(المستدرك) للحاكم
وقد قسم الحاكم في كتابه (المدخل إلى كتاب الإكليل) الحديث الصحيح إلى عشرة أقسام؛ خمسة متفق عليها وخمسة مختلف فيها، قال: فالقسم الأول من المتفق عليه اختيار البخاري ومسلم، وهو الحديث الذي يرويه الصحابي المشهور بالرواية عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وله راويان ثقتان، ثم يرويه عنه التابعي المشهور بالرواية عن الصحابة وله راويان ثقتان، ثم يرويه عنه من أتباع التابعين الحافظ المتقن المشهور وله رواة ثقات من الطبقة الرابعة، ثم يكون شيخ البخاري أو شيخ مسلم حافظًا متقنًا مشهورًا بالعدالة في روايته، قال: فهذه هي الدرجة الأولى من الصحيح.
ومراد الحاكم باختيار البخاري ومسلم -اختيارهما أو اختيار واحد منهما- ما يتحقق اختيارهما المتفق عليه بينهما برواية حديث يتحد فيه الإسناد والمتن؛ بأن يرويه البخاري عن شيخ معين فيرويه مسلم عن نفس الشيخ مع اتحاد السند والمتن عندهما، وهذه هي المتابعة التامة والاتفاق الكامل، وقد تكون المتابعة ناقصة والمتن متحدًا في اللفظ، وقد تكون المتابعة تامة والمتن تختلف ألفاظه وتتحد معانيه في الغالب أو في الجملة، وقد تكون المتابعة ناقصة والمتن تتحد معانيه في الغالب أو في الجملة، وقد يكون المتن متحدًا في جميع ألفاظه أو في أغلبها أو في الجملة, مع اختلاف السند بينهم.
وقد بين ابن حجر في “نكته على ابن الصلاح” أن المتفق عليه: ما اتفقَا على تخريجه من حديث صحابي واحد، أما إذا كان المتن الواحد عند أحدهما من حديث صحابي غير الصحابي الذي أخرجه عنه الآخر مع اتفاق لفظ المتن أو معناه، ففي القول بأنه من المتفق عليه نظر على طريقة المحدثين، والظاهر من تصرفاتهم أنهم لا يعدونه من المتفق؛ إلا أن الجوزقي منهم استعمل ذلك في كتاب (المتفق) له في عدة أحاديث، وما يتمشى له ذلك إلا على طريقة الفقهاء؛ أي: فإن كان الاتفاق في أصل السند -وهو الصحابي- دخل في المتفق عليه، وإن لم يحصل الاتفاق في أصل السند مع اتحاد المتن لفظًا أو معنًى؛ فلا يكون متفقًا عليه عند المحدثين، ويكون متفقًا عليه عند الفقهاء.
وقسم ابن حجر ما اتفقَا عليه -أي: البخاري ومسلم- إلى أقسام:
أحدها: ما وصف بكونه متواترًا.
والثاني: ما كان مشهورًا كثير الطرق.
والثالث: ما وافقهما الأئمة, الذين التزموا الصحة على تخريجه.
الرابع: ما وافقهما عليه بعض من ذُكر وليس الكل. ثم ما انفردَا بتخريجه ولم يوافقَا عليه، ثم يليه ما أخرجه أحدهما دون الآخر، ويقدم من ذلك ما أخرجه بسند أخرج الآخر بمثله حديثًا آخر، ثم ما أخرجه بسند لم يخرج مثله بمثله حديثًا آخر، مع عدم وجود سبب قوي لترك الإخراج بهذا السند، ثم ما أخرجه بسند لم يخرج بمثله الآخر، مع ظهور سبب لعدم إخراجه حديثًا بهذا السند، فاتفاقهما في السند ولو في الصحابي وفي المتن، هو الدرجة الأولى مما أخرجاه، ثم اتفاقهما في السند مع اختلاف المتن المروي، ثم إخراج البخاري بسند لم يخرج مسلم بمثله مع عدم وجود سبب لتركه الإخراج به، ثم إخراج مسلم بسند لم يخرج بمثله البخاري مع عدم وجود سبب لتركه الإخراج به، ثم إخراج أحدهما بسند لم يخرج الآخر بمثله مع وجود سبب لترك الإخراج به, ويقدم البخاري على مسلم.
أما المتواتر أو المشهور بكثرة الطرق فمزيته راجعة إلى غير إخراج البخاري ومسلم له؛ بل لذات التواتر أو الشهرة مع الصحة، وأما موافقة الأئمة لهم على إخراجه فالترجيح به أيضًا راجع إلى غير اختيارهما وإخراجهما للحديث؛ بل لموافقة غيرهم من الأئمة لهما، والكلام فيما يرجع إلى نفس تخريجهما للحديث على الوجه الذي أخرجاه أو أحدهما به.
ومما يدخل في اختيار البخاري ومسلم حُكْمًا وإن لم يخرجاه فعلًا -ما ماثلَ ما أخرجاه؛ إما لكونه روي بإسناد روَى به البخاري ومسلم حديثًا آخر، وإما لكونه روَى بإسناد رواه الرواة بإسناد روى به البخاري، أو بإسناد روى به مسلم. وقد يكون الحديث مرويًّا بسند رجاله في درجة الرجال الذين روى لهم البخاري ومسلم، وإن اشتمل على غير من أخرج لهم البخاري ومسلم بالذات، وقد يكون في الإسناد رجل يماثل مَن أخرج له البخاري وإن لم يخرج له البخاري في صحيحه، أو يماثل من أخرج له مسلم؛ وإن لم يخرج له مسلم بالذات في صحيحه.
وهذا كله يمكن أن يدخل في اختيار البخاري ومسلم, أو يقال: هو على شرطهما أو على شرط أحدهما، قال الحاكم: والأحاديث المروية بهذه الشريطة لا يبلغ عددها عشرةَ آلاف حديث، ولعله أراد بذلك المتون مع تعدد أسانيدها بهذه الشريطة، وقد اعترض ابن حجر على الحاكم فيما ذكره عن هذا القسم، فقال: أما القسم الأول الذي ادَّعى أنه شرط الشيخين، فمنقوض بأنهما لم يشترطَا ذلك, ولا يقتضيه تصرفهما وهو ظاهر لمن نظر في كتابيهما، وبين السخاوي أن البيهقي وافق الحاكمَ فيما قال.
ونقل السخاوي عن ابن حجر أن كلام الحاكم وإن كان منتقضًا في حق بعض الصحابة الذين أخرج لهم، فإنه معتبر في حق من بعدهم، وليس في الكتاب حديث أصل من رواية من ليس له إلا راوٍ واحد قط.
والنتيجة مما قدمناه أن ما قاله الحاكم هو باعتبار أصل تخريجهما، وأن ما خالف ذلك في الكتابين -وهو نادر- فخارج عن أصل اختيارهما؛ لسبب من الأسباب.
هذا فيما أخرجاه، وأمثلته واضحة من الكتابين؛ كتاب البخاري وكتاب مسلم.
أما منهج الحاكم في مستدركه؛ فأودع فيه -كما قال ابن الصلاح- مما رآه على شرط الشيخين قد أخرجا عن رواته في كتابيهما أو على شرط البخاري وحده أو على شرط مسلم وحده، ومما أدى اجتهاده إلى تصحيحه وإن لم يكن على شرط واحد منهما.
قال ابن الصلاح: وهو واسع الخطو في شرط الصحيح، متساهل في القضاء به، فالأولى أن نتوسط في أمره فنقول: ما حكم بصحته ولم نجد ذلك فيه لغيره من الأئمة, إن لم يكن من قبيل الصحيح فهو من قبيل الحسن, يحتج به ويعمل به؛ إلا أن تظهر فيه علة توجب ضعفه.
وعلق العراقي في تقييده على ذلك بقوله: فيه أمران:
أحدهما: أن قوله: “أودعه ما ليس في واحد من الصحيحين” ليس كذلك؛ فقد أودعه أحاديث مخرجة في الصحيحين وهمًا منه في ذلك، وهي أحاديث كثيرة منها حديث أبي سعيد الخدري مرفوعًا: ((لا تكتبوا عني شيئًا سوى القرآن)) رواه الحاكم في “مناقب أبي سعيد” وقد أخرجه مسلم في صحيحه، والمراد بالكثرة هنا أنها عدد ظاهر؛ لكنها ليست كثيرة بالنسبة إلى ما في الكتاب.
وقد بين الحافظ الذهبي في (مختصر المستدرك) الأحاديثَ التي أخرجها الحاكم, وهي في الصحيح.
الأمر الثاني: أن قوله: “على شرط الشيخين, قد أخرجا عن رواته في كتابيهما” فيه بيان أن ما هو على شرطهما هو ما أخرجَا عن رواته في كتابيهما، ولم يرد الحاكم ذلك؛ فقد قال في خطبة كتاب (المستدرك): وأنا أستعين الله تعالى على إخراج أحاديث رواتها ثقات, قد احتج بمثلها الشيخان أو أحدهما. فقول الحاكم: “بمثلها” أي: بمثل رواتها لا بهم أنفسهم، ويحتمل أن يراد بمثل تلك الأحاديث، وفيه نظر، والذي ذكره ابن الصلاح هو الذي فهمه ابن دقيق العيد من عمل الحاكم، فإنه ينقد تصحيح الحاكم للحديث وأنه على شرط البخاري مثلًا، ثم يعترض عليه بأن فيه فلانًا لم يخرج له البخاري، وهكذا فعل الذهبي في (مختصر المستدرك) ولكن ظاهر كلام الحاكم المذكور مخالف لما فهموه عنه.
وبين العراقي أنه إذا أخرج حديثًا على شرط البخاري أو على شرط مسلم, وفي سنده راو لم يرو له البخاري أو مسلم، لا يعترض عليه كما فعل العراقي وابن دقيق العيد والذهبي؛ لأنه لا يقصد نفس الرواة, وإنما يقصد نفس الرواة أو مثلَهم.
ثم عقَّب العراقي على كلام ابن الصلاح في تصحيح الحاكم وما ينبغي نحوه، فقال: تعقبه القاضي بدر الدين بن جماعة بأنه يتتبع, ويحكم عليه بما يليق بحاله من الصحة أو الحسن أو الضعف. قال العراقي: وهذا هو الصواب، إلا أن الشيخ ابن الصلاح رأيه أنه قد انقطع التصحيح في هذه الأعصار، فليس لأحد أن يصحح؛ فلهذا قطع النظر عن الكشف عليه -أي: والحكم عليه بحكم خاص.
وقال ابن حجر في “نكته على ابن الصلاح”: ينقسم المستدرك أقسامًا, كل قسم منها يمكن تقسيمه:
الأول: أن يكون إسناد الحديث الذي يخرجه محتجًّا برواته في الصحيحين أو أحدهما على صورة الاجتماع، سالمًا من العلل، قال: واحترزنا بقولنا: “على صورة الاجتماع” عما احتجَّا برواته على صورة الانفراد كسفيان بن حسين عن الزهري، فإنهما احتجا بكل منهما على الانفراد، ولم يحتجا برواية سفيان بن حسين عن الزهري؛ لأن سماعه من الزهري ضعيف دون بقية مشايخه.
فإذا وجد حديث من روايته عن الزهري لا يقال: على شرط الشيخين؛ لأنهما احتجا بكل منهما، بل لا يكون على شرطهما إلا إذا احتجا بكل منهما على صورة الاجتماع، وكذا إذا كان الإسناد قد احتج كل منهما برجل منه ولم يحتج بآخر منه، كالحديث الذي يروى عن طريق شعبة مثلًا عن سِماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس {, فإن مسلمًا احتج بحديث سماك إذا كان من رواية الثقات عنه، ولم يحتج بعكرمة، واحتج البخاري بعكرمة دون سماك، فلا يكون الإسناد -سماك عن عكرمة- والحالة هذه على شرطهما, فلا يجتمع فيه صورة الاجتماع.
وكان على الحافظ ابن حجر أن يذكر ما إذا كان في (المستدرك) أمثلة لعدم التنبه إلى ذلك أو لا، والذي نراه في هذا المجال -وسنوضحه بالأمثلة من عمل الحاكم- أن الحاكم يعتبر ما أخرجه من الأسانيد برجال الصحيحين على الوجه الذي ورد به الإسناد في الصحيحين -مع اختلاف المتن- على شرطهما؛ إذ التشابه كامن بين ما أخرجاه سندًا وما أخرجه هو, سواء في الرجال أو في درجة اتصال الرواية بين كل منهم وبين من روى عنه، والتشابه أو التماثل الكامل في السند يجعل الحكم على المتماثلين واحدًا، والمتن تابع للسند، ولا ينازع أحد في ذلك ما لم توجد علة في هذه الرواية بالذات، وقد يُروى أكثر السند في الحديث الذي ورد في (المستدرك) على الوجه الذي ورد في سند الصحيحين، ويكون في السند راوٍ أخرج له البخاري ولم يخرج له مسلم، أو أخرج له مسلم ولم يخرج له البخاري، فيكون السند على شرط ما جمع السند كل رجاله حتمًا.
لكن الحاكم ينظر في الراوي الذي أخرج له أحدهما ولم يخرج له الآخر، ويبحث في سبب ترك الآخر له، فإن كان الراوي مضعفًا في جانب منع الآخر من الإخراج له, ومن لم يعتبر ممن أخرج له هذا السبب مضعفًا له؛ جعله على شرط من أخرج له فقط ولم يجعله على شرط الآخر أبدًا، وكذلك الأمر فيما بين الراويين من الاتصال وعدم الاتصال، وإن كان عدم إخراجه له ليس بسبب ضعفٍ من أجله اعتبره مماثلًا للرواة الذين أخرج لهم الشيخ الذي تركه، وجعله كأنه على شرطه، وقال: على شرطهما معًا, وإن لم يخرج أحدهما لبعض رجاله.
وهو في كل ذلك يراعي باقي شروط الصحيح؛ من اتصال السند وعدم الشذوذ والعلة القادحة، وإن كان أكثر الإسناد برجال أحدهما الذي لم يخرج له الآخر جعله على شرطه، وكذلك إذا كان أكثره كذلك ما دام باقي السند ليس فيه من جهة الرجال، أو ما بينهم من الاتصال ما يمنع من هذا الاعتبار.
قال ابن حجر: واحترزت بقولي: أن يكون سالمًا من العلل بما إذا احتجا بجميع رواته على صورة الاجتماع، إلا أن فيهم من وصف بالتدليس أو اختلط في آخر عمره، فإنا نعلم أن الشيخين لم يخرجا من رواية المدلسين بالعنعنة إلا ما تحقق أنه مسموع لهم من جهة أخرى، وكذلك لم يخرجا من حديث المختلطين عمن سمع منهم بعد الاختلاط إلا ما تحقق أنه من صحيح حديثهم قبل الاختلاط، فإذا كان كذلك لم يجز الحكم للحديث الذي فيه مدلس قد عنعنه, أو شيخ سمع ممن اختلط بعد اختلاطه؛ بأنه على شرطهما وإن كانا قد أخرجا ذلك الإسناد بعينه، إلا إذا صرح المدلس من جهة أخرى بالسماع، وصح أن الراوي سمع من شيخه قبل اختلاطه، فهذا القسم يوصف بكونه على شرطهما أو على شرط أحدهما.
قال ابن حجر: ولا يوجد في (المستدرك) حديث بهذه الشروط لم يخرجا له نظيرًا أو أصلًا إلا القليل، قال: نعم، وفيه جملة مستكثرة بهذه الشروط؛ لكنها مما أخرجها الشيخان أو أحدهما, استدركها الحاكم واهمًا في ذلك, ظانًّا أنهما لم يخرجاها.
وظاهر كلام ابن حجر: أن الحاكم لا يظهر له أثر في هذا القسم، وهو إجحاف بالحاكم يظهر من متابعة سلاسل الإسناد على الوضع الذي وردت به عندهما، وما رواه الحاكم بهذه السلاسل ودراسة رجال هذه السلاسل من ناحية التدليس أو الاختلاط أو نحو ذلك؛ لمراعاة ما ذكره ابن حجر، على أنه يكفي في مثل ذلك ثبوت الحديث عن الصحابي الذي رواه أو الشيخ الأعلى لمن رواه, ولو كان مدلسًا أو مختلطًا من طريق آخر، وإن لم يثبت متصلًا عن الراوي عن شيخه الذي روى عنه بالعنعنة، بل يكفي في تثبيت المتن وتقويته ورود شواهد مطابقة له عن صحابي آخر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو مطابقة لأغلبه، وذلك ظاهر في (صحيح مسلم) ونادر في (صحيح البخاري)؛ إذ يتحرى البخاري المتابعات للسند، وقد يكتفي مسلم بجبر المتن مع بقاء علة السند بغير ورود ما يجبُرها.
كما يكفي في ذلك ورود السند برجال أحدهما مع عدم وجود ما يقدح فيه ليكون على شرطه، بل ويكفي في ذلك ورود السند برجال في درجة رجال أحدهما، والمدار على ألا يكون في السند رجل لم يخرج له أحدهما؛ لسبب يتعلق بحال الراوي، أو بعلاقته لمن يروي عنهم من ناحية الاتصال ونحوه، ثم يقال: إنه على شرط من تركه، وإذا رُمنا ذلك وجدنا في (المستدرك) مما قال: إنه على شرطهما أو شرط أحدهما مما لم يخرجاه, الكثير.
أما القول بإخراجهما نظيرًا له أو أصلًا لكل ما أخرجه كذلك، ففيه مبالغة كبيرة؛ إلا إذا توسّعنا في النظير أو الأصل فجعلناه شاملًا لكل ما يشترك مع الحديث في الموضوع العام.
وليت ابن حجر دعم ما يقول بالأمثلة؛ ليظهر رأيه بدلًا من التعميم الذي لا يسانده الواقع، وليته نظر إلى الحاكم كإمام مجتهد يحاول مراعاةَ ما ذكره في هذا المجال.
قال ابن حجر: القسم الثاني: أن يكون إسناد الحديث قد أخرجا لجميع رواته, لا على سبيل الاحتجاج به؛ بل في الشواهد والمتابعات والتعاليق, أو مقرونًا بغيره، ويلتحق بذلك ما إذا أخرجَا لرجل وتجنبَا ما تفرد به أو ما خالف فيه، كما أخرج مسلم من نسخة العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- ما لم يتفرد به، فلا يحسن أن يقال: إن باقي النسخة على شرط مسلم؛ لأنه ما خرج بعضها إلا بعد أن تبين أن ذلك مما لم ينفرد به، فما كان بهذه المثابة لا يلتحق أفراده بشرطهما.
وقد عقد الحاكم في كتاب (المدخل) بابًا مستقلًّا ذكر فيه من أخرج له الشيخان في المتابعات وعدد ما أخرج من ذلك، ثم إنه مع هذا الاطلاع يخرج أحاديث هؤلاء في (المستدرك) زاعمًا أنها على شرطهم، قال: ولا شك في نزول أحاديثهم عن درجة الصحيح, بل ربما كان فيها الشاذ والضعيف؛ لكن أكثرها لا ينزل عن درجة الحسن.
والحاكم وإن كان لا يفرق بين الصحيح والحسن, بل يجعل الجميع صحيحًا تبعًا لمشايخه كابن خزيمة وابن حبان، فإنما يناقش في دعواه أن أحاديث هؤلاء على شرط الشيخين أو أحدهما، قال: وهذا القسم هو عمدة الكتاب، ويظهر من كلام ابن حجر أن مسلمًا مثلًا أخرج كل ما لم يتفرد به العلاء عن أبيه أو لم يخالف فيه ولم يترك شيئًا منه مما هو على شرطه، وهو قول يخالفه اختيار الشيخين من الصحيح، وتركهما مما هو على شرطهما الكثير، وهو ما نقب عنه الحاكم واختار.
فمن أمثلة ما رواه الحاكم في (المستدرك) على شرطهما أو على شرط أحدهما، أنه إذا أورد الحاكم في (المستدرك) حديثًا وقال: على شرطهما أو على شرط واحد منهما، نظرنا في متن الحديث؛ لننظر: هل أخرجاه أو أحدهم؟ فإن أخرجاه نظرنا هل أخرجاه بنفس سند الحاكم أم لا؟ فإن لم يخرجاه بسند الحاكم نظرنا في رجال السند, هل أخرج لهم الشيخ بهيئة الاجتماع أم لا؟ فإن لم يخرجا بهذا السند حديثًا على هيئة الاجتماع نظرنا في رجال السند, هل روى عن كل واحد منهم الشيخان أو أحدهما أم لا؟ فإن لم يروِ الشيخان أو أحدهما عن رجل من السند نظرنا, هل يماثل من رويَا أو أحدهما له أم لا؟ فإن لم يماثل أو كان لتركه عندهما سبب ظاهر؛ لم يكن الحديث على شرطهما أو على شرط واحد منهما، وإلا أجرينا الأقوال السابقة في الحكم؛ لكون الحديث على شرطيهما أو على شرط أحدهما.
ويمكن معرفة رجال البخاري ومسلم أو رجال أحدهما, ورواية الراوي عمن فوقه عندهما أو عند أحدهما، باستعمال كتاب (تهذيب الكمال) للمزي وكتب الأطراف وغير ذلك.
أما معرفة المتون التي أخرجها الشيخان والأسانيد التي رويت بها فسبيله علم التخريج، ففي (المستدرك) قال الحاكم: حدثنا محمد بن صالح أبو سعيد محمد بن شاذان قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم ومحمد بن رافع ومحمد بن يحيى قالوا: حدثنا عبد الرزاق قال: أنبأنا معمر عن ابن أبي ذئب عن سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ما أدري أتُبَّع كان لعينًا أم لا؟ وما أدري أذو القرنين كان نبيًّا أم لا؟ وما أدري الحدود كفارةٌ لأهلها أم لا؟)) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وبتخريج الحديث لم نجد رواية الشيخين لهذا المتن، فهما لم يخرجاه أو أحدهم، وبالنظر في (تحفة الأشراف) و(تهذيب الكمال) عرفنا أن الشيخان رويَا رواية ابن أبي ذئب عن سعيد عن أبيه عن أبي هريرة، وروى مسلم عن إسحاق بن إبراهيم عن عبد الرزاق عن معمر، وروى البخاري من طريق عبد الرزاق عن معمر, وروى البخاري عن إسحاق بن إبراهيم عن عبد الرزاق، ولم يرويَا أو أحدهما لمعمر عن ابن أبي ذئب، وهو من أقرانه، وقال الحاكم: على شرطهما وإن لم يخرجَا سنده على هيئة الاجتماع؛ لأنه لا يعتبر ذلك، وإن ألزمه به ابن حجر، وهو ما نرى عدم إلزامه به، وقد أخرجا لكل رواته إسحاق بن راهويه فمن فوقه، ومنهم محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن أبي ذئب، ولم يرد أو يظهر ما يدل على أن امتناعهما من إيراد رواية معمر عن ابن أبي ذئب لسبب يقتضي عدم إخراجها في الصحيحين أو أحدهما، ولو ورَد ما يدل على وجود سبب لعدم إخراج رواية ابن أبي ذئب من طريق معمر، لَمَا قال الحاكم: على شرطهما، وقد وافقه الذهبي فيما قال.
والمثال الثاني من ذلك قول الحاكم: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، قال: حدثنا بحر بن نصر بن سابق الخولاني، قال: حدثنا شعيب بن الليث بن سعد، قال: حدثني أبي، قال الحاكم: حدثنا علي بن حمشاذ، قال: حدثنا عبيد بن عبد الواحد، قال: حدثنا يحيى بن بكير، قال: حدثنا الليث عن ابن عجلان عن زيد بن أسلم عن أبي صالح, عن أبي هريرة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((إن رجلًا لم يعمل خيرًا قط وكان يداين الناس، فيقول لرسوله: خذ ما تيسر واترك ما عسر)). قال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم, ولم يخرجاه.
وبتخريج الحديث نجد أن البخاري رواه من طريق إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن أبي هريرة، ورواه مسلم في “المساقاة” من طريق إبراهيم بن سعد عن الزهري، وقد أخرج الشيخان عن زيد بن أسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة، وأخرج مسلم لمحمد بن عدلان في المتابعات ولم يحتج به كما قال ابن حجر، وسبقه الحاكم في (المدخل إلى الصحيحين). لكن مسلمًا لم يخرج لابن عدلان من روايته عن زيد بن أسلم، وأخرج البخاري تعليقًا لابن عدلان من روايته عن زيد بن أسلم، وروى مسلم لليث بن سعد عن ابن عدلان، وعلق البخاري رواية الليث عن ابن عدلان، وأخرجا في صحيحيهما لابن بكير عن الليث، وإنما جعله الحاكم على شرط مسلم؛ لأن فيه محمد بن عدلان, والبخاري قد تركه لسبب يقتضي الترك عنده ولم يرو عنه حديثًا موصولًا، وأخرج له الحاكم هذا الحديث مع متابعة له عن أبي هريرة في الصحيحين, ومع وجود شواهد صحيحة له عن أبي مسعود البدري وغيره أخرجها في (المستدرك), وأخرج بعض الشواهد الشيخان.
واستدراك الحاكم هذا الحديث على مسلم؛ لأنه لم يخرجه عن ابن عدلان، بل ولا عمن فوقه وإن أخرجه عن أبي هريرة، ولو وجده بسند آخر على شرط البخاري عن أبي هريرة لكان له أن يستدركه، لكنه لا يستدرك إلا بعض ما يستدرك على شرطهما أو شرط أحدهما من الأسانيد والمتون, ووافقه الذهبي فيما قال.
ولو سرنا على هذا الطريق مع الحاكم في الأمثلة لتكشّف لنا أمره، وما بذله في مستدركه، وأنه إذا نزل عن شرطه أو قال: صحيح الإسناد، فهو يشير إلى علة في الحديث وقد يقوّيه بشواهده، وإنما تجوز في كتاب (التاريخ) عن شرطه؛ لِمَا في التواريخ وأسانيدها من التساهل عما يُشترط في غير التاريخ من الأحاديث.