Top
Image Alt

المرحلة الثانية: تحقيق النص ومقابلته على النسخ الأخرى

  /  المرحلة الثانية: تحقيق النص ومقابلته على النسخ الأخرى

المرحلة الثانية: تحقيق النص ومقابلته على النسخ الأخرى

هذه إجراءات تتعلّق بالقسم الأوّل من المرحلة التي نتحدّث عنها الآن، وهي المتعلّقة بنقل النص من كونه منسوخًا إلى الصورة التي سينتقل بها إلى أن يكون نصًا محققًا، فإذا راعى المحقِّق هذه الأمور كلّها عند النسخ، فإنه يكون مهيّئًا إلى الانتقال إلى مرحلة المقابلة مع النُّسخ الأخرى التي جمعناها في المرحلة السابقة
-وهي مرحلة ما قبل التحقيق- فقد يكون هناك ثلاث، أربع، أو خمس نسخ … إلخ. أقوم بعملية مقابلة بين هذا النص الذي نقلْته من “النسخة الأم” -نسخة الأصل- لكي أقابله مع النسخ الأخرى التي جمعتُها من أجل تحقيق الكتاب. وهذه المرحلة أيضًا تتكوّن من بعض الإجراءات:

الإجراء الأول: مرحلة المقابلة: أن تُعطى كلّ نسخة من النسخ التي ستجري عليها المقابلة رمزًا يدل عليها، فتعطى نسخة الأم أو الأصل رمز (أ) مثلًا، على حين تُعطى النسخة الثانية في الترتيب رمز (ب)، والثالثة رمز (ت) وهكذا. لا بدّ أن يُعطى لكلّ نسخة رمز، أو يُعطى رقم حتى تتميز عن غيرها من النُّسخ الأخرى، أو أن يكون الرمز مأخوذًا من اسم البلد الذي به المخطوط، أو المكتبة التي يوجد بها المخطوط.

فالمخطوط الذي يوجد في المدينة على سبيل المثال يعطي رمز (م) -قد يختار المحقّق هذا- أو القادم من تركيا قد يعطى رمز (ت)، والمخطوط الموجود بالقاهرة يعطى رمز (ق)، والقادم من سوريا يعطى رمز (س) وهكذا. المهم أنه لا بد أن يختار رمزًا لكل مخطوطة، فلا يدَعها هكذا مهملة أو مجهولة العنوان والرمز.

وينطبق ذلك على المكتبات أيضًا. فالذي أتى من دار الكتب المصرية، أو الذي أتى من الظاهرية، أو الذي أتى من مكتبة من تركيا، أو الذي أتى من الإسكوريال في إسبانيا، أو من المكتبة الوطنية في باريس، يمكن أن يعطى أرقامًا مميزة بحيث إذا نظرت إلى هذا الرمز أعرف بالضبط ماذا يريد المحقق من الإشارة إليه من بين النُّسخ التي يعتمد عليها. هذا إجراء رقم (1). وربما الأمر يبدو في ظاهره شكليًا، ولكنه سيتبيّن أنه مفيد من الناحية العملية.

الإجراء الثاني: يسجّل المحقّق ما يقع من فروق واختلافات بين النُّسخ التي يعتمد عليها في التحقيق، وهذه الفروق نتيجة طبيعية لاختلاف النُّسّاخ، واختلاف الأصول التي اعتمدت عليها هذه النُّسخ، ويدوِّن المحقِّق هذه الفروق على يمين الصفحة التي كتب فيها النص الأصلي إذا شاء، أو في الجزء الأسفل من الصفحة نفسها.

ويفضّل -وهذه مسألة قد تدعو إلى التعجب، ولكنها مجرّبة- أن يجعل لكل نسخة من النُّسخ التي يقابل بها نسخة الأصل لونًا مميزًا، فيكتب الأصل باللون الأسود مثلًا، ثم يكتب الفروق الموجودة في نسخة (ب) باللون الأزرق مثلًا، الفروق الموجود في نسخة (ت) باللون الأحمر.

فيختار عددًا من الألوان، ويحدّد لكل نسخة لونًا معيّنًا، لماذا؟ هذا مسألة ربما يتعجّب أو يسخر الإنسان من مثل هذا القول، ولكن فائدة هذا التمييز في الألوان، ربما ظهر له في المستقبل أثناء التحقيق أن يعيد ترتيب النّسخ؛ فقد يجد نسخة أخرى أفضل من نسخة الأصل، فيقدّمها على نسخة الأصل، فيقدِّمها، فعندئذٍ يقدِّمها بفروقها التي كتبها باللون الخاص بها.

ربما يقدّم نسخة على نسخة، ربما يؤخِّر نسخة عن نسخة. كلّما دخل في عمق التحقيق، فعندئذٍ إذا وجد النسخة مكتوبة بلون مميّز فإنه يكون من السهل عليه جدًّا أن ينقل من الهامش إلى الأصل، أو ينزل من الأصل إلى الهامش بناءً على اللون الذي اختاره لكلّ نسخة من هذه النسخ. فإذا أراد إحلال نسخة محلّ نسخة أخرى كان ذلك أمرًا سهلًا وميسورًا عليه.

الإجراء الثالث: ينبغي ملاحظة أن المحقّق لن يكتفي بتسجيل هذه الفروق في أسفل الصفحة، بل إنه سيكون مكلفًا أن يكتب في أسفل الصفحة نوعًا آخر من الهوامش، وهو خاص بالتعليقات العلْمية على النص، وسيكون في أسفل الصفحة أيضًا.

وللمحقِّقين هنا طريقتان:

الطريقة الأولى: أن يجعلوا ترقيم هوامش فروق النُّسخ متداخلًا مع هوامش التعليقات العلمية، ويكون الترقيم مسلسلًا بلا فرْق بين هذيْن النوعيْن من الهوامش، فيبدأ المحقّق برقم (1) مثلًا، ثم يزيد الترقيم على حسب الهوامش من النوعيْن جميعًا دون أن يفرّق بينهما، أو أن يميّز بينهما بأيّ نوع من التمييز.

فقد يكون الهامش رقم (1) من فروق النُّسخ، ويكون الهامش رقم (2) من التعليقات العلْمية، والثالث من التعليقات العلْمية، والرابع من هوامش فروق النُّسخ، إلخ. فتتداخل المجموعتان دون تمييز بين أيّ منهما والأخرى. هذه طريقة يستسهلها بعض المحقِّقين، وإن كان لها بعض العيوب: هو أن القارئ للتحقيق قد لا يكون معنيًّا عناية بالغة بالفروق التي تكون موجودة بين النُّسخ؛ لأنه رجل غير متخصِّص وإنسان يريد أن يعرف نص الكتاب، وأن يعرف التعليقات العلْمية الموجودة عليه.

فإذا أدخلت فروق الهوامش المتعلّقة بالنُّسخ مع فروق التعليقات العلْمية، فإن ذلك يُثقل عليه، فإذا اتّجه بصره إلى ما يتعلّق بالفروق فلعلّه يزهد في إكمال بقية الصفحة، ولكن إذا ميّزت الطريقتان إحداهما عن الأخرى، فإنه يتّجه مباشرة إلى ما يريد، فإن كان يقصد فروق النُّسخ فهو يجدها، وإن كان يقصد فروق التعليقات العلْمية فهو يجدها أيضًا.

الطريقة الثانية: وهي الطريقة التي تميل إلى عزل هوامش فروق النُّسخ عن هوامش التعليقات العلمية؛ وذلك يتحقق بأن تُعطي هوامش الفروق أرقامًا مستقلة، على حين تُعطى التعليقات العلمية حروفًا، أو العكس.

المهمّ أنه يوجد عزل بين الهوامش المتعلّقة بالفروق، والهوامش المتعلّقة بالمتعلّقات العلْمية.

وعلى الطريقة الثانية، تقسم الصفحة ثلاثة أقسام:

القسم الأول والأعلى: يخصّص للنص الأصلي الذي نقلناه من المخطوط إلى هذه المحاولة للطبع وللنشر وللتحقيق.

القسم الثاني: يكون تحت النص مباشرة ويخصص لفروق النُّسخ، ويُفصل بينه وبين النص بخطّ أفقي، وتكون الهوامش بالأرقام أو بالحروف.

القسم الثالث: وهو مخصّص للتعليقات العلْمية، ويكون في أسفل الصفحة، في التقسيم الثالث.

ويكون على الباحث أن يختار ما يشاء من هاتيْن الطريقتيْن. ولكن الطريقة الثانية أكثر منهجية؛ لأنها تعزل الهوامش الخاصة بالفروق وحدها، وتعزل الهوامش المتعلّقة بالتعليقات العلمية وحدها. فإذا كان الباحث مهتمًّا بتتبّع الفروق فسيجدها متجمّعة في مكان واحد، وإذا لم يكن له عناية بمثل هذا الأمر فإنه ينصرف عنها لينظر أسفلها في الجزء الثالث الموجودة في الصفحة، ويرى التعليقات العلمية كما يشاء.

الإجراء الرابع: تؤدِّي مقابلة النُّسخ بعضها ببعض إلى تقويم النص واستقامته، وسدّ ما قد يكون به من خلل في النسخة الأصل أو النسخة الأم -كما سمّيناها- وتصويب ما قد يكون به من خطأ، وتصويب قراءة الناسخ نفسه إذا كان قد قرأ شيئًا من النص بطريقة خاطئة؛ لأنني أقوم بالمقارنة بين نُسخ مختلفة الأصول كتبها كاتبون مختلفون في عصور مختلفة وفي أماكن مختلفة، وهذا يعطيني الفرصة لكي أصل إلى أقْوم طريقة في كتابة هذا النص، وفي الوصول إلى الصورة الأصلية أو إلى أقرب صورة لهذا النص.

وينبغي أن تكون الأولويّة لنُسخة الأصل؛ لأن نسخة الأصل لم تتقدّم إلى هذا الموضع إلا بسبب ما توفّر لها من مزايا، ولا يصح مخالفتها إلَّا للضّرورة؛ وعند الضرورة يستعان بالنسخ الأخرى مع ضرورة أن يذكر المحقِّق اسم النسخة التي فضّلها عند القراءة.

وهذه الطريقة يلتزم بها جمهور كبير من المحقِّقين، وإن كان يمكن الإشارة إلى طريقة أخرى مشهورة في التحقيق بطريقة “النص المختار”. بمعنى: أن المحقِّق مِن حقِّه أن يختار من النسخ الأخرى ما يراه ملائمًا للنص أو أكثر إفهامًا للنص وبيانًا له، دون أن يلتزم في كلّ المواضع بالفروق التي تختلف فيها النسخ الثانية أو الثالثة عن نسخة الأصل. فهو لا يلتزم بنسخة الأصل في كلّ الأحوال، ولكنه يختار من بين النسخ ما يراه أقوم للنص وما يراه أفضل للنص.

فيمكن أن يأخذ من نسخة (أ)، ويأخذ من نسخة (ب)، ويأخذ من نسخة (ج) … إلخ. فلا يكون لنُسْخة الأصل تلك المكانة الكبرى التي يجعلها لها بعض المحقِّقين، وإنما تختار طريقة النص المختار على الطريقة الثانية، تكون الأفضلية لأية نسخة من هذه النسخ من غير إشكال، ودون التزام دقيق بما تقدّمه النسخة الأصلية التي يلتزم بها بعض المحقِّقين، ويستمر المحقِّق في عملية المقابلة إلى أن ينتهي منها.

error: النص محمي !!