المذهب الوجودي
وبعد المذهب السريالي ظهر ما يسمى بالمذهب الوجودي، وفي بيان الظروف التي نشأ فيها المذهب الوجودي يقول الدكتور عبد العزيز عتيق: إذا كانت السريالية قد ظهرت في أعقاب الحرب العالمية الأولى كصرخة احتجاج ضد المجتمع الذي وصل إلى ما وصل إليه خلال هذه الحرب من الفظاعة في القتل والتدمير، فإن الوجودية قد ظهرت كصرخة احتجاج أخرى ضد مجتمع الحرب العالمية الثانية، تلك التي كانت أشد من الأولى فظاعة وهولًا وتدميرًا.
والواقع أن الحرب العالمية الثانية قد أحدثت في الضمير الإنساني أزمة بالغة العمق والعنف؛ وذلك لما صاحبها من وحشة وغدر وخروج على جميع المثل والقيم. وقد أدت هذه المأساة بالناس إلى أمرين: إلى التشكك في حقيقة تراث الإنسانية الروحي كله. وإلى إعادة النظر والتأمل فيما سبق أن أكده رجال الفكر المتمردون من أنه لا حقيقة لوجود الله أو لوجود المثل العليا والقيم الأخلاقية الخالدة.
الوجودية المعاصرة كمذهب فلسفي:
ومن هنا نشأت الوجودية المعاصرة كمذهب فلسفي لم يقتصر نشاطه على ميدان الفلسفة، وإنما تجاوزه إلى ميدان الأدب والفن، ولم يقف انتشاره عند حد الفلاسفة، وإنما تعداهم إلى غيرهم من سائر الطبقات.
ويضيف الدكتور عبد العزيز عتيق: ويمكن القول بأن الوجودية هي إلى أن تكون اتجاهًا فلسفيًّا في الحياة أقرب منها إلى أن تكون مذهبًا أدبيًّا مستقلًّا.
والملاحظ أن الظروف النفسية والفكرية التي أنتجت الوجودية هي نفسها التي أوجدت السريالية، وهذا يدل على أن النفس البشرية تتأثر تأثرًا كبيرًا بما حولها، وأن الظواهر الاجتماعية والسلوك الفردي والجماعي عند الناس، وكذلك النشاط الإبداعي في الفن وفي الأدب يتأثر بما يحدث في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية من أحداث.
الحروب إذن والكوارث والدعوات الإصلاحية، ونمو العقائد، كل ذلك يؤثر في الأدب، وعندما تغلب حالات التفلت من الدين ومن الأخلاق، وعندما تشيع في الناس حالات الهمجية والاستغلال، ويحكم الناس بمنطق الغابة وتختفي القيم؛ عندئذ تظهر هذه المذاهب الأدبية التي لا يمكن أن تكون مذاهب مستقيمة في فطرتها، ولا مستقيمة في تلبيتها لحاجات المجتمع على المدى الطويل.
فهذه الوجودية تحتج لوجهة نظرها الفلسفية بأن الإنسان كان موجودًا قبل أن تحدد له وظيفة ويناط به عبء أو واجب، وإذن فوجوده سابق لوظيفته ومهمته، بل إن وجوده هو الذي يخلق الوظيفة والمهمة، فإذا كان ذلك هو الأصل في وجود الإنسان، فإنه يترتب على ذلك أن يكون الإنسان مسئولًا عن تصرفاته وعن علاقاته بكل ما حوله ومَنْ حوله، وأن يكيف هذه التصرفات والعلاقات طوع وجوده هو، لا طوع فرض يفرض عليه من الخارج، ولا طوع رقابة أو توجيه من خارج دائرة وجوده.
فالدعوة الوجودية إذن -كما يقول الدكتور عتيق: تصارحك أيها الإنسان بأنك سيد نفسك، لك الرأي كل الرأي في الانطلاق، ولك أن تطلق حريتك وتقيدها، تطلقها عندما ترى في ذلك نفعًا خاصًّا لك، وتقيدها عندما ترى في ذلك درءًا لمضرة عنك، ثم إياك أن يكون لأحد إرادة عليك، واذكر دائمًا أنك موجود، وأن لنفسك عليك حقًّا، وما ينبغي لك أن تزدري ما حبتك به الطبيعة من حق الوجود.
فهذا المذهب إذن يُعلي من الحرية الفردية إلى أبعد مدى، ويجعل الإنسان سيد نفسه، ويعطيه الحق في أن يتصرف كما يطلب أو يحتم عليه وجوده.
وإذن فإن هذا المذهب يحرر الإنسان من كل القيود؛ لا قيود للدين ولا قيود للأخلاق، ولا قيود للمجتمع، ولا يعرف خيرًا ولا شرًّا، وإنما وجوده هو الذي يرشده إلى ما يفعله، وهذا المذهب الفلسفي الذي جعل حرية الإنسان غايته، يرتب على هذه الحرية الفردية مسئولية، ويدعو إلى ضرورة تحمل هذه المسئولية؛ ولذلك نشأ في هذا المذهب ما يسمى بأدب الالتزام، وسمى الوجوديون أدبهم بالأدب الملتزم، هذا الأدب ينبغي عليه أن يلتزم بموقف أخلاقي واجتماعي محدد؛ بناء على ما يمليه عليه تحقق وجود الإنسان، ولذلك تقوم الوجودية على ثلاث دعائم هي: الحرية، والمسئولية، والالتزام.
وقد تولد عن ذلك -كما يقول الدكتور عتيق- مشاعر خطيرة يعانيها الفرد الوجودي في تعامله مع الحياة والناس، وهذه المشاعر التي يعانيها تتلخص في ثلاثة أمور: القلق، والهجران، واليأس.
فأما القلق، فإحساس من الطبيعي أن يستشعره الوجودي ما دام قد ألغى من اعتباره الاستناد في حياته وتصرفاته وأحكامه إلى إله أو قضاء وقدر أو قيم أخلاقية أو اجتماعية، وأصر على اعتبار نفسه مطلق الحرية.
إذن هذا الأمر يبعث على القلق، الإنسان في هذه الحالة غير مستند إلى قيمة، غير مستند إلى قوة، غير مستند إلى شيء، ولما كانت هذه الحرية تستلزم المسئولية عند الوجودي؛ فإنه يكون من الطبيعي أن يستشعر القلق من هذه المسئولية وما يترتب عليها من التزام وتخير لما يريد أن يلتزم به.
وهذا القلق مبعثه أيضًا من كون هذا الإنسان الوجودي في مسئوليته هذه ليس له مرجع يرجع إليه، فهو لا يستمد قواعد هذه المسئولية ولا أطرها لا من دين ولا من مجتمع؛ لأنهم يلغون هذه الضوابط، فوجوده هو الذي يملي عليه هذه المسئولية، وهو الذي يحددها، فلا بد إذن أن يكون ذلك باعثًا على القلق.
ونفس هذه الحرية التي تدعو إلى الانعتاق من كافة القيم المتوارثة، هي التي تولد -أيضًا في نفس الوجودي- الشعور بالهجران؛ أي الشعور بأنه وحيد مهجور لا عون له ولا سند من خارج نفسه التي تتحكم وتتحمل في كل تصرفاته مسئولية هذا الإنسان الوجودي.
هذا الإنسان الوجودي إذن ينكر القضاء والقدر، وينكر الإله، وينكر السلطة الأخلاقية والاجتماعية، وينكر العزاء الذي يقدمه الاعتقاد في الحياة الأخرى، وما يجده الإنسان فيها من تعويض عن بؤس الحياة الدنيا، فالإنسان الوجودي لا مفر أمامه من اليأس، لا مفر من اليأس والقلق والهروب من هذه الحياة.
ولِينتصرَ الإنسان الوجودي عند الوجوديين على هذه المشكلات، يدعو “سارتر” -إمام هذا المذهب- الإنسان الوجودي إلى أن يعيش من أجل العمل، وأن يجد جزاءه الكامل في العمل ذاته وفي لذة ذلك العمل.
ويربط الدكتور عتيق بين المذهب الوجودي والمذهب السريالي فيقول: إن النزعة الوجودية وجه آخر للمذهب السريالي أو ما فوق الواقعي، وذلك لما هناك من تشابه بين الأحداث التي نجم عنها ذلك المذهب، وتلك النزعة في عصرنا الحاضر، فكلاهما تمخضت عنه حرب عالمية عارمة.
لنا بعد ذلك أن نسأل سؤالًا، هل لهذه المذاهب الأدبية التي تحدثنا عنها وجود في أدبنا العربي القديم أو الحديث؟.
قلت -عندما كنت أتحدث عن الكلاسيكية: يمكن أن نجد بعض الملامح أو المشابه في فترة البعث التي كان زعيمها محمود سامي البارودي، نجد شبهًا بين هذه الفترة وطريقة الكلاسيكيين.
ويمكن أن نجد آثارًا من هذه المذاهب الأخرى: الرومانتيكية، والرمزية، والواقعية، والسريالية، والفن للفن، والوجودية، يمكن أن نجد آثارًا لهذه المذاهب في أدبنا العربي الحديث بسبب اتصالنا بالثقافة الغربية، وترجمة كثير من الأدب الغربي الحديث الذي يحمل هذه المذاهب إلى اللغة العربية.
والظروف التي مر بها الوطن العربي من الاستعمار، والكثير من الحروب، ومشاركة بلاده في حروب لا ناقة له فيها ولا جمل. فالاستعمار الغربي كان يحارب معاركه على أرض هذه البلاد العربية؛ لذلك وجدنا هذه الآثار من هذه المذاهب الأدبية المختلفة تظهر ببعض الوضوح عند بعض الشعراء، ولا تظهر عند شعراء آخرين.
فالمذهب الرومانتيكي بعواطفه الجياشة، وكذلك المذهب الرمزي نجد لهما أثرًا واضحًا عند شعراء أبوللو، وكذلك عند أدباء المهجر، ونجد القلق الوجودي كذلك يظهر في أدب المهجريين، فمثلًا عندما نقرأ هذه القصيدة للشاعر أبي القاسم الشابي، وعنوانها: “الأشواق التائهة” والتي يقول فيها:
يا صميم الحياة إني وحيد | * | مدلج تائه فأين شروقك؟ |
يا صميم الحياة إني فؤاد | * | ضائع ظامئ فأين رحيقك؟ |
يا صميم الحياة قد وجم الناي | * | وغام الفضا فأين بروقك؟ |
يا صميم الحياة أين أغانيك؟ | * | فتحت النجوم يصغي مشوقك |
كنت في فجري الموشح بالأحلام | * | عطرًا يرف فوق ورودك |
حالمًا ينهل الضياء ويصغي | * | لك في نشوة بوحي نشيدك |
ثم جاء الدجى وأمسيت أوراقًا بدادا | * | من ذابلات الورود |
وضبابًا من الشذى يتلاشى | * | بين هول الدجى وصمت الوجود |
كنت في فجرك المغلف بالسحر | * | فضاء من النشيد الهادي |
وسحابًا من الرؤى يتهادى | * | في ضمير الآزال والآباد |
وضياء يعانق العالم الرحب | * | ويسري في كل خاف وبادي |
وانقضى الفجر فانحدرت من الأفق | * | ترابًا إلى صميم الوادي |
يا صميم الحياة كم أنا في الدنيا | * | غريب! أشقى بغربة نفسي |
في وجود مكبل بقيود | * | تائه في ظلام شك ونحس |
فاحتضنّي وضمني لك بالماضي | * | فهذا الوجود علة يأسي |
لم أجد في الوجود إلا شقاء | * | سرمديًّا ولذة مضمحلة |
وورودًا تموت في قبضة الأشواك | * | ما هذه الحياة المملة |
وأمانيَّ يغرق الدمع أحلاها | * | ويفني يم الزمان صداها |
وأناشيد يأكل اللهب الداني | * | مسرّاتها ويبقي أساها |
سأمٌ هذه الحياة معاد | * | وصباح يكر في إثر ليلي |
ليتني لم أفد إلى هذه الدنيا | * | ولم تسبح الكواكب حولي |
ليتني لم يعانق الفجر أحلامي | * | ولم يلثم الضياء جفوني |
ليتني لم أزل كما كنت ضوءًا | * | شائعًا في الوجود غير سجين |
يقول الدكتور عبد العزيز الدسوقي معلقًا على هذه القصيدة: فهذه القصيدة وإن اختلطت فيها النزعة العاطفية بالتأمل إلا أنها تعطينا الدليل على مقدرة الشابي على استخدام الرموز للتعبير عن حالته النفسية، فلا شك أنه متبرم بالحياة ناقم عليها، تمر عليه بطيئة منهكة، ويعيش في فراغ ممتد من الملل واليأس، وهذه الحالة تضرب بجذورها في عقله الباطن؛ ولهذا اقتنص هذه الصورة الخيالية ليستطيع بها أن يصل إلى هذه الأعماق.
فهو فؤاد ضائع، ظامئ إلى رحيق الوجود، وهو عطر يرف في الفجر الموشح بالأحلام، يشرب الضوء ثم هو أوراق ذابلة وضباب من الشذى والعطور، وفضاء من النشيد، وسحاب من الرؤى، وضياء يعانق العالم ثم هو في النهاية تراب ينحدر إلى صميم الوادي، فلا يجد إلا شقاء سرمديًّا ولذة مضمحلة، وتدفعه الحياة إلى سأم معاد.
إذن هذا نموذج يدلك على تأثر أدبنا العربي الحديث بهذه المذاهب، وإن كان أدبنا العربي الحديث لم يقم فيه مذهب كامل كهذه المذاهب أو من هذه المذاهب؛ لأن هذه المذاهب -كما أكدت لك- ظهرت في الغرب في بيئة ثقافية وفلسفية معينة، يمكن أن تكون بعض آثارها انتقلت إلى أدبنا العربي الحديث، كما تدل على بعض هذه الآثار تلك القصيدة للشابي.
وهناك قصائد أخرى كثيرة لشعراء أبوللو وأيضًا لشعراء الديوان، وكذلك لشعراء المهجر وأدبائه، تبدو فيها آثار من هذه المذاهب الأدبية الغربية المختلفة.
بهذا نكون قد انتهينا من الكلام عن هذه المذاهب الأدبية الغربية.