المسلمون في قبرص
قبرص ثالثة كبريات جزر البحر الأبيض المتوسط، توجد في جزئه الشرقي، وتبعد عن الساحل السوري 90 كيلو متر، وعن الساحل التركي 65 كيلو متر، وعن الساحل المصري 400 كيلو متر، وعن الساحل اليوناني 900 كيلو متر، كما يبلغ أقصى طول لها 235 كيلو متر، وأقصى عرض لها 90 كيلو متر، ومساحتها 9251 كيلو متر، بلغ عدد سكانها عام 1407 هـ حوالي 750 ألف نسمة، منهم 175 ألف نسمة من المسلمين الأتراك، والباقي من النصارى اليونانيين، ومن جنسيات مختلفة.
دخول الإسلام إلى قبرص: فتح المسلمون32.34 المسلمون ديار الشام، وأصبحت قاعدة من قواعد الإسلام، وولي عليها معاوية بن أبي سفيان الذي تابع الفتوحات الإسلامية في بلاد الروم، ورأى أن يستولي على القواعد الهامة؛ ليتمكن من منازلة الروم، وليحول دون استخدامها ضد المسلمين، وكان أهم هذه القواعد قبرص التي كان العدو يُغير منها على الثغور الإسلامية، فاستنفر معاوية العمال، ومن كان لهم خبرات في صناعة السفن وحشدهم في عكا، ورمَّم الحصن والمرفق وجعله دارًا لصناعة السفن، وتجهيز الأسطول الإسلامي وإعداده، كما رمم مدينة صور وشحنها بالمقاتلة، واستأذن عثمان بن عفان رضي الله عنه في غزو قبرص، فأذن له بشرط أن لا يحمل الناس كرهًا على ركوب البحر، فتكون الخدمة البحرية على طريق التطوع، وأن يصطحب معه زوجته، وكان المسلمون يفعلون ذلك في حروبهم؛ لإظهار النكاية بالعدو، والعزم على بلوغ النصر، فعين معاوية لقيادة القوة البحرية عبد الله بن قيس الحارثي حليف بني فزارة، وكان من رجال البحر المعروفين غزا 50 غزوة لم يغرق من جيشه أحد، ولم ينكب.
ركب معاوية البحر بألف وسبعمائة سفينة، ومعه زوجته وعدد من الصحابة، فيهم أبو ذر، والمقداد بن الأسود، وأبو الدرداء، وشداد بن أوس، وعبادة بن الصامت، ومعه زوجته أم حرام بنت ملحام الأنصارية؛ ففتح المسلمون قبرص عام 28 هـ صلحًا، واستخدمت كقاعدة إنذار للمسلمين من حيث يجب على أهلها بموجب المعاهدة.
إخبار المسلمين عن التحركات المعادية مع استخدام الجزيرة كقاعدة لدعم البحرية الإسلامية، ولما خرج المسلمون من الجزيرة ماتت أم حرام هناك، وقبرها لا يزال، وكأنه يقول للمسلمين اليوم: إن هذه الأرض قد أريقت عليها دماء الصحابة، فانتبهوا إليها ولا تضيعوها، ولا تتولوا أعداء الله، ونقض أهل قبرص العهد عام 33 هجرية 653 م، فوجه معاوية قوة مكونة من 500 مركب، وحاصرها وفتحها عنوة، ونقل إليها جيشًا من اثني عشر ألفًا من المسلمين لحمايتها، فأقام هذا الجيش، وعمَّر المساجد، وبنى الحصون، وأقام المراصد، وأصبحت جزءًا من ديار الإسلام.
واتصل أهل قبرص النصارى بالروم عام 125 هـ، فجهز الوليد بن يزيد جيشًا بقيادة أخيه، وأعادت الجيوش الإسلامية فتح الجزيرة، وخيروا أهلها بين المسير إلى الشام أو الالتحاق ببلاد الروم، فاختار جمع كبير من أهلها الذهاب إلى بلاد الشام، وأقامت قوات عربية إسلامية في الجزيرة؛ حيث بقيت درع الدفاع عن بلاد المسلمين في الشام ومصر، حتى إذا ما بدأ الضعف يتسرب للدولة الإسلامية زمن البيوهيين كان أول عمل قام به مقفور ملك القسطنطينة أن أرسل حملة أعادت السيطرة البيزنطية على الجزيرة عام 354 هـ 965م، فأصبحت سندًا للصليبيين؛ فكانت المؤن تصل إلى ميناء السويدية، ومعظمها من قبرص.
واتخذت بحرية البيزنطيين منها قاعدة أثناء الحملات الصليبية، واحتلها ريتشارد قلب الأسد 587هـ 1191م، واتخذها قاعدة لحملته الصليبية على عكا، وباعها إلى إحدى الطوائف الدينية فرسان الداوية، الذين باعوها بدورهم للملك غاي سنة 588 هـ 1192 م، وأصبحت مملكة عام 595هـ 1198 م، وانتابتها الصراعات الدموية والاضطرابات الكثيرة، وأخذت القبضات القوية تتناوب السيطرة عليها، ولكنها على الإجمال بقيت قاعدة صليبية متقدمة لمهاجمة المسلمين، وهاجر إليها كثير من الصليبيين، وبقي المارون فيها إلى اليوم، فكانت قاعدة الملك لويس التاسع في حملته على مصر؛ حيث أقام بها سنة كاملة 646 هـ 1248م، قبل أن يتوجه إلى مصر.
وكان ملك قبرص الموجه للتعاون مع التتار المغول للقضاء على المسلمين، وعندما تم تحرير عكا سنة 690 هـ 1291م على يد الأشرف خليل بن قالوون، بقيت قبرص الحكومة النصرانية الوحيدة التي تابعت الحروب الصليبية في المشرق الإسلامي، فأصحبت مقرًّا أعمال القرصنة الصليبية ضد البلاد الإسلامية؛ ولذلك صمم الملك الأشرف على تحريرها، وأمر بعمارة مائة سفينة، وكان يهتف دائما قبرص، قبرص، قبرص غير أن تهديدات المغول عاقته عن تنفيذ أهدافه، كما هاجمها السلطان المملوكي برسباي بثلاث حملات؛ حيث أسر المسلمون ملكها في الحملة الثالثة عام 830 هـ 1426 م، الذي رُحِّل إلى القاهرة مع كثير من الأسرى، وأحضر لمقابلة السلطان؛ بحضور ممثلين عن الدولة العثمانية، وشريف مكة، وملك تونس وممثلي القبائل العربية، وأقيمت احتفالات رائعة بالقاهرة؛ ابتهاجًا بهذا النصر، فأصبحت قبرص تحت حماية مصر، وتدفع لها الجزية إلى أن احتلها البلادقة عام 895هـ 1489م.
ظهرت الدولة العثمانية وأخذ الأتراك العثمانيون على عاتقهم حماية العالم الإسلامي، وتولوا قيادة الجهاد ضد الصليبيين، ونقلوا الصراع من آسيا إلى أوروبا، واحتفظ قبرص بأهميتها كقاعدة متقدمة للصليبيين بالرغم من انتقال مسارح العمليات، وتحرك مراكز ثقل القتال، واستخدمها البنادقة قاعدة للعدوان على المسلمين، فتوجهت لها همة العثمانيين ففتحوها عام 979 هـ 1571م، ولاحقوا البنادقة؛ فأخرجوهم من كريت عام 1080هـ 1669 م. وبهذا يكون خروج البنادقة من قبرص نهاية الحروب الصليبية في المشرق حقيقة، فخلت ديار الإسلام من كل أثر صليبي، وعادت قبرص إلى دار الإسلام.
بقي العثمانيون في قبرص ثلاثة قرون تقريبًا، عملوا من بدايتها على توطيد دعائم الإسلام في الجزيرة، فقد أسكنها السلطان سليم الثاني حامية عثمانية منذ أن فتحها، وقام فيها الدعاة، فأصبح المسلمون ثلاثة أمثال النصارى عام 1205هـ، 1790م فأصبحت قبرص بلادًا إسلامية، وجزءًا من ديار الإسلام بأرضها وأهلها، وشهدت الأمن والرفاه في ظل وضعها الطبيعي، ضمن دار الإسلام، وتمتع النصارى بالأمن، وأعاد العثمانيون للكنيسة الأرثوذكسية نفوذها.
موقف إنجلترا من المسلمين في قبرص: احتلت إنجلترا قبرص، وأكثر سكانها من المسلمين، فعملت على إضعاف المسلمين عن طريق تشجيع هجرة النصارى اليونان إليها، وفي نفس الوقت الضغط على المسلمين الأتراك للهجرة من الجزيرة، ومنذ أن أنهت إنجلترا تبعية قبرص للدولة العثمانية والقبارصة النصارى من الأصل اليوناني، وغيرهم من النصارى الذين قدموا إليها من بلاد أخرى، يطالبون باستقلال الجزيرة وإلحاقها باليونان، خاصة وأن النصارى قد غدو أكثرية في الجزيرة في عهد السيطرة الإنجليزية، وأصبحت قبرص قاعدة حربية للحلفاء في الحرب العالمية الثانية، وتتطوع الآلاف من القبارصة في صفوف القوات البريطانية، كما جعلت بريطانيا منها قاعدة تجارية للنشاط اليهودي، ومقرًّا لعصابات الصهاينة.
هذا بالإضافة إلى قيام حزب شيوعي بها دخل في معترك السياسة من خلال المطالبة باستقلال الجزيرة، وظهور المطران مكاريوس على المسرح السياسي بعد انتخابه رئيسًا لأساقفة قبرص، ولقد لجأ اليونانيون إلى أعمال العنف ضد إنجلترا خاصة السلطة، والتي ترفض ضم الجزيرة الى اليونان، وضد المسلمين الأتراك الذين يخشون على أنفسهم من الوقوع تحت رحمة اليونانيين؛ مما اضطر إنجلترا إلى جلب إمدادات عسكرية إلى قبرص؛ للحفاظ على النظام والأمن، وقامت في تركيا مظاهرات ضد اليونان اتسمت بالعنف، فقاطعت اليونان المجلس العسكري لحلف البلقان المنعقد في أنقرة، وامتنعت أيضًا عن المناورة العسكرية لحلف شمال الأطلنطي، وقاطعت صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي الذي عُقد في إسطنبول، وذلك في سبيل لفت نظر العالم إليها، وكسب تأييد الغرب لها في ضم الجزيرة إلى أملاكها، ومع استمرار العنف، والعمليات الإرهابية بين المسلمين الأتراك، والنصارى اليونان في قبرص، واهتمامات الدول الغربية، بما فيهم الولايات المتحدة الأمريكية بأمر الجزيرة من منطلق النظر إلى مصالحهم الخاصة في المقام الأول، وحرصهم على تحقيق الغلبة للنصارى اليونان؛ اختلفت الآراء ذات العلاقة في موضوع جزيرة قبرص على النحو التالي:
أولًا: اليونان: ترى أكثرية سكان الجزيرة من اليونانيين الذين يرغبون في الانضمام الى اليونان، وأن تركيا تحول دون ذلك، وتشجع العناصر التركية في الجزيرة على أعمال العنف من أجل ضم قبرص إليها.
ثانيًا: تركيا ترى أن الأكثرية النصرانية في الجزيرة ليست من أصل قبرصي، وإنما هاجرت إلى قبرص لهدف سياسي بتشجيع من الإنجليزي، فليس للعناصر الدخيلة الحق في تقرير المصير، وإنما الحق فقط لعناصر السكان الأصليين، الذين كانوا في الجزيرة قبل دخول الإنجليز فيها عام 1296 هـ1875م، فقد كان عدد سكان قبرص بعد دخول الإنجليز باثني عشر عامًا أي: في عام 1308 هـ 80000 ألفًا، ستون من المسلمين، وعشرون من النصارى.
على حين أصبحوا عام 1380 هـ 104 ألف من المسلمين الأتراك 448 ألف من النصارى، فزيادة النصارى على هذا النحو لا يمكن أن تتم إلا عن طريق الهجرة؛ خصوصًا إذا ما وُضع في الاعتبار أن زيادة المواليد في المسلمين أكبر من زيادتها في النصارى، والمسلمون يخشون على أنفسهم من الانضمام إلى اليونان؛ لأن مصيرهم سيكون مصير 89 ألف مسلم كانوا في جزيرة كريت، تمَّ إجبار قسم منهم على الهجرة، وأبيد الباقون؛ لذا ترى تركيا رأي المسلمين في قبرص، بأن تبقى الجزيرة مستقلة، ويعيش المسلمون والنصارى معًا في أمان، وهؤلاء المسلمون يتمركزون في شمال الجزيرة.
ثالثًا: دول أوروبا الغربية، والولايات المتحدة الأمريكة، ترى أن المصلحة في استقلال الجزيرة، لكن في الوقت نفسه تساير اليونان بدافع صليبي؛ لتخفف من تطرفها ودعمها أيضًا كدولة نصرانية، تخشى من وقوع الحرب بين تركيا واليونان، وبعدهما عن الغرب، وعن حلف شمال الأطلنطي.
رابعًا: دول أوروبا الشرقية، وتعمل على إبقاء العنف بين المسلمين والنصارى؛ كي يمتدَّ النفوذ الشيوعي، ويبرز في هذا المناخ الملائم له.
خامسًا: الدول الإسلامية أكثر هذه الدول يسير في فلك المخططات العالمية، ومع الدول الغربية بالدرجة الأولى؛ لذا فهي مع اليونان النصارى، وليست مع المسلمين الأتراك، وتعلن أن الصراع ليس صراعًا إسلاميًّا نصرانيًّا، وإنما هو صراع بين تركيا واليونان، وتسلط الأضواء على موقف تركيا المعادي للإسلام من خلال عضويتها في حلف الأطلسلي، واعترافها بإسرائيل.