يؤثرك الجمهور ويقبل على أدبك؛ فخالِف بين المعاني وتخير لها الأساليب الملائمة؛ فالأساليب ذات النغمة الواحدة-حتى لو كانت ذات بريق- لا تحملنا إلا على النوم.
ثامنًا: ولا ينبغي أن يهبط الشاعر إلى الابتذال في أسلوبه؛ لأن الابتذال يصك الإسماع حتى لو حمل في طياته أروع المعاني وأنبل الأفكار…
نصه: لا تجنح إلى الابتذال في كل ما تكتب؛ فإن غزارة المعنى ورفعة الفكرة ستطمس جمالها نغمة الابتذال.
تاسعًا: وليس للشاعر أن يُكرِه القافية لتأخذ مكانها من البيت؛ فالقافية عند بوالو عبد مطيع للفكر، والمران على اقتناص القوافي في التوسع على معرفة مفردات اللغة يجعلها تحت إمرة الشاعر…
يقول: فالقافية عبد لا يعرف إلا الطاعة للشاعر المجدِّ في طلبه.
عاشرًا: ويكرَه للشاعر أن يطيل في غير موضع الإطالة وأن يستجيب إلى الحشو الكريه؛ ويحبب إليه الإيجاز لأن الإيجاز مِلاك الأدب…
نصه: كل حشو أو تطويل فهو رخيص ممجوج؛ إن الذي لا يعرف كيف يوجز هو أجهل الناس بالكتابة.
الأساس الحادي عشر: وحدة العمل الفني عند بوالو أمر لا محيد عنه؛ فلا بد من ترتيب الأجزاء وتنسيق العمل كله حتى يصبح أول العمل الأدبي مساويًا لوسطه وآخره؛ بحيث تتعاون الأجزاء وتتضام ليتألف منها عمل واحد متماسك…
يقول: كل شيء يجب أن يوضع في مكانه في البدء أو الوسط أو النهاية؛ فالفن المحكم يؤلف من الأجزاء كلًّا متماسكًا؛ فلا يخرجنك عن الجادة التماس كلمة ذات بريق.
الأساس الثاني عشر: يرى بوالو أن يصور الشعراء أنبل النفوس وأقدس العادات؛ فإن ذلك خليق بالفن الذي يهدف إلى الفضائل، وينفر من أولئك الذين يصورون الجريمة ويزينون للناس الرذيلة في فنهم…
يقول مخاطبًا الشعراء: قدموا أروع فنونكم حين تعرضون من خلالها النفوس والعادات؛ فغير جدير بالاحترام هؤلاء المفسدون من الكتاب؛ إنهم يزينون لقرائهم الرذيلة ويحببون إليهم الترخص في مباديل الحياة.
الأساس الثالث عشر: كرامة الأديب عند بوالو لها المقام الأعلى والأمثل في الحياة؛ فلا ينبغي أن يجند مواهبه في سبيل المال؛ غير أنه أباح للأديب أن يتكسب من فنه على أن يكون ذلك في حدود ما يحفظ كرامته؛ فلا يلحف في الطلب؛ لأن الأدب في رأيه مجد ولا يليق أن يذهب المجد في سبيل المال.
هذه إذن هي الأسس التي تضمنها كتاب (فن الشعر) لبوالو، ذكرها الدكتور عبد الرحمن عثمان أساسًا أساسًا، واستشهد بكل واحد منها بكلام من نصوص كتاب (فن الشعر)…
هذه الأسس التي ذكرناها والتي وردت في كتاب (فن الشعر) لبوالو أصبحت هي قواعد المذهب الكلاسيكي…
وأول قاعدة لهذا المذهب نأخذها من الجهود الفلسفية والأدبية ونستخلصها مما ذكره بوالو من قواعد المذهب الكلاسيكي: هي محاكاة الأقدمين؛ لأن هؤلاء الأقدمين، وهم عند الأوربيين في ذلك العصر الإغريق والرومان؛ هؤلاء اهتدوا بذوقهم الفني إلى جلال الأدب؛ فكُتِب لأدبهم البقاء والخلود، واستمر عبر الزمن حتى تألق في القرن السادس عشر عندما أحياه الكلاسيكيون ونسجوا على منواله.
والقاعدة الثانية: هي إيثار الصنعة في الفنون واعتماد العبقرية على العناية الفنية؛ فالفن العظيم نتاج صنعة عظيمة تمدها العبقرية ويوحي بها الإلهام؛ فلا بد إذن من الإلهام ومن الصنعة.
القاعدة الثالثة: الاعتراف بسيطرة العقل على النتاج الأدبي؛ ولهذا نجد الخيال في أساليب الشعراء الكلاسيكيين أقل حدة وأخفض صوتًا من داعي الفكر والعقل، بسبب التلفت الكثير إلى المنطق والاستجابة لصوت العقل.
القاعدة الرابعة: التزام الحيدة في محاكاة الطبيعة وإنطاق أبطال المسرحيات بما يجري في خواطرهم ويجول في عقولهم، وهذه قاعدة تتعلق بالأدب المسرحي.
والقاعدة الخامسة: تطبيق ما يسمى بقانون الوحدات الثلاث في المسرحية أيضًا؛ فعندهم أن المسرحية التي تمثل على المسرح يجب أن تكون أحداثها جارية في يوم واحد، وفي مكان واحد، وأن يكون العمل واحدًا أو الفكرة واحدة.
القاعدة السادسة: الاتجاه إلى تجويد الأسلوب وفخامته، والتشدد في انتقاء اللفظ، والحرص الشديد على تقديم صور فنية جارية على قواعد اللغة وقوانينها.
القاعدة السابعة: التشدد في العناية بالغاية الخلقية للأدب؛ وهذا اتباع للفلاسفة الإغريق؛ فالهدف من الأدب عندهم: هو التهذيب والتربية المستقيمة، ولم يسمحوا بأن ينحرف الأديب إلى تصوير الرذائل إلا إذا كان الهدف من عمله التنفير منها… هذه هي القواعد التي قام عليها المذهب الكلاسيكي.
بعد أن شرحنا المذهب الكلاسيكي والظروف التي أدت إلى ظهوره، والقواعد التي قام عليها، والجهود اللغوية والنقدية والفلسفية التي عملت على ظهوره؛ هل نستطيع أن نقول: إن الأدب العربي فيه ما يسمى بالكلاسيكية -أو ما يسمى بالمذهب الكلاسيكي؟:
الجواب: لا؛ لأن المذهب الكلاسيكي نشأ في الغرب، في هذه البيئة، بهذه الظروف، على هذه القواعد، وبهذه الجهود؛ فهو مذهب غربي.
هل عندنا في الأدب العربي ما يشبه هذا المذهب؟:
نقول: عندنا مواقف أو مراحل أو دعوات يمكن أن يتلمس بينها وبين قواعد المذهب الكلاسيكي شبَه، ظروف ظهور ما يسمى في الأدب العربي مذهب الإحياء والمحافظة، ظهور البارودي في فترة معينة لها ظروف ثقافية وسياسية معينة، النهج الذي اتخذه البارودي للنهضة بالشعر ومحاكاة الأدب القديم، والعناية باللغة والأسلوب، وسيطرة العقل والغاية الخلقية… كل هذه أوجه شبَه في شعر البارودي بالمذهب الكلاسيكي؛ لكننا لا نقول: عندنا كلاسيكية؛ لأنه مذهب غربي له بيئته التي نشأ فيها وظروفه. ولذلك على أساس هذا التشابه نجد في بعض الكتب من يسمي مرحلة البارودي ومذهبه -مذهب المحافظين- الكلاسيكية العربية مثلًا؛ لكننا لا نميل إلى ذلك؛ لأن الكلاسيكية مذهب غربي له ظروفه، وله فلسفته، وله جهوده التي صاحبته، ولا يوجد مثل ذلك عندنا في الأدب العربي.