المستخرجات المصنفة على الصحيحين وغيرهما من كتب الأصول، وفوائدها
أما عن الكتب المُخرّجة على “الصحيحين” كـ(المستخرَج) للإسماعيلي، وللبرقاني، ولأبي أحمد الغطريفي، ولأبي عبد الله بن أبي زهل، ولأبي بكر بن مردويه، على (صحيح الإمام البخاري)، ولأبي عوانة الإسفراييني، ولأبي جعفر بن حمدان، ولأبي بكر محمد رجاء النيسابوري، ولأبي بكر الجوزقي، ولغيرهم…
وموضوع المستخرج -كما قال العراقي-:
– هو: أن يأتي المصنِّف -أي: صاحب المستخرَج- إلى الكتاب، فيُخَرِّج أحاديثه بأسانيد لنفسه من غير طريق صاحب الكتاب، فيجتمع معه في شيخه أو مَن فوقه.
– أو بعبارة أخرى، هو: أن يأتي مصنّفه إلى كتابٍ كـ (صحيح البخاري) أو (صحيح مسلم)، فيُخرِّج أحاديثه بأسانيد لنفسه، من غير طريق صاحب الكتاب؛ فيجتمعُ معه في شيخه، أو في من فوقه ولو في الصحابي، مع رعاية ترتيبه ومُتونه وطُرق أسانيده.
قال شيخ الإسلام ابن حجر:
وشرْطه: ألاّ يصل إلى شيخٍ أبعدَ، حتَّى يفقد سندًا يوصله إلى الأقرب، إلا لعذر من علوٍٍّ، أو زيادةٍ مهمّة.
وربما أسقط المستخرِج أحاديث لم يجد له بها سندًا يرتضيه، وربَّما ذكَرها من طريق صاحب الكتاب.
وقد يُطلَق المستخرَج عندهم على كتاب استخرجه مؤلِّفه، أي: جمعه من كتب مخصوصة، كـمستخرج ابن مندة الذي جمعه من كتب الناس، واستخرجه للتَّذكرة. وليس هذا مرادَنا، وإنَّما مرادنا النَّوع الأول الذي عني به المحدِّثون، وعُنوا بما يعطيه من فوائد، وخاصَّةً الزيادة على الصَّحيح.
علاقة المستخرج بالأصل:
وطبَعيٌّ: أنه وقد اختلف الإسناد إلى حدٍّ ما، أن يختلف لفظ المستخرَج عن الكتاب الأصل؛ ولهذا قال ابن الصلاح: لم يلتزم مصنِّفوها فيها موافقتهما في ألفاظ الأحاديث بعينها، من غير زيادةٍ ولا نقصان، لكونهم روَوا تلك الأحاديثَ من غير جهة البخاريِ ومسلم، أي: في الكتب المخرَّجة على البخاري ومسلم.
وعلى هذا، فلا ينبغي أن نقول على الحديث في المستخرجات على الصحيحيْن أو أحدهما: أخرجه البخاري ومسلم، أو أخرجه أحدهما، لاحتمال التفاوت في بعض المعنى. وبيَّن ابنُ الصلاح أنَّه وجد بعضُ ذلك التَّفاوت.
ثم قال ابن الصلاح: وإذا كان الأمر في ذلك على هذا، فليس لك أن تنقل حديثًا منها، وتقول: هو على هذا الوجه في كتاب البخاري أو كتاب مسلم، إلا أن تُقابل لفظه، أو يكون الذي خرَّجه قال: أخرجه البخاري بهذا اللفظ، فتكون حينئذٍ العهدةُ عليه في ذلك. وبطبيعة الحال لن يقول ذلك إلا إذا كان اللَّفظ مطابقًا.
الحكم على أحاديث المستخرجات:
– يتوقَّف على رجال أسانيدها.
– ويتوقَّف على ثبوت الصِّفات المشترطة في الصحيح للرواة، الَّذين هم بين صاحب المستخرَج، وبين مَن اجتمع مع صاحب الأصل الذي استخرج عليه.
– وكلَّما كثر الرواة بينه وبين من اجتمع مع صاحب الأصل فيه، افتُقر إلى زيادة التَّنقير والبحث.
– وكذا كلَّما بعُد عصرُ المستخرِج من عصر صاحب الأصل، طال الإسناد وكثر رجاله.
– وكلما كثر رجاله احتاج الناقد له إلى كثرة البحث عن أحوالهم.
يعني: إذا كان عصر البخاري هو الثَّالث، والمستخرِج هو في القرن الخامس مثلًا، فإنَّه يحتاج إلى أن يصل إلى شيخ البخاري، أو إلى شيخ شيخه… إلى عدد من الرواة. ويحتاج الأمر إلى البحث في هؤلاء الرواة، والثِّقة بهم، حتَّى يمكننا أن نقول: إنَّ هذا الحديث يرتقي إلى أن يكون مثلَ حديث الصَّحيحيْن أو حديثِ أحدهما.
مثال تطبيقيٌّ:
فإذا روى البخاري مثلًا: عن عليِّ بن المديني، عن سفيان بن عيينة، عن الزُّهري حديثًا، ورواه الإسماعيلي، في مستخرجه على (صحيح البخاري) عن بعض مشايخه، عن الحكم بن موسى، عن الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن الزُّهريِّ.
واشتمل حديثُ الأوزاعي على زيادة على حديث ابن عيينة، لأنَّ كلًا منهما -عند البخاري: سفيان، وعند الإسماعيلي: الأوزاعي- روى عن الزُّهريِّ. فإذا اشتمل حديثُ الأوزاعيِّ على زيادةٍ على حديث ابن عيينة:
– توقَّف الحكم بصحَّتها على تصريح الوليد بسماعه من الأوزاعيِّ، وسماع الأوزاعي من الزُّهريِّ، لأنَّ الوليد بن مسلم من المدلِّسين على شيوخه، وعلى شيوخ شيوخه.
– وكذا يتوقف على ثبوت صفات الصَّحيح لشيخ الإسماعيلي.
وكذا الحُكم في باقي المستخرجات.
قال ابن حجر -رحمه الله تعالى-:
فقد رأيت بعضهم حيث يجد أصلَ الحديث اكتفَى بإخراجه، ولو لم تجتمع الشُّروط في رواته.
ومن خلال تجربة ابن حجر يتبيَّن:
أنَّه رأى في مستخرج أبي نعيم -وأبو نعيم قد استخرج على البخاريِّ وعلى مسلم، وكتابه المستخرج على مسلم مطبوعٌ- وغيره، الرِّوايةَ عن جماعةٍ من الضُّعفاء، وبيَّن العلَّة في ذلك: أنَّ أصلَ مقصودهم بهذه المستخرجات: أن يعلُوَ إسنادُهم. ولم يقصدوا إخراج هذه الزيادات، وإنَّما وقعت اتفاقًا.
فوائد المستخرجات.
الفائدة الأولى: علو الإسناد:
ولعلوِّ الإسناد فائدةُ الاقتراب من رسول الله صلى الله عليه وسلم في رواية حديثه. ويكونُ في هذا أيضًا: سهولةُ تتبُّع رواة الحديث، والحُكم على الإسناد؛ وبالتَّالي الحكمُ على المتن في غالب الأمر.
ويتحقَّق علوُّ الإسناد في المستخرَج: أنَّ المستخرَِِِج لو روى حديثًا من طريق البخاريِّ لوقع إسنادُه أنزلَ من الطَّريق الذي يُخرجه على طريقة المستخرجات.
ومثاله: حديثٌ في مسند أبي داود الطيالسي: فلو رواه أبو نعيم في مستخرجه من طريق البخاري، يعني: بإسناده إلى أن يصل إلى البخاري، فيأخذَه عن البخاري، كان بينه وبين الطيالسي أربعةٌ: شيخان بينه وبين البخاري، والبخاري، وشيخه.
أمَّا إذا رواه من غير طريق البخاري، على طريقة المستخرجات، كان بين أبي نعيم وبين الطيالسي رجلان فقط. فإنَّ أبا نُعيم سمع (مسند الطيالسي) على ابن فارس بسماعه من يونس بن حبيب، بسماعه من الطيالسي؛ فبينه وبين (مسند الطيالسي) رجلان: عليُّ بن فارس، ويونس بن حبيب، لكن بينه وبين البخاري حتى يصل البخاري راويان؛ هذا مع أنَّ البخاري لم يروِ عن أصحابِ أبي داودَ عنه.
وكذلك الحال في حديث أبي داود الطَّيالسي عند مسلم.
وضرب السيوطي مثلًا آخَر: وهو: أنَّ أبا نعيم، لو روى حديثًا عن عبد الرزاق، من طريق البخاري أو مسلم، لم يصل إليه إلا بأربعة، لم يصل إلى مصنّف عبد الرزاق، أو إلى عبد الرزاق إلا بأربعة.
وإذا رواه عن الطبراني، عن الدَّبري -وهو: راوي المصنِّف- وصل إليه باثنيْن. فهو عندما يلجأ إلى طريق الاستخراج، يظفر بعلوٍّ في أسانيده أو في بعض أسانيده، ما لا يظفر به عندما يروي مثلًا عن أحد الشيخيْن إذا كان يستخرجُ عليهما أو على أحدهما.
الفائدة الثانية: الزِّيادة في قدْر الصَّحيح:
وقد يُستغرب هذا، أو قد يخفى هذا، لأنَّه إذا كان صاحب المستخرَج يروي أحاديث البخاريِّ، أو أحاديث مسلم مثلًا، وإن كانَ عن غير طريقه، فالأحاديث هي هي.
وتكون الزيادةُ في قدْر الصَّحيح في المستخرَجات من ألفاظٍ زائدة، وتَتِمَّات في بعض الأحاديث، تثبت صحتُها بهذه التخاريج؛ وذلك لأنَّها واردة بالأسانيد الثابتة في الصحيحيْن أو أحدهما، وخارجة من ذلك المخرج الثابت، وإن كانت فيها زيادة.
فالزيادة ليست في أصل الحديث، وإنما هي كألفاظ زائدة في الحديث، أو تتمات في بعض الأحاديث، ثم تثبت صحتُها بناءً على أنَّ أصل الحديث، وما ورد فيه من غير هذه الزيادة والتتمات هو في الصَّحيحيْن.
وهذا -كما قال ابن حجر-: مسَلَّم في الرجل الذي التقى فيه إسناد المستخرِج وإسناد مصنِّف الأصل وفيمَن بعده. يعني: بعد أن التقى بالبخاري أو بعد أن التقى بمسلم، فالرُّواة هم هم ولم يختلفوا. وأمَّا مَن بين المستخرِج من الرُّواة وبين ذلك الرَّجل الذي التقى فيه إسنادُ المستخرِج، وإسنادُ مصنِّف الأصل، فيحتاج إلى نقد لأنَّ المستخرِج لم يلتزم الصِّحَّة في ذلك، وإنما جُلُّ قصْده العلوُّ، كما ذكرنا في الفائدة الأولى وكما ذكرنا قبل ذلك.
فإن حصل العلوُّ وقع على غرَضه، فإن كان مع ذلك صحيحًا أو فيه زيادة، فزيادة حُسن حصلت اتفاقًا.
وعلى هذا، فلا بدَّ من البحث في هؤلاء الرُّواة لتثبُت ثقتُهم، وبالتَّالي تكون ألفاظُهم الزائدة في الصحيح أو التتمات في بعض الأحاديث صحيحةً وثابتةً.
أمَّا إذا لم يُتبيّن ذلك، فلا تكون هذه الألفاظ الزائدة أو التتمات في بعض الأحاديث صحيحةً.
الفائدة الثَّالثة: القوةُ بكثرة الطُّرق، للتَّرجيح عند المعارضة:
قال السيوطي -رحمه الله-: ذكره ابن الصلاح -أي: ذكر هذه الفائدة في مقدمة شرح مسلم-: وذلك بأن يضمَّ المستخرجُ شخصًا آخر فأكثر مع الذي حدَّث مصنِّفُ الأصل عنه. وربَّما ساق له طُرقًا أخرى إلى الصَّحابي بعد فراغه من استخراجه، كما يصنع أبو عوانة، وأبو عوانة هو قد استخرج على صحيح مسلم صحيحه المعروف. يعني: أنَّ حديث الأصل قد انضمَّ إليه متابع، والمتابعات تقوِّي الحديث وتجعله راجحًا على غيره الذي لم يكن له متابعات.
كما قلنا في الحديثِ السَّابق: حديثِ سفيان بن عيينة عن الزُّهري مثلًا، عند البخاريِّ، فيأتي المستخرجُ بحديثٍ عن الأوزاعيِّ عن الزُّهريِّ يكون هذا متابعًا، يعني: تابع الأوزاعيُّ سفيانَ بن عيينة، وتابع سفيانُ بن عيينةَ الأوزاعيَّ، وفي هذا قوّةٌ بكثرة الطُّرق:
– فهذا طريق نقول عليه: طريق -مثلًا- الأوزاعي عن الزُّهريِّ، أو طريق الوليد بن مسلم عن الأوزاعيِّ، عن الزُّهريِّ.
– وذاك طريق: عليِّ بن المديني، أوالبخاريِّ عن عليِّ بن المديني، عن سفيان بن عيينة، عن الزُّهريِّ.
فأصبحَ للحديث طريقان، وبهما يرجح عند المعارضة على حديث آخَر له طريقٌ واحد.
وكما قال السيوطي: فإنَّه قد يزيدُ صاحبُ المستخرج طُرقًا أخرى إلى الصَّحابيِّ بعد فراغه من استخراجه، وهذا موجودٌ عند أبي عوانة في مستخرجه أو في صحيحه.
الفائدة الرَّابعة: التَّصريح بسماع المدلِّس:
وذلك أن يروي الحديث في الأصل عن مدلِّس بالعنعنة. فيرويه المستخرِج بالتَّصريح بالسماع.
يعني مثلًا: مسلم عندما يروي عن أبي الزبير، عن جابر بالعنعنة، وأبو الزبير مدلِّس؛ ونحن قد عرفنا أنَّ الشيخيْن إذا رويا عن مدلِّس، فإنه قد ثبت السماع عندهما.
ومع ذلك، فإذا روى المستخرِج الحديثَ، وفيه التَّصريح بسماع أبي الزبير من جابر، عندما يقول مثلًا: أخبرنا جابر، أو حدثنا جابر، أو سمعت جابرًا يقول كذا، فإنَّ في هذا: الاطمئنانَ إلى ما لم يتبيَّن إلا من معرفتِنا بطريقةِ الشَّيخيْن.
لكن هنا تبيَّن بالأمريْن: بطريقة الشيخيْن، وهي أنَّهما لا يرويان عن مدلِّس إلا إذا ثبت السَّماعُ عندَهما، والتَّصريح بهذا السَّماع عند المستخرِج.
قيل للحافظ المزي: هل وُجد لكل ما رواه الشيخان بالعنعنة طُرقٌ صُرِّح فيها بالتَّحديث؟ فقال: إنَّ كثيرًا من ذلك لم يوجد، وما يسعُنا إلا تحسينُ الظن. يعني: لم يوجد في علمه، ولكن مع ذلك فإنَّه يحسن الظن بالصَّحيحيْن وبصاحبيْهما، وأنَّهما لا يرويان عن مدلِّس، إلا إذا ثبت سماعُه في الحديث من شيخه أو ممَّن فوقه، وأنَّ هذا المدلِّس لم يدلِّس في هذا الحديث، يعني: لا يخفي السماع وهو ولم يسمع من شيخه.
الفائدة الخامسة: بيان الرِّواية عن المختلطين:
وهي شبيهةٌ بالفائدة الرَّابعة:
– فالفائدة الرَّابعة: سماع المدلِّس قد أُخفي؛ فصُرِّح به عند المستخرِج.
– وهنا: أخذُ الراوي عن شيخه الذي اختلط ليس معروفًا ما إذا كان قبل الاختلاط أو بعده؛ فيُبيِّنُ صاحبُ المستخرج ذلك بالنِّسبة إلى حديثه.
فالفائدة الخامسة من المستخرجات: بيانُ الرِّواية عن المختلِطين، وذلك: أن يكون مصنِّفُ الصحيح روى عمَّن اختلط، ولم يُبَيَّن هل سماع ذلك الحديث في هذه الرواية كان قبل الاختلاط أو بعده، فيُبيِّنه المستخرِج إمَّا تصريحًا، أو بأن يرويَه عنه من طريق مَن سمِع قبل الاختلاط.
يعني مثلًا: يقول في الحديث عندما يروي عن شيخه: سمعتُ منه قبل الاختلاط، أو أنَّ المستخرِج هو الذي ينبِّه على ذلك، أو يكون معروفًا في علاقة هؤلاء الرُّواة بعضهم ببعضٍ أنَّ هذا الرَّاوي قد سمعَ مِن هذا المختلط قبل هذا الاختلاط.
فمثلًا: من المعروف عن ابن لهيعة -وإن كان ابن لهيعة ليس من رواة الشيخيْن- إذا كان روى عنه عبد الله بن وهب، فمعروف أنَّه سمع منه قبل الاختلاط، وقد لا يُبيَّن ذلك، وقد يُبيَّن ذلك في الرواية؛ فيكون هذا أدعى إلى الاطمئنان، أكثر من الطَّيِّ والخفاء، الذي يكون في الرواية التي لم يبُيَّن فيها ذلك، والتي تحتاج حينئذ إلى تنقير وإلى بحث، وذلك في غير الصحيحيْن بطبيعة الحال.
أمَّا في الصحيحيْن، فكذلك هناك اطمئنانٌ إلى أنّ البخاريَّ ومسلمًا لم يأخذا من أحاديث المختلطين إلا من تلاميذهم الَّذين سمعوا منهم قبل الاختلاط.
وكما يقول الحافظ المزي -كما ذكرنا في الفائدة الرابعة-: وما يسعنا إلا تحسين الظن، والله تعالى أعلم.
الفائدة السَّادسة: بيانُ المبهَمِين:
وذلك بأن يروي في الكتاب الأصليِّ عن مبهَم، وذلك طبعًا في غير الصَّحيحيْن، أو في الصَّحيحيْن من التَّعليقات وغيرها، كحدّثنا فلان، أو رجل، أو غير واحد، فيُعيِّنه المستخرِج.
ومثل ذلك: ما إذا وقع في الإسناد: حدثنا محمَّدٌ مثلًا، من غير ذكر ما يُميِّزه عن غيره، ويكونُ صاحبُ الأصل بطبيعة الحال، قد روى عن أكثر من محمَّد، فيأتي صاحب المستخرج ويَذكُرُ في روايته محمَّدًا هذا بنَسَبه، فيُعرف: محمد بن نمير، محمد بن إسماعيل، محمد كذا، محمد كذا، وهذا له فائدةٌ كبيرة، وخاصَّة في غير كتاب الشَّيخيْن. ويستعين أصحابُ الشروح بذلك في الصحيحيْن.
فمثلًا: يقول البخاري: حدثنا محمد؛ فيأتي ابن حجر عندما يشرح هذا الحديث فيقول: محمد هذا هو فلان، لأنَّ الإسماعيلي في مستخرجه قد ذكر في روايته: من هو محمَّد هذا. وهذا كثير في البخاري، وهو أيضًا في مُسلم. وتكون المستخرجات عونًا لأصحاب هذه الشروح في تعيين مثل هؤلاء.
الفائدة السابعة: مخالفة اللغة في الأصل:
وذلك: أن يكون في الحديث مخالفة لقاعدة من قواعد اللغة، فيُتكلف لتوجيهِه، ويُتحمَّل لتخريجه؛ فيجيء في رواية المستخرِج موافقًا للقاعدة، فيعرف بأنه هو الصحيح.
وذلك: كأن يرفع مفعولًا، أو ينصبَ اسمًا لـكان، أو يرفع اسمًا لـإنَّ، أو غير ذلك… ويأتي الحديث في المستخرَج موافقًا للقاعدة اللُّغوية؛ فيكون هذا من التَّصحيح، وبيان أنَّ هذا الَّذي جاء على القواعد هو الصَّحيح، اللَّهمَّ إلا إذا كان في بعض الأمثلة التي يثبت فيها أنَّ الرواية هكذا، وأنه يُمكن أن تُخرَّج على لغةٍ من لغات القبائل -ويكونُ هذا مقصودًا- أو لأنَّ الراوي كان من هذه القبيلة.
الفائدة الثامنة: ما يقع في المستخرَجات من التَّمييز للمتن المُحال به على المتن المُحال عليه:
وذلك في كتاب مسلم كثيرٌ جدًا؛ فإنَّه كثيرًا ما يَذكر الحديث تامًَّا بإسناده وبمتنه، ثم يَذكر بعده إسنادَ حديث ويُحيله على ما قبلَه، أو يذكُر بعض الإسناد ويُحيل الباقي على ما قبله ولا يذكر متنه.
ويظنُّ الظَّانُّ: أنَّ متن هذا الحديث مطابقٌ تمامًا للمتن السَّابق، لكن عندما يأتي أبو عوانة أو غيرُه ولا يُحيل، وإنَّما يذكر المتنَ الذي أحاله مسلم على ما قبله، فيُمكننا عند المقارنة أن نرى بعض الاختلاف والتَّمييز للمتن المحال به على المتن المحال عليه.
وكثيرٌ -كما قلنا- ما يفعل ذلك مسلم، فإنَّه كثيرًا ما يُحيل الحديثَ على ما قبله في إسناده ومتنه، ولا يذكر المتن، ويكتفي بقوله: مثلُهُ، فيُحمل على أنه نظيره. وتارةً يقول: نحوه، أو معناه؛ فيُحمَلُ على أنَّ فيهما مخالفةً بالزِّيادة والنَّقص، فيأتي صاحبُ المستخرَج، ويذكر لفظ الحديث المحال الذي لم يذكره الأصل، وفي هذا استبانةٌ للفروق بين الحديث المحال والمحال عليه، سواء أكان ذلك في الإسناد، أم في المتن. وفي هذا ما يفيد الباحثين فائدة كبيرة.
ويتبيَّن من الفروق:
– أنَّه ما ينبغي -كما قال العلماء- أن ننسُب مثل هذه الأحاديث في ألفاظها أو في متونها إلى مسلم، وإنما نقول أحال على حديث سابق فقط، ونترك احتمال أن تكون هناك فروق.
الفائدة التاسعة: ما يقع في المستخرجات من الفصل للكلام المدرج في الحديث، مما ليس من الحديث، ويكون في الأصل غير مُفصل:
وبيان ذلك: أن يكون هناك إدراجٌ في الحديث، والأصلُ المستخرَج عليه لم يُبيِّن إمَّا لشهرة هذا الإدراج، أو لوهْم أنَّ هذا من الحديث أو غير ذلك؛ فيأتي صاحب المستخرَج فيتبيَّن في روايته صريحًا ما من الحديث ممَّا ليس منه ممَّا هو أدرج.
والإدراج في الحديث: أن يُضمَّ إلى الحديث ما ليس منه، ويتوقف الأمر على بيان المدرج من غيره، فإذا لم يتبيَّن المدرج واعتُبر أنَّ كلَّ ما في الحديث منه، ضُعِّف هذا الحديث.
ففائدة المستخرجات هنا: أن تُبيِّن ذلك المُدرج، ممَّا لم نظفر منه في الأصل.
وقد اعتنى بذلك حقيقةً بعضُ العلماء وألَّفوا فيه، كالخطيب البغدادي وغيره؛ ولكن ذلك عندما يكونُ في الرواية يكونُ قريب المأتى والتَّناول.
الفائدة العاشرة: ما يقعُ في المستخرجات من الأحاديث المصرَّح برفعها، وتكونُ في أصل الحديث موقوفةً أو كصورة الموقوفة:
يعني: أنَّ هذه الأحاديث تقعُ مثلًا في صحيح البخاريّ، أو في صحيح مسلم وكأنَّها موقوفة، أو صورتُها صورةُ الموقوفة، ثم يأتي المستخرِج أو المستخرَج من الكتب، فيوضّح ويصرِّح بأنَّها مرفوعة؛ فيزولُ الاحتمال، احتمالُ كونها موقوفة أو كصورة الموقوفة.
الفائدة الحادية عشرة: عدالةُ من أُخرج له في المستخرَج على الصَّحيح:
لأنَّ المُخرِّج على شرط الصَّحيح، يلزمُه ألا يُخرج إلا عن ثقةٍ عنده، فكونُه يأتي براوٍ -وبطبيعة الحال يكون هذا الرَّاوي قبل الالتقاء مع أحد الصَّحيحيْن- فهذا يكون عدلًا ثقة عند المُخرِّج حتى يَسلَم له الاستخراج على الصَّحيحيْن أو على أحدهما.
فمِن هؤلاء الَّذين خُرِّج لهم، مَن لا يُعرف لأحدٍ قبل هذا المُخرِّج فيه توثيقٌ ولا تجريح. فتخريج من يشترط الصحة لهم ينقلهم عن درجة من هو مستور لا تُعرف ثقته، إلى درجة من هو مُوَثق؛ فيستفادُ من ذلك صحةُ أحاديثهم التي يروونها بهذا الإسناد، حتَّى ولو جاءت مرةً أخرى بمتن آخر أو بحديث آخر في غير المستخرج.
وننبِّه مرةً أخرى، إلى أنَّ مثل هؤلاء الرُّواة الَّذين يُستفاد توثيقُهم من المستخرَج، إنَّما يكونون قبل الالتقاء بالأصل، لأنَّه إذا التقى بالأصل، والأصل أحد الصَّحيحيْن، فإنه تستفاد الثِّقة من هؤلاء، لأنَّهم من رجال الصَّحيحيْن أو من رجال أحدهما.
الكتب التي أُلِّفت في هذا المجال:
1. مستخرجات على الصَّحيحيْن:
وأكثر الكتب التي أُلِّفت في هذا المجال، إنَّما هي استخراجٌ على الصَّحيحيْن، ومنها:
– مستخرج أبي بكر الإسماعيليِّ على (صحيح البُخاريّ): وهذا الكتاب يستفيدُ منه كثيرون ممَّن شرحوا البخاريّ، حين يُقارنون بين رواية الأصل -وهو صحيح البخاريّ، ورواية أبي بكر الإسماعيليِّ، بما فيها من زيادةٍ أو توضيح، إلى غير ذلك من الفوائد الَّتي سبق أن ذكرناها…
ومن هذه الكتب:
– مستخرج أبي نُعيم الأصبهانيِّ على صحيح البخاريّ: وهذا الكتاب لم يُطبع -على ما أعلم حتى الآن-.
– وله مستخرجٌ أيضًا على صحيح مسلم، وهذا الكتاب قد طُبع أو طُبع جزءٌ كبير منه.
ومن المستخرجات على صحيح البخاريّ:
– مستخرج أبي بكر البلقانيِّ الَّذي تُوفِّي سنة (425هـ): هذا الكتاب مستخرجٌ على صحيح البخاريّ، ولكنَّه لم يخرج إلى النور حتَّى الآن مطبوعًا، على ما نعلم.
ومن المستخرجات على مسلم:
– مستخرج أبي عوانة يعقوب بن إسحاق الإسفراييني، المُتوفََّى سنة (316هـ)، وهو على مسلم. وهو مطبوعٌ ومُتداول، ويُمكن أن يُستخلص منه بسهولةٍ كثيرٌ من الفوائد الَّتي سبق أن ذكرناها للمستخرجات.
وقد ذكر صاحبُ الرِّسالة المستطرفة فيها خمسة وعشرين مستخرجًا على الصَّحيحيْن، أو على أحدهما.
2. مستخرجات على غير الصَّحيحيْن:
ولا تقتصر المستخرجات على الصَّحيحيْن كما قلنا، وإنما هناك مستخرجاتٌ على كتب أخرى كـ:
مستخرج أبي عليٍّ الحسن بن عليٍّ الطُّوسيِّ، المُتوفَّى سنة (312هـ)، على التِّرمذيِّ، وهو كتاب طُبع جزءٌ منه.