المصلحة المرسلة
. تعريف المصلحة لغة واصطلاحًا:
هناك شيء يسمى استصلاح، وشيء يسمى مصلحة:
أما الاستصلاح عند الأصوليين فهو: ترتيب الحكم الشرعي في واقعة لا نص فيها ولا إجماع، بناءً على مراعاة مصلحة مرسلة؛ لأن الوقائع التي وردت فيها نصوص أو إجماعات حكمها معروف بالنصِّ وبالإجماع؛ إذن الاستصلاح أو المصلحة المرسلة إنما يَرِدُ في كلِّ واقعة لا نصّ فيها ولا إجماع، فالأصوليون والفقهاء وأهل العلم إذا رتّبوا حكمًا شرعيًّا، في واقعة ليس فيها نصٌّ وليس فيها إجماع، بناءً على مراعاة مصلحةٍ مرسلةٍ، هذه يسمه العلماء استصلاحًا.
أما المصلحة فهي: جلب المنفعة أو دفع المضرة. فمتى ما سمعت كلمة “مصلحة” فاعلم أن المراد جلب المنفعة أو دفع المضرة، فتحصيل المنافع وجلبها هذا مصلحة، ودفع المضارّ ودرئها هذا أيضًا مصلحة.
وأهل اللغة يقولون: المصلحة كالمنفعة وزنًا ومعنًى، هذا من ناحية المعنى اللغوي والاشتقاق، فهي مصدر بمعنى الصلاح، كالمنفعة يعني النفع؛ إذن المصلحة في اللغة المنفعة.
والمصلحة في الاصطلاح عرّفها أهل العلم بجلب المنفعة أو دفع المضرة.
فما المنفعة؟ المنفعة هي اللذة أو ما كان وسيلة إليها، والمضرّة هي ضدُّ اللّذة وما كان وسيلة إليها، أو بعبارة أخرى: المنفعة هي اللذة تحصيلًا أو إبقاءً، فالمراد بالتحصيل جلب اللذة مباشرةً، والمراد بالإبقاء الحفاظ عليها بدفع المضرّة أو بدفع أسبابها.
إذن نستطيع أن نقول: كلّ ما كان فيه نفع، سواء كان بالجلب والتحصيل، وسواء كان بالدفع والاتقاء -فهو مصلحة.
إذن المصلحة لها شقان: شق تحصيلي وإيجادي، وشق دفعي. فجلبك للمصلحة وتحصيلك للمصلحة هذا شقٌّ إيجابيٌّ، ودفعك لما يعود على المصلحة والمنفعة بالضرَّرِ هذا أيضًا شقُّ دفعيٌّ.
حاصل القول: أن المصلحة في لغة العرب هي المنفعة، وأن المصلحة في اصطلاح العلماء والفقهاء والأصوليين هي جلب المنفعة أو دفع المضرة.
وقلنا قبل ذلك: إنَّ المصلحة التي قصدها الشارع الحكيم لعباده هي حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ العقل، وحفظ النسل، وحفظ المال، ودفع ما يفوِّت هذه الخمس أو يخل بها هو في الواقع أيضًا مصلحة.
2. أقسام المصلحة من حيث الاعتبار والإلغاء:
قسم أهل العلم المصالح من حيث اعتبار الشارع لها أو إلغائها إلى ثلاثة أقسام، وهذا هو الكلام الدقيق في أمر المصلحة المرسلة.
الشارع قسم المصلحة من حيث شهادة الشرع لها، بالاعتبار، أو الإلغاء، أو السكوت عنهما، فليست كل مصلحة معتبرةً، يعني أنت قد ترى مصلحة ما لنفسك، لكنها في الواقع ونفس الأمر ليست مصلحة؛ لأن الشارع لم يلتفت إليها ولم يعتبرْها.
فمثلًا الذي يريد أن يتعامل بالربا، هو يرى أنه يحقق لنفسه مصلحة، لكن هل هذه مصلحة؟ ليست مصلحة؛ لأن الله تعالى حرّم الربا.
المرأة التي تطالب بأن تتساوى مع أخيها في أمر الميراث، هي ترى في ذلك مصلحة، لكن هذه المساواة ليست مصلحة؛ لأنَّ الشارع ألغاها ولم يعتبرْها.
فالشاهد أن المصلحة قد يشهد لها الشرع بالاعتبار ويجعلها مطلوبة ومقصودة، وقد يشهد لها الشرع بالإلغاء، يقول: هذه ليست مصلحةً، وإن رآها المكلَّفون مصلحةً!!
وقد يسكت الشارع عن نوعٍ من المصالح فلا يعتبرها ولا يلغيها، هذه المرتبة الثالثة التي سكت الشارع عن اعتبارها أو عن إلغائها، هذه هي المصلحة المرسلة، ولنبين ذلك بالتفصيل:
قلنا: المصلحة من حيث شهادة الشرع لها بالاعتبار، أو الإلغاء، أو السكوت عن الاعتبار والإلغاء، ثلاثة أقسام:
القسم الأول: ما شَهِدَ الشرع باعتبارها، فهو يقررها ويشرعها ويقصدها، ويطالب المكلَّفين بتحصيلها، فهي مصالح، ومصالح بعيدة عن الأهواء، وبعيدة عن الرغبات، وعن الشهوات الشخصية.
القسم الثاني: ما شهد الشرع بإلغائها، يعني بعض الناس يرونها مصلحة والشارع يلغيها.
القسم الثالث: ما لم يشهد لها الشرع باعتبار ولا بإلغاء، بل سكت عنها، فسكوت الشارع عنها يجعلها مرسلة، يعني مطلقة؛ ومن هنا سماها العلماء “مصلحة مرسلة” يعني مطلقة، كلمة المرسل أو الإرسال في لغة العرب: الإطلاق، ومعنى إطلاق يعني الشارع لم يعتبرْها ولم يلغها، بل أطلقها، فالمجتهد يبحث في مثل هذه المصالح المرسلة، فإن رآها تحقق نفعًا يتفق وأصول الشريعة الإسلامية، له أن يعتبرها، ويلحقها بالمصلحة المعتبرة، ويبني عليها الأحكام، وإن رآها مصلحة لا تحقق نفعًا فله أن يلحقها بالمصالح الملغاة.
بيان الأقسام الثلاثة:
القسم الأول: طالما أن الشارع شهد واعتبر مصلحةً من المصالح فهي حُجّة؛ لأنه اعتبرها وأقرّها، ولا إشكال في صحة هذه المصلحة المعتبرة وفي بناء الحكم عليها؛ إذ المصلحة في هذا يرجع حاصلُها -كما يقول الغزالي- إلى القياس، يعني المصالح المعتبرة عند التحقيق تجدها راجعةً إلى القياس، والقياس هو اقتباس الحكم من معقول النص أو الإجماع..
ولنضرب للقسم الأول من أقسام المصلحة عددًا من الأمثلة:
حفظ العقل: مصلحة اعتبرها الشارع، ورتّب عليها تحريم الخمر؛ حفاظًا على هذا العقل؛ إذن الخمر محرّم، وعلة التحريم الإسكار، والحكمة من تحريم الخمر أنه يعود على العقل بالفساد والهلاك.
حفظ النفس: مصلحة اعتبرها الشارع، فرتّب عليها وجوب القِصاص في القتل بالمحدد.
العلماء يقولون: حفاظًا لمصلحة النفس يُلحق القتل بالمثقل على القتل بالمحدد… إلى غير ذلك من الأمثلة.
القسم الثاني: ما شهد الشرع بإلغائها، يعني مصلحة في نظر الناس، وفي نظر الخلق، وفي نظر المكلَّفِين، لكنّ الشارع شَهِدَ بإلغاء هذه المصلحة.
فمثل هذه المصلحة لا تكون حجة، بل إن هذا النوع من المصلحة مما اتُّفِقَ على إبطاله وامتناع التمسك به، فكل مصلحةٍ في نظرِ الخلق شهد الشرع بإلغائها فليس بِحُجّة، ولا يصحُّ بناء الأحكام عليها، ولا التمسك بها، وبالمثال يتضح المقال:
مثال المصلحة الملغاة، كما ذكر الغزالي، والآمدي، والشاطبي، من أن بعض العلماء قال لبعض الملوك لما جامع في نهار رمضان وهو صائم: “يجب عليك صوم شهرين متتابعين” وهذا الملك على ما يروى في السير هو عبد الرحمن بن الحَكَم، لمّا جامع جاريته في نهار رمضان أفتاه الفقيه يحيى بن يحيى الليثي المالكي بأن عليه صوم ستين يومًا كفارة؛ وعلّل ذلك بأن الكفارة قد وُضِعَت للزجر والرّدع، فلو أوجبنا على هذا الملك العتق كما ورد في بضع نصوص الأحاديث، لو قلنا له: اعتق رقبة لاستطاع أن يعتق رقبة وبهذا لا ينزجر؛ فأوجب عليه هذا الفقيه الصيام زجرًا له، وظنًّا منه أن في ذلك مصلحة.
لكن هل هذه مصلحة؟ قال أهل العلم: فهذه المصلحة ملغاة؛ لأنها معارضة للنصِّ الشرعي، وهو حديث الأعرابي: ((جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم يلطم وجهه، وينتف شعره (كما في بعض الروايات) قال: هلكتُ. قال: ما أهلكك؟ قال: واقعتُ أهلي في نهار رمضان. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أعتق رقبةً، فقال: لا أستطيع. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: عليك صيام شهرين متتابعين. قال: لا أستطيع. قال: أطعم ستِّين مسكينًا…)) إلى آخر الحديث.
فهنا قد قدّم الشارع العتق لمصلحة العباد، ولكن ذلك الفقيه قد ترك ذلك، وأوجب على ذلك الملك صيام شهرين؛ لمصلحة قد توهمها، فهذه المصلحة التي توهمها ملغاة؛ لأنها معارضة للنص الشرعي.
القسم الثالث: المصلحة التي لم يشهد لها الشارع بالاعتبار ولا بالإلغاء، وطالما أن الشارع لم يشهد لا بالاعتبار ولا بالإلغاء فالمصلحة مرسلة، يعني: مطلقة، واختلف أهل العلم في هذا النوع من المصالح وفي حجيته: هل هو حجة أم ليس بحجة؟ وهل يصحُّ بناء الأحكام عليه أم لا؟
من أمثلة المصلحة المرسلة:
حفظ القرآن الكريم بجمعه في المصحف:
فلا شك أن هذه مصلحة، لكنه لم يرد نصٌّ معينٌ يدل على اعتبارها أو إلغائها، فجمع القرآن قضية ومسألة لم يشهدِ الشرعُ باعتبارها ولا بإلغائها، فعلى المجتهد أن يُعْمِل فكره وأن ينظر في المسألة: هل لو جمعنا القرآن وجعلناه في مصحفٍ واحدٍ بين دَفَّتي المصحف هل هذا يحقق منفعةً حقيقةً أو لا يحقق؟ فإذا بحثوا، ونظروا، وتدبروا، وتأملوا، وتوصلوا إلى أن جمع القرآن يحقق مصلحة، وهي حفظ القرآن من الضياع، ولا شك أن حفظ القرآن مقصود للشارع؛ لأن فيه حفاظًا على الشريعة، إذا وصلوا لذلك قالوا: هذه مصلحةٌ معتبرَةٌ وبالتالي تكون حجةً ودليلًا، فحفظ القرآن بجمعه في مصحف لم يرد نصٌّ معينٌ يدل على اعتباره أو إلغائه، وهذه المصلحة تلائم تصرفات الشرع؛ لأن حفظَ القرآن راجعٌ إلى حفظ الشريعة، والأمر بحفظ الشريعة معلومٌ ومقررٌ عند جميع أهل العلم لا ينازع في ذلك أحد؛ ولهذا تستطيع أن تقول: إن الصحابة رضي الله عنهم لما جمعوا القرآن في مصحفٍ واحدٍ كان مستندهم ودليلهم هو المصلحة المرسلة.
تضمين الصناع:
هل نجعل الصانع يضمن ما تحته من الصنعة مع أن يده على الصنعة يد أمانة وليست يد ضمان؟ قالوا: لا شك أنَّ هذه مصلحة، لكنه لم يرد نصٌّ معينٌ يدل على اعتبارها أو إلغائها، لكن هذه المصلحة تلائم تصرفات الشرع؛ لأنَّ الأمر بحفظ الأموال في الشريعة معلومٌ ومقرّرٌ، بل حفظ المال مقصود من مقاصد الشريعة الضرورية؛ ولهذا لما ضمّنوا الصناع قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: “لا يصلح الناس إلا ذلك”.
حد شارب الخمر:
شارب الخمر حُدّ بأربعين جلدة في عهد أبي بكر رضي الله عنه وحُدّ بثمانين في عهد عمر رضي الله عنه ولم يرد في حدِّ شارب الخمر نصٌّ، ولم يتقدم فيه إجماعٌ؛ فإنه لم يكن في شرب الخمر في عهد النبي صلى الله عليه وسلم حدٌّ مقدرٌ، وإنما اكتفي فيه بالتعزير زجرًا عنه، وهذا الحكم مبنيٌّ على مصلحة تناسب تصرفات الشرع، فإن ذلك راجعٌ إلى حفظ العقل، والأمر بحفظ العقل معلومٌ، فلما لم يَكْفِ التعزير في شرب الخمر زجرًا عنه، وحفظًا للعقل، بدليل تتابع بعض المسلمين في شربه واستحقارهم التعزير، الذي يلحقهم بشربه زجرًا عنه؛ نظرًا لذلك جمع عمر رضي الله عنه الصحابة، واستشارهم في حَدِّ شارب الخمر، واتفقوا بعد ذلك وأجمعوا على أن شارب الخمر يُحَدُّ بثمانين جلدة، وقال علي رضي الله عنه قولته المحفوظة لكم جميعًا: “أرى أنه إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى؛ فحده حد الفرية -وحد الفرية ثمانين، أعني حد القذف”.
إذن الآن عقوبة شارب الخمر التي صارت ثمانين جلدة كان مبناها على المصلحة المرسلة، والمصلحة المرسلة اعتمادها في هذا المثال هو على حفظ العقل، وحفظ العقل ملائمٌ لنصوص الشريعة، بل حفظ العقل مقصود من مقاصد الشريعة.
جواز المعاقبة –كما هو في كتب الفقه– بأخذ المال على بعض الجنايات:
بعض الجنايات التي يرتكبها الإنسان وليست لها حدٌّ مقدّرٌ في الشريعة، قرر الفقهاء على أن أخذ المال يجوز أن يكون عقوبةً في هذه الجنايات، وهي المعروفة في زماننا هذا بالغرامات، إنسانٌ ارتكب جنايةً معينةً وليس فيها حدٌّ شرعيٌّ، فمن حق ولي الأمر أو من حقِّ أهل الحل والعقد، أن يعاقبوا هذا الذي ارتكب الجناية بتغريمه جزءًا من المال، وهذا في الواقع عقوبةٌ مبناها المصلحةُ المرسلةُ.
إقامة الأمثل ممن ليس بمجتهد:
إذا فرض خُلُوِّ الزمان عن مجتهد يظهر بين الناس؛ هب أن المجتمع الذي نعيش فيه ليس فيه مجتهد، فلا يوجد أحد قد بلغ رتبة الاجتهاد، فمن الذي نوليه سلطة بيان الأحكام الشرعية؟
نأخذ الأمثل فالأمثل فالأمثل، هذا من باب المصلحة المرسلة.
تجويز التعذيب بالتهم –كما يقول بعض الفقهاء:
إنسان ارتكب شيئًا ما، أو متّهم في شيءٍ ما، ولم تثبت بعد الجريمة عليه: هل يجوز تعذيبه ليعترف بجريمته؟ جوّز بعضُ أهل الفقه ذلك من باب المصالح المرسلة.
إلزام الإمام المطاع العادل الأغنياء عند الحاجة ما يراه كافيًا لسدِّها إلى أن يظهر مال بيت المال:
فلولي الأمر أن يفرض على الأغنياء جزءًا من المال إذا خلا بيت المال من أموال تقوم على مصالح المسلمين، فولي الأمر يقول: هؤلاء الأغنياء يلزمهم دفع مبلغ كذا وكذا وكذا في السنة أو في الشهر أو حسبما يتفق ومصلحة الناس.
هذا الذي يأخذ في زماننا هذا صورة الضرائب، يعني ولي الأمر يفرض على بعض الناس جزءًا من المال؛ لتحقيق مصالح الدولة أو الأمة أو المجتمع؛ نظرًا لخلوّ الخزانة أو وزارة المالية من المال، هذا من باب المصلحة المرسلة.
ما جوّزه العلماء من قتل الجماعة بالواحد:
فهذا مبنيٌّ أيضًا على المصالح المرسلة، يعني: لو اشترك جماعةٌ في قتل شخصٍ واحدٍ تقتل الجماعة به.
جواز أن يختار الإمام خليفةً له:
يعني رئيس الدولة، أو الملك، أو السلطان، أو الأمير، له أن يختار نائبًا له؛ بحيث إذا مات قام النائب مقامه؛ حتى تسير مصالح الشعب ومصالح الناس.
فهذا من باب المصالح المرسلة، كما فعل أبو بكر رضي الله عنه لما ولّى عمر رضي الله عنه أمر الخلافة.
ألا يختار الإمام أو الخليفة نائبًا:
يعني مرة يختار ومرة لا يختار. إذن ما الضابط؟ الضابط هو المصلحة العامة، فأبو بكر اختار عمر، وعمر لم يختر، فهذا كله مبنيٌّ على المصالح المرسلة.
- تدوين الدواوين، وصك النقود، وتوظيف الخراج.
- أن عثمان رضي الله عنه جَدّدَ أذانًا ثانيًا لصلاة الجمعة، وذلك لما كَثُرَ المسلمون.
- تدوين العلم من السنن وغيرها مما يتوقف عليها حفظ الدين.
- وضع وسائل الإعلام الموجودة في الطرقات، والموجودة في الشوارع، لكن وسائل الإعلام الهادفة التي تدل على خيرٍ مطلوبٍ للشارع الحكيم.
3. حكم الاستصلاح:
يعني: ترتيب الحكم في واقعة لا نص فيها ولا إجماع على مصلحة، هل هذا الأمر جائز وسائغ ومشروع؟
اتفقت كلمة العلماء على أنه لا يجوز الاستصلاح في أحكام العبادات والمقدرات، يعني الأمور التعبدية لا تدخل فيها المصلحة المرسلة، والأمور المقدرة لا تدخل فيها المصالح المرسلة، يعني: ليس لي أن أزيد ركعة في صلاة معينة أو أنقص ركعة في صلاة معينة؛ لأن هذا يتناسب مع مصالح الناس!! الأمور التعبدية أو أمور العبادات توقيفية، يعني: لا يسع الإنسان إلا أن يقف على ما أمر الشارع فقط.
وكذلك الأمور المقدرة من ناحية الشارع؛ كالحدود والكفارات وفروض الإرث وشهور العدة بعد الموت أو الطلاق، كل هذه الأمور لا يدخل فيها الاستصلاح.
الله تعالى أوجب حد قطع يد السارق إذا سرق ربع دينار فصاعدًا، هل من حق المجتهد، أو الفقيه، أو ولي الأمر، أو أي إنسان على ظهر الأرض أن يتدخل لإسقاط الحد بدعوى المصلحة المرسلة، فهم يقولون الآن مثلًا: إن الحدود في الشريعة الإسلامية تشوه الناس، السارق إذا قطعت يده يصير مشوهًا، فنحن لا نقطع يد السارق رعاية لمصلحة هذا السارق.
نقول: هذه من الأمور المحددة المقدرة التي لم يجعل الله لأحد أيًّا كان أن يتدخل فيها.
الله تعالى أوجب حدًّا في جريمة الزنا؛ إما الجلد للزاني البكر، وإما الرجم حتى الموت للزاني المحصن، فهل لنا أن نتدخل من باب المصالح ونوقف بعد هذه الحدود؟ أبدًا.
إذن أحكام العبادات وكذا المقدرات كالحدود، حد السرقة، وحد الزنا، وحد الشرب، وحد الحرابة، وحد الردة، وحد القذف، كل هذه حدود، الاستصلاح لا يدخلها.
الكفارات، الله تعالى أوجب كفارة مثلًا، إما مرتبة، أو مخيرة، فليس لي أن أستبدل هذه الكفارات، أو أن أستعيض عنها بشيء، ولذلك لما أفتى المفتي المالكي الملك الذي جامع جاريته في رمضان بأن يصوم ستين يومًا ولا يعتق رقبة ظنًّا منه أن المصلحة في زجره هي في أن يصوم؛ أنكر عليه أهل العلم جميعًا؛ لأنَّ هذه كفارة، فلا يسعنا إلا الوقوف مع ما ورد فيها من الشرع.
إذن نستطيع أن نقرر: أنَّ الاستصلاح يدخل في أحكام العبادات، والمقدرات؛ كالحدود، والكفارات، وفروض الإرث، وشهور العدة، والطلاق، وكل ما شرع محددًا، واستأثر الشارع الحكيم بعلم المصلحة فيه، لا يجوز الاستصلاح فيه.
أما أحكام العبادات؛ فلأنها تعبدية وليس للعقل سبيل إلى درك المصلحة الجزئية لكل منها؛ فالعقل لا سبيل له أبدًا إلى درك المصلحة في أن صلاة الصبح ركعتان، وصلاة الظهر أربع، وصلاة العصر أربع، وصلاة المغرب ثلاث، وصلاة العشاء أربع.
يجب أن نعلم أنَّ من قال بالاستصلاح، أو بناء الأحكام على المصالح المرسلة لم يقل به مطلقًا هكذا، بل وضعوا لذلك ضوابط وشروط، فنحن إنَّما نعمل بالمصلحة المرسلة ونبني الحكم عليها بشرط: أن يثبت لأن الناس تخلط الآن بين بعض المصالح، وبعض البدع، أشياء ما أنزل الله بها من سلطان، وأشياء لا تتلاءم ومقصود الشارع، ويقولون: هي من باب المصالح.
فالمصالح المرسلة أو الاستصلاح لما رتب أهل العلم الأحكام عليها جعلوا لها شروطًا وضوابط:
الشرط الأول: أن يثبت بالبحث وإنعام النظر والاستقراء أنها مصلحة حقيقية لا وهمية:
الآن علت أصوات بعض النساء تطالب بأن تتساوى مع الرجال في الميراث، فهل هذه بالبحث والاستقراء والتأمل مصلحة حقيقية، أم مصلحة وهمية.
هي مصلحة وهمية، بل مصلحة ملغاة؛ لأنها تتضارب صراحة مع نصوص القرآن والسنة.
الشرط الثاني: أن تكون هذه المصلحة الحقيقية مصلحة عامة:
بمعنى: تخدم كل الناس، فلا تخدم طائفة معينة ولا تخدم شخصًا معينًا، أي: أن بناء الحكم عليها يجلب نفعًا لأكثر الناس أو السواد الأعظم من الناس أو يدفع ضررًا عن أكثرهم، أما مصلحة لطائفة معينة أو لشريحة معينة من شرائح المجتمع أو هيئة معينة من هيئات المجتمع، فهذه في الواقع ليست مصلحة؛ لأنَّها مصلحة خاصة وليست مصلحة عامة، وشرط اعتبار المصلحة ورعاية المصلحة أن تكون حقيقية عامة، وأما المصلحة التي هي نفع لأمير، أو عظيم أو رئيس، أو كبير أو أي فرد بصرف النظر عن أكثر الناس، فلا يصح بناء الحكم عليها؛ لأنَّها إذا كانت عامة كانت مقصودة للشارع، ولو كان فيها مضرة لفرد أو أفراد، هناك مصلحة عند النظر إليها وعند البحث فيها نجدها تحقق نفع للسواد الأعظم من الناس، وفي المقابل قد تلحق الضرر ببعض الناس، فالعلماء يقولون: تراعى المصلحة الأعم.
ولهذا أفتى أهل الفقه بجواز الحجر على الطبيب الجاهل، الذي لا يحسن أمر الطب، هذه في الواقع مضرة تلحق به، لكن في المقابل هي مصلحة تخدم أكثر الناس أو معظم الناس؛ لأننا لو تركناه هكذا يلحق الضرر بالناس فنحن نرتكب أخف الضررين، أو نراعي أعظم المصلحتين؛ فنحجر على الطبيب الجاهل، وكذا قالوا: يحجر على المفتي الماجن، الذي لا يلتزم بضوابط الشرع، فالحجر عليه مضرة ومفسدة، لكن في مقابل ذلك مصلحة تعود على جماهير الناس.
إذن تستطيع أن تقرر أن المصلحة المرسلة أو الاستصلاح لا يدخل في الأمور التعبدية، ولا المقدرات، ولا الحدود، وإنما يدخل في المعاملات، والعادات، والسياسات الشرعية، وأن الذي رتب الأحكام على المصالح المرسلة لم يرتبها هكذا، وإنما وضع لها ضوابط وشروطا، فقال: من شروط المصلحة أن تكون مصلحة حقيقية، يعني: غير متوهمة، وأن تكون مصلحة عامة، وأن تكون مصلحة قطعية، يعني: نقطع بأنها مصلحة، أما المصالح المتوهمة، والمصالح الخاصة، فهذه لا ينبغي أن نرتب عليها الحكم.
إذا تبين ذلك فإن العلماء اختلفوا في حكم الاستصلاح، أعني: في بناء الأحكام على المصلحة المرسلة:
هل لنا أن نضع قواعد للمرور؟ نضع قواعد للمرور.
هل لنا أن نضع أو ننشئ سجون لمعاقبة الخارجين عن القانون؟ لنا أن ننشئ ذلك.
هل لنا أن نقيد المواليد والوفيات؟ لنا ذلك.
هل لنا أن نمهد الطرق ونرصف الطرق؟ لنا ذلك.
هل لنا أن نعد جهاز حكومي يشمل عدة وزارات؟ لنا ذلك.
4. المذاهب في حجية المصلحة المرسلة:
فبناء الأحكام على المصلحة المرسلة الحقيقية العامة؛ اختلف أهل العلم فيها على المذاهب الآتية:
المذهب الأول: مذهب من منع، يعني: منع بناء الأحكام على المصالح المرسلة، قال: ما ينبغي أن نبني الأحكام على مصالح مرسلة، إذن أصحاب هذا المذهب ماذا يقولون في الأمور المستجدة والمستحدثة ومصالح الناس التي ولدها العصر وولدها العرف، وتغيرت بتغير الناس؟ قالوا: هذه قد تدخل تحت عمومات النصوص، أو نحو ذلك، أما بناء الأحكام على المصالح، فهذا ممنوع.
وإلى هذا المذهب ذهب القاضي أبو بكر الباقلاني من الشافعية، وذهب إليه أيضًا أكثر الشافعية، ومتأخرو الحنابلة، وهو المشهور في بعض الكتب عن الحنفية.
المذهب الثاني: القول ببناء الأحكام على المصلحة المرسلة بالتحديد الذي حددناه مع مراعاة الشرطين السابقين؛ أن تكون المصلحة حقيقية لا وهمية، وأن تكون المصلحة عامة وليست خاصة، فإذا كانت المصلحة حقيقية وعامة؛ فأصحاب المذهب الثاني يرون بناء الأحكام عليها.
والحق أن هذا هو المذهب الراجح في الفقه الإسلامي، وإليه ذهب الإمام أحمد والإمام مالك والإمام الشافعي والإمام أبو حنيفة رحمهم الله.
المذهب الثالث: وهو للغزالي -رحمه الله- في كتابه (المستصفى) وحاصله، قلنا: إن مقصود الشارع: مقاصد ضرورية، ومقاصد حاجية، ومقاصد تحسينية، أعلى هذه المقاصد هي الضرورية، ثم الحاجية، ثم التحسينية، فأبو حامد الغزالي -رحمه الله- قال: المصلحة لا تخلو إما أن تكون مصلحة ضرورية، أو حاجية، أو تحسينية، فإن كانت المصلحة واقعة في رتبة التحسينيات؛ فإن الغزالي لا يبني الحكم عليها ما لم يدل عليها دليل معين، فتكون المصلحة بهذا من القسم الأول من أقسام المصلحة، وهو ما شهد الشرع باعتبارها، وإن كانت المصلحة واقعة في رتبة الحاجيات، فقد اختلف قوله -رحمه الله- فقال في كتابه (شفاء الغليل): فإنه يبنى الحكم عليها، وقال في كتابه (المستصفى) وهو آخر قوليه: إنه لا يبنى الحكم عليها ما لم يدل عليها دليل معين، كما لو وقعت في رتبة التحسينيات؛ فتكون المصلحة بهذا من القسم الأول من أقسام المصلحة، وهو ما شهد الشرع باعتبارها.
وجاء ابن قدامة -رحمه الله- فأكد ما قاله الغزالي في (المستصفى).
أدلة القائلين بحجية المصلحة المرسلة:
الدليل الأول: أن الاستصلاح -أي: بناء الحكم على المصلحة المرسلة- فيه تحقيق لمصالح الناس، والأحكام الشرعية إنما شرعت لتحقيق مصالح الناس، وقد بينا ذلك عند كلامنا على مقصود الشارع في تشريع الأحكام وقلنا: إن الشارع الحكيم شرع الأحكام؛ لتحقيق المصالح للناس، ودرء المفاسد عنهم، فالعمل بالمصلحة المرسلة، أو بناء الحكم عليها هو في الحقيقة تحقيق لمصالح الناس التي هي مقصود للشارع الحكيم، وعلى ذلك فتكون الأحكام التي بنيت على المصلحة المرسلة أحكام شرعية، حيث فيها تحقيق لمصالح الناس، وإذا كانت شرعية، فالاستصلاح يكون حجة.
الدليل الثاني: أن المصلحة المرسلة داخلة ضمن مقاصد الشريعة في الخلق بتحقيق المصالح ودرء المفاسد، حيث كونها مصلحة من المصالح، وقد دل على اعتبارها عمومات الأدلة من الكتاب والسنة، كما دل على اعتبارها قرائن الأحوال وتفاريق الأمارات. قالوا: وإذا كان الأمر كذلك؛ فالاستصلاح حجة.
الدليل الثالث: إن الشريعة الإسلامية شريعة عامة لكل الناس، وهي شريعة مرنة، متطورة وهي خاتمة الشرائع كلها، وهي مستوعبة لمصالح البشر على اختلاف وقائعهم، وأمكنتهم، وأزمانهم، وأحوالهم، ولن يتأتى وصفها بذلك إلا إذا قلنا: بأن الاستصلاح حجة، فما لم نقل بحجية المصالح المرسلة؛ يكون ذلك اتهاما للشريعة الإسلامية، وفي هذا المعنى يقول الشيخ عبد الوهاب خلاف -رحمه الله: إن الوقائع تحدث والحوادث تتجدد والبيئات تتغير، والضرورات والحاجات تطرأ، وقد تطرأ للأمة اللاحقة طوارئ لم تطرأ للأمم السابقة، أو للأمة السابقة، وقد تستوجب البيئة مراعاة مصالح ما كانت تستوجبها البيئة من قبل، وقد يؤدي تغير أخلاق الناس، وذممهم، وأحوالهم إلى أن يصير مفسدة ما كان مصلحة، فلو لم يفتح للمجتهدين باب التشريع بالاستصلاح؛ ضاقت الشريعة الإسلامية عن مصالح العباد، وقصرت عن حاجاتهم، ولم تصلح لمسايرة مختلف الأزمنة والأمكنة والبيئات والأحوال؛ مع أنها الشريعة العامة لكافة الناس، وخاتمة الشرائع السماوية كلها.
إذن القول: بأن الاستصلاح، أو المصلحة المرسلة حجة يخدم عالمية الشريعة الإسلامية، ومرونة وتطور الشريعة الإسلامية، ومسايرة ومواكبة الشريعة الإسلامية لكل ما يصدر من المكلفين؛ سواء كان قولًا أو فعلًا أو غير ذلك، فلو لم نقل بالاستصلاح لضيقنا الشريعة، ولما استطاعت الشريعة أن تساير حوادث الناس المتجددة، ومعلوم أن نصوص التشريع من القرآن والسنة والإجماع نصوص محصورة ومحدودة، وأن وقائع الناس غير محصورة وغير محدودة، فلو لم نقل بالاجتهاد والمصلحة المرسلة؛ لأدى ذلك إلى خلو وقائع كثيرة من وقائع الناس عن حكم لها في الشريعة الإسلامية، مع أن المقرر عند جميع العلماء أن في الشريعة الإسلامية حكمًا لكل واقعة تستجد، وتستحدث إلى قيام الساعة.
إذن الاستصلاح والمصلحة المرسلة من الأدلة التي تساعد وتساهم في اكتمال بناء الفقه الإسلامي.
الدليل الرابع: المصالح التي بنيت عليها أحكام المعاملات ونحوها مصالح معقولة، يعني: العقل قد يدرك هذه المصلحة، العقل يدرك المصلحة التي من أجلها شرع الله المعاملات والعقود ونحو ذلك، وقد شرع لنا ما يدرك العقل نفعه وحرّم علينا ما يدرك العقل ضرره، فالحادثة التي لا حكم من الشارع فيها؛ يكون حكم المجتهد فيها بناء على ما يدركه عقله فيها من نفع أو ضرر مبنيًّا على أساس معتبر من الشارع.
الدليل الخامس: دليل الوقوع، وهذا الدليل في الواقع من أقوى الأدلة على حجية المصلحة المرسلة بشروطها، يعني: ليست كل مصلحة، بل مصلحة لها ضوابط ولها شروط، مصلحة حقيقية ليست مصلحة وهمية، مصلحة عامة ليست مصلحة خاصة، مصلحة تخدم ضرورة أو حاجة أو تحسين، فأصحاب المذهب الذين يرون حجية المصلحة المرسلة استدلوا بالوقوع الفعلي، وليس أدلّ على الجواز من الوقوع، هل يجوز العمل بالمصلحة المرسلة؟ تقول: يجوز، أقول لك: هل عندك من دليل؟ تقول: نعم، وقوع العمل بالمصلحة المرسلة فعلًا، فقد وقع من الصحابة أنهم عملوا بالمصلحة المرسلة.
فالصحابة رضي الله عنهم ومنهم الخلفاء الراشدون- عملوا بالاستصلاح فيما طرأ لهم من حوادث.
ومن بناء الأحكام على المصلحة المرسلة في عصر الصحابة رضي الله عنهم جمع أبي بكر الصديق رضي الله عنه القرآن في مجموعة واحدة، هذه مصلحة مرسلة، لم يشهد نص بالاعتبار، لم نقف على نص من القرآن ولا من السنة يقول: اجمعوا القرآن في مجموعة واحدة، وما وجدنا نصًّا بالقرآن أو السنة قال: لا تجمعوا القرآن في مجموعة واحدة.
بقي أن نقول هذه المصلحة -جمع القرآن- بعد أن قررنا أنها مصلحة، تلحق بالمعتبرة؛ لأن جمع القرآن في مجموعة واحدة حفاظًا عليه مصلحة تشهد لها عمومات النصوص والأدلة، ولهذا جمع أبو بكر الصديق رضي الله عنه القرآن في مجموعة واحدة، ومبناه في ذلك أو مستنده في ذلك هو المصلحة المرسلة.
ومن بناء الأحكام على المصالح في عهد الصحابة أيضًا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أوقع الطلاق الثلاث بكلمة واحدة، يعني: طلقة واحدة- فلو قال: هي طالق بالثلاث، أو طالق طالق طالق، عمر بن الخطاب -رعاية للمصلحة المرسلة، واستنادًا إلى روح التشريع الإسلامي- جعل الطلاق الثلاث طلقة واحدة.
فهذه وقائع وحوادث تدل على أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يعملون بالمصالح المرسلة ويبنون الأحكام عليها، إلى غير ذلك من الوقائع التي كان الحكم فيها مبنيًّا على مطلق المصلحة المرسلة.
وهذه كانت أدلة من قال: إن المصلحة المرسلة حجة مطلقًا، سواء وردت في الضروريات، أو الحاجيات، أو التحسينيات.
أدلة القائلين بمنع حجية المصلحة المرسلة:
استدل القائلون بأنَّ المصلحة المرسلة ليست حجة بعدد من الأدلة:
الدليل الأول: إنَّ الله تعالى لم يترك الخلق سدى، من غير أن يشرع لهم كل ما يكفل تحقيق مصالحهم، بل شرع لهم ذلك، وذلك بالأحكام التي نص عليها في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وبالأحكام التي هدى إليها أهل الذكر والعلم؛ فلم يختلفوا فيها، وهي الأحكام التي سندها الإجماع، وأرشدهم إلى أنهم إن تنازعوا في شيء مما ليس فيه حكم لله ولا لرسوله، ولم يجمع أهل العلم على حكم فيه؛ أرشدهم أن يردوه إلى حكم الله ورسوله.
فقال سبحانه وتعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللّهِ} [الشورى: 10] وقال أيضًا -كما في سورة النساء: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرّسُولِ} [النساء: 59] والرد إلى حكم الله ورسوله يكون بالقياس، أو بأي طريق من طرق رده إلى حكم الله ورسوله، وبناء على هذا فقد كفل لخلقه تحقيق مصالحهم، وأكمل لهم دينهم وأتم عليهم نعمته، وامتنّ عليهم بذلك فقال سبحانه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلاَمَ دِيناً} [المائدة: 10].
إذن بعد هذا يكون القول بالاستصلاح في الواقع، قول بأنَّ الله -تبارك وتعالى- لم يكفل لخلقه الأحكام، ولم يرشدهم إلى معرفة الأحكام، وهذا ينافي ما تقدم من إكمال الدين وإتمام النعمة، والله تعالى لم يترك الإنسان سدى؛ حيث يقول: {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة: 36] فالقول باستناد الأحكام إلى المصالح المرسلة زائد لا حاجة إليه وغير مشروع الرد إليه، وما كان كذلك فهو ممنوع، وبهذا يتبين أن الاستصلاح أو المصلحة المرسلة ليست بحجة.
الرد على هذا الاستدلال: إن هذا الكلام الذي تذكرونه، إنما يتأتى لو كانت المصلحة التي يستند الحكم إليها لا شاهد لها من الشرع ولو جملة، يعني: نحن إنما قلنا بالمصالح إذا شهد لها الشرع، أما المصالح بالرأي والهوى والمزاج فلم نقل بها، وإنما قلنا بكل مصلحة شهد لها الشرع ولو جملة، والأمر ليس كذلك، يعني: ردًّا على الدليل الأول لمن قال: المصلحة ليست حجة، فإن المصلحة وإن كانت مصلحة مرسلة عن دليل معين من الشرع على اعتبارها، إلا أنَّها معتبرة من الشرع جملة لا تفصيلًا، وذلك بأدلة كثيرة لا حصر لها من الكتاب والسنة وقرائن الأحوال وتفاريق الأمارات.
إذن الشاهد أنَّ من قال بالمصلحة المرسلة لم يقل بالمصلحة مطلقًا، وإنَّما قال بالمصلحة التي شهد لها الشرع ولو في الجملة، وبهذا يكون إسناد الأحكام إلى المصالح المرسلة طريقًا من طرق الرد المشروعة ومحتاجًا إليه في التشريع.
الدليل الثاني: المصالح الحقيقية للناس قد رعاها واعتبرها الشارع؛ إما بتشريع أحكام لها، وإما بالدلالة على اعتبارها لبناء التشريع عليها، فما لم يشرع الشارع له أحكامًا من مصالح الخلق ولم يدل على اعتباره بوجه من وجوه الاعتبار -لا يصحّ بناء تشريع عليه؛ لأنَّ الحكم إنَّما يكون شرعيًّا إذا شرعه الشارع، أو بنيَ على ما اعتبره الشارع أسًاسًا لبناء الحكم عليه، والاستصلاح أو المصلحة المرسلة هو حكم مبني على مصلحة لم يعتبرها الشارع، فهو ليس بحكم شرعي فلا يكون حجة.
الرد على هذا الاستدلال: واضح أن هذا الدليل كالدليل السابق، ولهذا يمكن الجواب عليه بالجواب السابق أيضًا؛ فنقول: مصالح الناس رعاها الشارع واعتبرها، وهناك مصالح سكت عنها فلم يعتبرها ولم يلغها وإنَّما شهدت لها النصوص العامة، أو شهدت لها روح الشريعة؛ فما المانع من بناء الأحكام على هذا المصالح؟!
الدليل الثالث: المصالح منقسمة إلى ما دلّ الدليل من الشارع على اعتبارها، وإلى ما دلّ الدليل منه على إلغائها، والاستصلاح كما هو معلوم بناء الحكم على المصلحة المرسلة عن دليل اعتبار ودليل إلغاء، والمصلحة المرسلة لا ندري أنلحقها بالمصلحة المعتبرة أم بالملغاة؟ أنتم يا من تقولون بالحجية تلحقونها بالمصلحة المعتبرة، ولنا أن نلحقها بالمصلحة الملغاة، فإلحاق المصلحة المرسلة بأحد القسمين ليس بأولى من الآخر، وعلى هذا فيكون الاحتجاج بالمصلحة غير مسلم.
قالوا: هذا فضلًا عن أنَّ العمل بالمصلحة المرسلة فيه فتح لباب الحكم بالهوى وبالشهوة وبالغرض، وبهذا يتبين أن إلحاق المصلحة المرسلة بالمصالح المعتبرة ترجيح بدون مرجح، وأن تشريع الأحكام بناء على المصلحة المرسلة تشريع بالهوى والتشهّي، وهذا دليل على أن الاستصلاح ليس بحجة.
الرد على هذا الاستدلال: إن هذه المصلحة وإن كانت مرسلة عن دليل معين من الشارع على اعتبارها -إلا أنَّها معتبرة منه على سبيل الجملة، وهذا كلام نذكره مرارًا وتكرارًا، فالمصلحة -وإن لم يرد فيها بعينها نصّ- لكنها معتبرة من قبل الشارع على جهة الجملة، فالشريعة إنما جاءت لتحقيق المصالح ودرء المفاسد، فالمصالح المرسلة هي داخلة في نصوص الشريعة العامة وقواعد الشريعة الكلية.
الدليل الرابع: أن بناء الحكم على مجرد المصلحة المرسلة، دون علم بأن الشرع أثبت هذا الحكم حفظًا لهذه المصلحة -وضع للشرع بالرأي وحكم بالعقل المجرد، وما كان كذلك فهو ممنوع، فالاستصلاح إذن ليس بحجة حيث هو بناء للحكم على مجرد المصلحة.
حاصل هذا الكلام أنَّ الحكم بمجرد المصلحة المرسلة وضع للشرع بالرأي وحكم بالعقل المجرد.
الرد على هذا الاستدلال: إن بناء الحكم على مجرد المصلحة دون علم بأن الشرع أثبت هذا الحكم؛ حفظًا لهذه المصلحة -هذا في الواقع كلام ممنوع، فإن الشارع إنما رتب أو جوّز لنا ترتيب الأحكام على المصالح إذا كانت مصالح حقيقية تحقق نفعًا لضرورة من الضروريات؛ كحفظ الدين، أو النفس، أو العقل، أو النسل، أو المال.
إذن الاستصلاح يكون طريقًا من الطرق الشرعية التي أمر الله بالرد إليها عند التنازع، وبالمناسبة ما نقله ابن قدامة عن الإمام مالك أنه قال بجواز قتل الثلث لاستصلاح الثلثين، هذا الكلام في الواقع لم يوجد ولم يصحّ نسبته إلى الإمام مالك، وقد دافع المالكية وخاصة القرافي -رحمه الله- عن نسبة هذا الكلام إلى الإمام مالك -رحمه الله.
هذا حاصل أدلة المذهب الثاني في أن الاستصلاح أو بناء الأحكام على المصلحة المرسلة ليس بحجة، وليس دليلًا شرعيًّا.
أدلة من يرون تنوع الأحكام باختلاف المصالح:
بقي لنا أدلة المذهب الثالث الذي فرق بين المصالح الضرورية، والمصالح الحاجية، والمصالح التحسينية، وهو رأي الغزالي -كما نسبه إليه كثير من أهل العلم- فقال: إن كانت المصلحة ضرورية يصح بناء الأحكام على المصالح، بخلاف ما لو كانت المصالح حاجية أو مصالح تحسينية.
أما مذهبه في عدم الاحتجاج بالاستصلاح في الحاجيات والتحسينيات –أعنى: مذهب الغزالي- فقد ذكر له ابن قدامة ثلاثة أدلة:
الدليل الأول: لو جاز الاستصلاح فيها كان وضعًا للشرع بالرأي، فكأنك تفتح بابًا للتشريع بالرأي وبالهوى في أمور حاجية وأمور تحسينية، ونحن إنما قلنا بالحجية في الضروريات؛ لأننا عرفنا أن المحافظة على الضروريات مقصود للشارع الحكيم، أما الأمور الحاجية والتحسينية؛ فهي من باب المتمات والمكملات؛ فلا يكون الاستصلاح فيها حجة، وإلا فتحنا بابًا للقول في الدين بالرأي.
الدليل الثاني: أنه لو جاز الاستصلاح لما احتجنا إلى بعثة الرسل، يعني: ما كنا في حاجة إلى أن يرسل الله تعالى لنا رسلا؛ لأننا نعرف كيفية استنباط الحكم في الأمور الحاجية والأمور التحسينية، فالقول بحجية الاستصلاح في الأمور الحاجية والأمور التحسينية يؤدي إلى أننا لا نحتاج إلى بعثة الرسل، وهذا لم يقل به أحد.
الدليل الثالث: لو جاز الاستصلاح في الحاجيات والتحسينيات لكان العامي يساوي العالم في ذلك، ولاستوى أهل العلم مع العوام، فإن كل أحد يعرف مصلحة نفسه، العوام يقولون مصلحتنا في كذا، ومصلحتنا في كذا، ومصلحتنا في كذا، وحينئذ لا يكون هناك فرق بين العامي وبين العالم، وهذا لم يقل به أحد.
وكأن كلام ابن قدامة تفهم منه أن المسألة متفق عليها! والأمر ليس كذلك، بل الجمهور من الأئمة الأربعة ومن وافقهم على أن الاستصلاح حجة، ويصح بناء الأحكام على المصلحة المرسلة في الأمور الضرورية والحاجية والتحسينية.
هذا حاصل دليل الغزالي، وقد أورده ابن قدامة في “روضته” في أن الاستصلاح ليس بحجة في الأمور الحاجية ولا التحسينية، ومعلوم أن الأئمة الأربعة يقولون بالمصلحة المرسلة، لا فرق في ذلك بين الضرورية والحاجية والتحسينية.
وبهذا يتقرر أن العمل بالمصلحة المرسلة، والقول بالاستصلاح هو القول الذي تشهد له النصوص والأدلة.
الرأي الراجح في المسألة:
المصلحة المرسلة حجة بشروط ثلاثة:
الشرط الأول: أن تكون المصلحة المرسلة مصلحة ضرورية:
وطالما أنها مصلحة تخدم ضرورة؛ فكأنها مصلحة معتبرة أو تلحق بالمعتبر.
الشرط الثاني: أن تكون المصلحة المرسلة مصلحة كلية وعامة:
يعني: تعم الفائدة فيها جميع المسلمين، فقانون المرور مثلًا يخدم كل أفراد الشعب، وزارة الدفاع تخدم كل الشعب، وزارة الدخلية تخدم كل الشعب. وهذا الشرط يحترز به عن المصالح الجزئية لبعض الناس، أو المصالح الخاصة.
الشرط الثالث: أن تكون المصلحة المرسلة مصلحة قطعية، يعني: نقطع بوجودها، ولم يختلف في ذلك، نجزم جميعًا بأنها مصلحة قطعية، وهذا المذهب اختاره كثير من الأصوليين، منهم حتى الغزالي في (المستصفى) والبيضاوي في (المنهاج)، والآمدي في (الإحكام في أصول الأحكام) وقد رجح الآمدي أن يكون هذا المذهب هو ما أراده الإمام مالك رحمه الله.
وبهذا يكون القول بحجية المصلحة المرسلة هو الأولى بالقبول؛ نظرًا لأن الشريعة شريعة تحافظ على مصالح الناس؛ فهي تحقق للناس المصالح، وتدفع عنهم المفاسد.
5. أثر الخلاف في حجية المصلحة المرسلة:
إن أي أثر يذكره العلماء يكون بناء على من اعتبر الدليل المختلف فيه حجة؛ فبناء على أن الاستصلاح أو المصلحة المرسلة حجة ودليل يصح بناء الأحكام عليه؛ اختلف الفقهاء في فروع فقهية كثيرة، نذكر بعضها على سبيل المثال:
أ. مسألة: قتل الجماعة بالواحد:
هل يجوز قتل الجماعة بالواحد، أو لا يجوز؟ فإذا اشترك اثنان أو أكثر ممن يجب عليهم القصاص في قتل واحد عمدًا وعدوانا فهل تقتل الجماعة بالواحد، أم يقتل واحد فقط مقابل المقتول؟
اختلف العلماء في ذلك؛ فالإمام مالك -رحمه الله- يرى قتل الجماعة بالواحد، وهو رأي الشافعي -أيضا- ورأي أبي حنيفة، ورأي الإمام أحمد في الرواية المشهورة عنه.
إذن الأئمة الأربعة أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد يرون قتل الجماعة بالواحد بقي أن تسألهم: ما دليلكم على ما ذهبتم إليه؛ لماذا تقتلون الجماعة بالواحد، ولا تقتلون واحدًا فقط؟ قالوا: دليلنا ومستندنا على ما ذهبنا إليه هو العمل بالمصلحة المرسلة، كيف ذلك؟ قالوا: إن القصاص لو سقط، يعني: عن الجماعة لأدى إلى اتساع القتل به، يعني: لو لم نقل بقتل الجماعة بالواحد؛ لأدى هذا إلى انتشار القتل، فكل من أراد أن يقتل شخصًا اتفق مع مجموعة؛ فقتلوه، ودفعوا الدية؛ وحينئذ يتوقف القصاص، فالأئمة الأربعة قالوا: إن الجماعة يقتلون بالواحد؛ لأنه لو سقط القصاص بالاشتراك؛ لأدى إلى اتساع القتل به؛ فيؤدي إلى إسقاط حكمة الردع والزجر، فاقتضت المصلحة قتل الجماعة بالواحد؛ إذن: من قتل الجماعة بالواحد بنى حكمه على المصلحة.
وهذا يدل على ما قلناه من أن القول بالمصلحة المرسلة هو مذهب جميع الأئمة الأربعة، إلا أنهم اختلفوا في التوسع فيها، وفي التضييق.
إذن قتل الجماعة بالواحد له دليلان:
الدليل الأول: المصلحة المرسلة.
والدليل الثاني: فعل الصحابة رضي الله عنهم.
هناك مذهب ثانٍ في هذه المسألة، وهو: أنه لا يقتل الجماعة بالواحد، وإنما تجب الدية؛ فلو اشترك جماعة في قتل واحد لا نقتل الجماعة، وإنما نغرمهم الدية، وهذا المذهب هو مذهب أكثر الظاهرية، واستدلوا عليه بقوله تعالى -كما في سورة المائدة: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنّ النّفْسَ بِالنّفْسِ} [المائدة: 45]، فمنطوق الآية يدل على أن النفس تقتل بنفس، ولا تقتل الجماعة بالواحد، واستدلوا كذلك بقول الله تعالى في سورة البقرة: {الْحُرّ بِالْحُرّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [البقرة: 178] وقالوا: إن وجه الدلالة أن مقتضى الآيتين: أنه لا يؤخذ بالنفس أكثر من نفس واحدة.
إذن الحكم بقتل الجماعة بالواحد يناسب روح التشريع الإسلامي، ويناسب المحافظة على النفس البشرية، ويناسب مقصود الشارع الحكيم، بل ويتفق مع كل الملل والديانات.
ب. مسألة: تغريب الزاني البكر:
الإنسان الذي يرتكب جريمة الزنا؛ إما أن يكون محصنًا، وإما أن يكون غير محصن، فلو زنى الحر البكر، فما هي عقوبته؟ منطوق الآية: عليه جلد مائة، وهذا متفق عليه، قال تعالى: {الزّانِيَةُ وَالزّانِي فَاجْلِدُواْ كُلّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 1] فإذا ما زنى الحر البكر فإن عليه جلد مائة جلدة، وهذا متفق عليه.
ثم اختلفوا بعد ذلك في وجوب التغريب عليه مع الجلد؛ فذهب فريق من أهل العلم إلى أنه يغرب عامًا، يعني: نجلده مائة جلدة، ثم ننفيه سنة عن بلده التي ارتكب فيها الفاحشة، وأصحاب هذا المذهب قالوا: لا فرق في ذلك بين الذكر والأنثى، وهو مذهب الشافعي، ومذهب الإمام أحمد، وأكثر العلماء، ما دليلهم؟ قالوا: دليلهم في ذلك حديث عبادة بن الصامت، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام)) وهو صريح.
والمذهب الثاني في المسألة: قالوا: إنه لا تغريب على أحد، إلا أن يرى الإمام ذلك -يعني: لو رأى الإمام مصلحة في أن يغرب وينفى مرتكب هذه الجريمة فله ذلك، وإلا فالأصل أنه ليس عليه إلا الجلد فقط- وهذا مذهب الإمام أبي حنيفة -رحمه الله تعالى- والحنفية، واحتجوا بقول الله تعالى: {الزّانِيَةُ وَالزّانِي فَاجْلِدُواْ كُلّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} قالوا: إن الفاء في قوله: {فَاجْلِدُواْ} للجزاء، وإذا ذكر الجزاء بعد الشرط بالفاء دل على أنه هو الجزاء فقط، وأجابوا عن حديث عبادة بن الصامت الذي فيه التغريب، قالوا بأن العمل به نسخ للكتاب، وهو لا يجوز، قالوا: الكتاب يدل على أنه يجلد مائة جلدة فقط، فلو قلتم بالجلد والتغريب، فكأنكم تنسخون الكتاب بالحديث، وهذا لا يجوز.
أما المذهب الثالث في المسألة: ففرقوا بين الذكر والأنثى قالوا: يغرب الرجل، الرجل إذا فعل فاحشة الزنا يجلد مائة جلدة ويغرب وينفى إلى بلد آخر لمدة سنة، وقالوا: لا تغرب المرأة، وهذا مذهب الإمام مالك -رحمه الله- ودليله على ما ذهب إليه هو حديث التغريب، لكنه خصص المرأة من عموم الحديث بالمصلحة المرسلة، الحديث: ((البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام))، يعني: الرجل والمرأة؛ يجلد ويغرب، وتجلد وتغرب.
الإمام مالك قال: الذي يغرب الرجل دون المرأة، لماذا أخرجت المرأة أيها الإمام؟
قال: هذا من باب المصلحة المرسلة؛ وذلك لأن المرأة تحتاج إلى حفظ وصيانة فإذا غربت -يعني: نفيت بغير محرم- كان في ذلك إغراء لها بالفجور, وتمكين منها, وتضييع لها, وذلك ينافي قصد الشارع من وجوب الحد.
الشارع لما أوجب الحد كان يريد بإيجاب الحد الحفاظ على العرض, وعلى النسل, وعلى الشرف, وعلى كذا وعلى كذا, فلو قلنا المرأة تجلد وتغرب؛ فكأننا خالفنا مقصود الشارع؛ لأنه ما شرع الحد إلا زجرًا عن الزنا، قال: وإن غربت بمحرم أدى ذلك إلى عقاب من لم يجرم وليس بزان. ما جزاء المحرم؟ وأيضا فيه نفي من لا ذنب له، المحرم لماذا ينفى؟ وإن كلفت أجرته، قال قائل: هي تدفع الأَجرة، قال: ففي ذلك زيادة على عقوبتها؛ الجلد والتغريب، كما لو زاد ذلك على الرجل، ولذا يخصص الإمام مالك عموم الحديث الوارد؛ لهذه المعاني، وهذه معان كلها مبنية على رعاية الشارع للمصالح وتحقيق الشارع للمصالح ودفع المفاسد عنه.
ولذلك ذكر بعض العلماء: أن العبد لا يغرب إذا زنى، يعني: يجلد فقط، لماذا؟ قالوا: لأن تغريب العبد عقوبة لسيده ومالكه بمنعه منفعته مدة نفيه، ما ذنب السيد؟ العبد زنى، لو جلدناه وغربناه عدنا بالضرر على المالك السيد؛ لأن مدة نفيه لن يخدم سيده؛ ولذلك قالوا: إذا زنى العبد يجلد فقط ولا يغرب؛ لأن في تغريبه عود بالضرر على مالكه وسيده، ومعلوم أن الشريعة تحقق المصلحة، وتدفع المضرة، وكلام الشارع يقتضي ألا يعاقب غير الجاني.
ج. مسألة: تحليف المدعى عليه:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه)) فهل المدعى عليه يحلف اليمين مطلقًا؛ سواء كان المدعي يعرفه أو لا يعرفه، لا بد من أن تكون علاقة بين المدعي والمدعى عليه؟
المذهب الأول: العلماء يقولون: اليمين تلزم المدعى عليه بنفس الدعوى مطلقًا.
المذهب الثاني: ومذهب الإمام أبي حنيفة والشافعي وأحمد: أن اليمين تلزم المدعى عليه بنفس الدعوى، واحتجوا بعموم قوله صلى الله عليه وسلم: ((البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه)).
المذهب الثالث: قالوا: إنه لا يحلف المدعي عليه إلا إذا كانت بينه وبين المدعي مخالطة، أو ملابسة، وهذا مذهب الإمام مالك، واحتج بالمصلحة المرسلة، قال: وذلك حتى لا يتخذ الناس الدعاوى ذريعة إلى القضاء؛ فيحصل الأذى لكثير من الناس دون مبرر.
يعني: ليس كل من يدعي علي شيئًا أن أذهب عند القاضي وأحلف اليمين أنه ليس له شيء عندي، وقد يكون هذا المدعي لا يعرفني، ولا أعرفه، فرعاية للمصلحة قالوا: لا بد أن تكون هناك مخالطة، أو ملابسة.