Top
Image Alt

المعجزات: تعريفها، الحكمة منها، وذكر نماذج منها

  /  المعجزات: تعريفها، الحكمة منها، وذكر نماذج منها

المعجزات: تعريفها، الحكمة منها، وذكر نماذج منها

أولًا: تمهيد في وجوب الإيمان بالرسل:

1. الأدلة من القرآن الكريم على وجوب الإيمان بالرسل -عليهم السلام-:

لمّا كان الإيمان بأنبياء الله تعالى ورسله ركنًا من أركان الإيمان الستة، التي لا يصحّ إيمان أحدٍ من الناس حتى يُؤمن بها، ويقرّ بها جميعًا- فإننا وَجَدْنَا القرآن الكريم قد اهتمّ ببيانِ هذا الأمر الواجب أتمّ بيان.

لكننا سوف نقتصر على ثلاث آيات كريمات تُبيّن وجوبَ الإيمان بالأنبياء والرسل -عليهم الصلاة والسلام- ناقلين أقوال السّلف من المفسرين في تفسيرها:

الآية الأولى: قول الله -تبارك وتعالى-: {قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُون} [البقرة: 136].

قال الإمام ابن كثير -رحمه الله- في تفسير هذه الآية:

“أرشد الله تعالى عباده المؤمنين, إلى الإيمان بما أُنزل إليهم بواسطة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم مفصلًا، وما أُنزل على الأنبياء المتقدّمين مجملًا، ونصّ على أعيان من الرّسل وأجمل ذكر بقيّة الأنبياء، وألّا يفرّقوا بين أحد منهم، بل يُؤمنوا بهم كلهم، ولا يكونوا كمن قال الله فيهم: {وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا * أُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا} الآية [النساء: 150، 151].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية، ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا: آمنا بالله، وما أنزل الله)). وقال ابن أبي حاتم عن معقل بن يسار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((آمنوا بالتوراة والزبور، والإنجيل، وليسعكم القرآن))” انتهى كلامه.

وقال الشوكاني -رحمه الله- في تفسير هذه الآية أيضًا:

“وقوله: {قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ} خطاب للمسلمين، وأمر لهم بأن يقولوا هذه المقالة، وقيل: إنه خطاب للكفّار بأن يقولوا كذلك حتى يكونوا على الحق، والأول أظهر… وقوله: {لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ} قال الفرّاء: معناه: لا نُؤمن ببعضهم ونكفر ببعضهم، كما فعلت اليهود والنصارى”.

قال في (الكشاف):

“و”أحد” في معنى الجماعة؛ ولذلك صحّ دخول “بين” عليه. وقوله: {فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ} هذا الخطاب للمسلمين أيضًا، أي: فإن آمن أهل الكتاب وغيرهم بمثل ما آمنتم به من جميع كتب الله ورسله، ولم يفرّقوا بين أحد منهم -فقد اهتدوا” انتهى كلامه.

الآية الثانية: قول الله -تبارك وتعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِير} [البقرة: 285].

يقول الإمام ابن جرير -رحمه الله- في تفسير هذه الآية:

“قال أبو جعفر -يعني الطبري نفسه-: يعني بذلك -جل ثناؤه- صدق الرسول –يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم- فأقرّ بما أُنزل إليه, يعني: بما أُوحي إليه من ربه من الكتاب, وما فيه من حلال وحرام، ووعد ووعيد، وأمر ونهي، وغير ذلك من سائر ما فيه من المعاني التي حواها.

وذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا نزلت هذه الآية عليه قال: ((يحقّ له)).

حدّثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد عن قتادة قوله: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ} ذُكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية قال: ((ويحق له أن يؤمن))… وقول أصحابه: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} يقول: وصدّق المؤمنون أيضًا مع نبيّهم بالله وملائكته وكتبه ورسله.

قال أبو جعفر: وأما قوله: {لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ} فإنه أخبر -جل ثناؤه- بذلك عن المؤمنين أنهم يقولون ذلك؛ ففي الكلام في قراءة من قرأ: “لا نفرق بين أحد من رسله” بالنون متروك, قد استغني بدلالة ما ذكر عنه، وذلك المتروك هو “يقولون”.

وتأويل الكلام: والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله يقولون: لا نفرق بين أحد من رسله، وترك ذكر “يقولون” لدلالة الكلام عليه، كما ترك ذكره في قوله {وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَاب * سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ} [الرعد: 23، 24] يعني: يقولون: سلام.

وقد قرأ جماعة من المتقدمين: “لا يفرّق بين أحد من رسله” بالياء, بمعنى: والمؤمنون كلهم آمن بالله وملائكته، وكتبه، ورسله, لا يفرق الكل منهم بين أحد من رسله, فيؤمن ببعض ويكفر ببعض؛ ولكنهم يصدّقون بجميعهم، ويقرّون أن ما جاءوا به كان من عند الله، وأنهم دعوا إلى الله وإلى طاعته، ويُخالفون في فعلهم ذلك اليهود الذين أقرّوا بموسى وكذّبوا عيسى، والنصارى الذين أقروا بموسى وعيسى، وكذّبوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وجحدوا نبوّته, ومن أشبههم من الأمم الذين كذّبوا بعض رسل الله، وأقرّوا ببعضهم.

كما حدّثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد: “لا نفرق بين أحد من رسله” كما صنع القوم -يعني بني إسرائيل- قالوا: فلان نبي وفلان ليس نبيًّا، وفلان نؤمن به وفلان لا نؤمن به” انتهى كلامه.

وقال الإمام ابن كثير -رحمه الله تعالى-:

“فقوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ} إخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك. قال ابن جرير: حدثنا بشر: قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد عن قتادة قال: ذُكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمّا نزلت عليه هذه الآية: ((ويحق له أن يؤمن)). وقد روى الحاكم في مستدركه قال: حدثنا أبو النضر الفقيه، قال: حدثنا معاذ بن نجدة القرشي، قال: حدثنا خلاد بن يحيى، قال: حدثنا أبو عقيل عن يحيى بن أبي كثير, عن أنس بن مالك قال: لما نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ} قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((حق له أن يؤمن))، ثم قال الحاكم: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه.

وقوله: {وَالْمُؤْمِنُونَ}: عطف على الرسول، ثم أخبر عن الجميع فقال: {كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} {لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ} فالمؤمنون يؤمنون بأن الله واحد أحد فرد صمد، لا إله غيره ولا رب سواه، ويصدقون بجميع الأنبياء، لا يفرقون بين أحد منهم فيؤمنون ببعض ويكفرون ببعض؛ بل الجميع عندهم صادقون بارّون راشدون مهديون، هادون إلى سبيل الخير، وإن كان بعضهم ينسخ شريعة بعض بإذن الله، حتى نُسخ الجميع بشرع محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين الذي تقوم الساعة على شريعته، ولا تزال طائفة من أمته على الحق ظاهرين، وقوله: {وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} أي: سمعنا قولك يا ربنا، وفهمنا، وقمنا به، وامتثلنا العمل بمقتضاه” انتهى كلامه.

الآية الثالثة: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا * أُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا} [النساء: 150، 151].

يقول الإمام ابن جرير الطبري -رحمه الله- في تفسير هذه الآية:

“قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ} من اليهود والنصارى، {وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ} بأن يُكذّبوا رسل الله الذين أرسلهم إلى خلقه بوحيه، ويزعموا أنهم افتروا على ربهم، وذلك هو معنى إرادتهم التفريق بين الله ورسله بنحلتهم إيّاهم الكذب, والفرية على الله، وادّعائهم عليهم الأباطيل.

{وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ} يعني: أنهم يقولون: نصدق بهذا ونكذب بهذا، كما فعلت اليهود من تكذيبهم عيسى ومحمدًا -صلى الله عليهما وسلم- وتصديقهم بموسى وسائر الأنبياء قبله بزعمهم، وكما فعلت النصارى من تكذيبهم محمدًا صلى الله عليه وسلم، وتصديقهم بعيسى وسائر الأنبياء قبله بزعمهم.

{وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا} يقول: ويريد المفرقون بين الله ورسله -الزّاعمون أنهم يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض- أن يتخذوا بين أضعاف قولهم: نُؤمن ببعض الأنبياء، ونكفر ببعض {سَبِيلا}، يعني: طريقًا إلى الضلالة التي أحدثوها, والبدعة التي ابتدعوها, يدعون أهل الجهل من الناس إليه.

فقال جل ثناؤه لعباده, منبهًا لهم على ضلالتهم وكفرهم: {أُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا} يقول: أيها الناس, هؤلاء الذين وصفتُ لكم صفتهم هم أهل الكفر بي، المستحقّون عذابي والخلود في ناري حقًّا، فاستيقنوا ذلك ولا يُشكِّكَنّكُم في أمرهم انتحالهم الكذب، ودعواهم أنهم يقرّون بما زعموا أنهم به مقرون من الكتب والرسل؛ فإنهم في دعواهم ما ادعوا من ذلك كَذَبَة؛ وذلك أن المؤمن بالكتب والرسل هو المصدق بجميع ما في الكتاب الذي يزعم أنه به مصدق، وبما جاء به الرسول الذي يزعم أنه به مؤمن.

فأما من صدق ببعض ذلك وكذب ببعض؛ فهو لنبوة من كذب ببعض ما جاء به جاحد، ومن جحد نبوة نبي فهو به مكذب. وهؤلاء الذين جحدوا نبوة بعض الأنبياء, وزعموا أنهم مصدقون ببعض مكذبون من زعموا أنهم به مؤمنون؛ لتكذيبهم ببعض ما جاءهم به من عند ربهم، فهم بالله وبرسله الذين يزعمون أنهم بهم مصدقون، والذين يزعمون أنهم بهم مكذبون كافرون، فهم الجاحدون وحدانية الله ونبوة أنبيائه حقّ الجحود، المكذبون بذلك حقّ التكذيب؛ فاحذروا أن تغترّوا بهم وببدعتهم، فإنا قد أعتدنا لهم عذابًا مهينًا.

وأما قوله: {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا} فإنه يعني: وأعتدنا لمن جحد بالله ورسوله جحود هؤلاء الذين وصفت لكم -أيها الناس- أمرهم من أهل الكتاب، ولغيرهم من سائر أجناس الكفار عذابًا في الآخرة، {مُّهِينًا} يعني: يهين من عذب به بخلوده فيه، وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد عن قتادة قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا * أُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا} أولئك أعداء الله اليهود والنصارى؛ آمنت اليهود بالتوراة وموسى، وكفروا بالإنجيل وعيسى, وآمنت النصارى بالإنجيل وعيسى، وكفروا بالقرآن وبمحمد صلى الله عليه وسلم، فاتخذوا اليهودية والنصرانية وهما بدعتان ليستا من الله، وتركوا الإسلام وهو دين الله الذي بعث به رسله.

حدثنا محمد بن الحسين قال: حدثنا أحمد بن مفضل، قال: حدثنا أسباط عن السّدّي: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ} يقولون: محمد ليس برسول لله، وتقول اليهود: عيسى ليس برسول لله! فقد فرقوا بين الله وبين رسله، ويقولون: نؤمن ببعض ونكفر ببعض؛ فهؤلاء يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض.

وحدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ} إلى قوله: {بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا} قال: اليهود والنصارى، آمنت اليهود بعزير وكفرت بعيسى، وآمنت النصارى بعيسى وكفرت بعزير، وكانوا يؤمنون بالنبي ويكفرون بالآخر، {وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا} قال: دينًا يدينون به الله… إلخ.

قال أبو جعفر: يعني بذلك -جل ثناؤه- والذين صدقوا بوحدانية الله وأقرّوا بنبوة رسله أجمعين, وصدقوهم فيما جاءوهم به من عند الله من شرائع دينه, “ولم يفرقوا بين أحد منهم” يقول: ولم يكذبوا بعضهم ويصدقوا بعضهم، ولكنهم أقرّوا أن كل ما جاءوا به من عند ربهم حقّ, “أولئك” يقول: هؤلاء الذين هذه صفتهم من المؤمنين بالله ورسله “سوف يؤتيهم” يقول: سوف يعطيهم “أجورهم” يعني: جزاءهم وثوابهم على تصديقهم الرسل في توحيد الله وشرائع دينه، وما جاءت به من عند الله” انتهى كلامه.

2. الأدلة من السنة المطهرة على وجوب الإيمان بالرسل -عليهم السلام-:

كما ثبت أن وجوب الإيمان بالرسل -عليهم الصلاة والسلام- في القرآن الكريم، فإن وجوب الإيمان بالرسل -عليهم الصلاة والسلام- ثابت أيضًا في السنة المطهرة؛ لأن الإيمان بالرسل ركنٌ من أركان الإيمان الستة، وهي:

أولًا: الإيمان بالله تعالى.

الثاني: الإيمان بالملائكة الكرام -عليهم السلام.

الثالث: الإيمان بالكتب السماوية المنزلة.

الرابع: الإيمان بالرسل والأنبياء -عليهم الصلاة والسلام.

الخامس: الإيمان باليوم الآخر.

السادس: الإيمان بالقدر؛ خيرِه وشرّه.

فمن تلك الأحاديث:

الحديث الأول: حديث الإيمان المشهور المعروف بحديث جبريل عليه السلام, الذي رواه عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث قال: (بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم, إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفّيه على فخذيه…)) وفيه: أن جبريل عليه السلام سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام، فقال: ((الإسلام: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله لمن استطاع إليه سبيلًا))، ثم سأله عن الإيمان، فقال: ((الإيمان: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره))، ثم سأل جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإحسان، فقال: ((الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك))، ثم سأله عن الساعة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما المسئول عنها بأعلم من السائل))، ثم سأله عن أماراتها فأجاب صلى الله عليه وسلم: ((أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحُفَاة العراة رعاء الشاة يتطاولون في البنيان))، ثم لبث مليًّا فقال صلى الله عليه وسلم لعمر: ((أتدري من الرجل؟)) فقال عمر رضي الله عنه: الله ورسوله أعلم, فقال: ((هذا جبريل, أتاكم يعلمكم دينكم)). أخرجه الإمام مسلم.

والشاهد من هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: ((الإيمان: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتُؤمن بالقدر خيره وشره))؛ ففيه إثبات وجوب الإيمان برسل الله تعالى، بل هو ركن من أركان الإيمان الستة كما هو وارد في هذا الحديث الصحيح، ونجد أن ترتيب الإيمان بالرسل -عليهم السلام- بالنسبة لبقية أركان الإيمان يأتي في المرتبة الرابعة -أي: بعد الإيمان بالله تعالى، وبالملائكة، وبالكتب.

الحديث الثاني: ما رواه الإمامان البخاري ومسلم -رحمهما الله تعالى- في صحيحيهما، من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن عمر انطلق مع النبي صلى الله عليه وسلم في رهطٍ قبل ابن صيّاد, حتى وجدوه يلعب مع الصبيان عند أطم بني مغالة، والأطم هو الشاخص من البنيان القديم.

وقد قارب ابن صياد الحلم، فلم يشعر حتى ضرب النبي صلى الله عليه وسلم ظهره بيده، ثم قال لابن صياد: ((تشهد أني رسول الله؟))، فقال ابن صياد: أشهد أنك رسول الأميين. فقال ابن صياد للنبي صلى الله عليه وسلم: أتشهد أني رسول الله؟ فرفض وقال: ((آمنت بالله ورسله))، فقال له: (( ماذا ترى؟)) قال ابن صياد: يأتيني صادق وكاذب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((خُلّط عليك الأمر))، ثم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((إني قد خبأت لك خبيئة))، فقال ابن صياد: هو الدّخ, أي: المقصود الدخان, فقال: ((اخسأ، فلن تعدو قدرك))، فقال عمر رضي الله عنه: دعني يا رسول الله أضرب عنقه, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن يَكُنْهُ فلن تسلّط عليه، وإن لم يَكُنْه فلا خير لك في قتله))، وهذا لفظ البخاري.

والشاهد من هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم جوابًا لسؤال ابن صياد: ((آمنت بالله ورسله))، فدخل في ذلك جميع الأنبياء والمرسلين من غير تفريق بين الإيمان ببعضهم وعدم الإيمان بالبعض الآخر، وابن صياد هذا الوارد في الحديث قصته ذكرها الإمام مسلم -رحمه الله- في صحيحه.

وذكر أهل العلم أن ابن صياد هذا كان صبيًّا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم قارب البلوغ، وكان يأتي بخوارق وتظهر على يديه أمور خارقة وتنبؤات، فكان من العلماء من اعتبره المسيح الدجال المنتظر، ومن العلماء من قال: إنه ليس هو المسيح، وقصته هذه تدلّ على أن من العلماء من توقّف فيه.

الحديث الثالث: ومن الأحاديث التي تصرّح أيضًا بوجوب الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم، والإيمان به يُوجب الإيمان ببقية إخوانه من المرسلين -عليهم السلام- قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ((أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم, إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله)) رواه البخاري ومسلم. فثبت من جملة هذه الأحاديث وجوب الإيمان بأنبياء الله تعالى ورسله -عليهم الصلاة والسلام.

وبهذا نختم: أن الإيمان بالأنبياء والرسل -عليهم الصلاة والسلام- ثابت ثبوتًا قطعيًّا بدلالة آيات الكتاب العزيز، وأحاديث النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأن هذه الآيات وهذه الأحاديث لم تفرّق بين نبي ونبي؛ لأن الإيمان ببعض الأنبياء، والكفر ببعضهم هو كفر بالذي زُعم الإيمان به. وهذا الهدى الذي وفّق الله له أمة محمد صلى الله عليه وسلم كانت قد وقعت فيه الأمتان اليهودية والنصرانية؛ حيث كانوا يؤمنون ببعض الأنبياء ويكفرون ببعض.

ثانيًا: المعجزات؛ تعريفها، والحكمة منها، وذكر نماذج منها:

1. تعريف المعجزة:

المعجزة لغة: من عجز عن الشيء عجزًا، من باب ضرب، ومَعْجَزَةً -بفتح الميم-: ضعُف عنه، فالمُعجزة: اسم فاعل مأخوذ من العجز, الذي هو زوال القدرة عن الإتيان بالشيء من عمل أو رأيٍ أو تدبيرٍ، ويطلق على المعجزة أيضًا: الآية، وهي في اللغة: العلامة الدالة على الشيء، وتجمع على آيٍ وآياي وآيات.

والمراد بها هنا: ما يُجريه الله تعالى على أيدي رسله وأنبيائه من الأمور الخارقة للسننِ الكونيةِ المعتادة, التي لا قدرة للبشر على الإتيان بمثلها؛ كتحويل العصا إلى أفعى تتحرك وتسعى، فتكون هذه الآية الخارقة للسنة الكونية المعتادة دليلًا غيرَ قابلٍ للنقدِ والإبطال؛ يدل على صدقهم فيما جاءوا به.

فالمراد بآيات الأنبياء ومعجزاتهم أمر واحد؛ فلا فرق بين الآية والمعجزة.

وأما المراد بالمعجزة في الاصطلاح: فهي الأمر الخارق للعادة، المَقْرُونُ بالتحدي, السالم من المعارضة.

يقول السفاريني -رَحِمَهُ اللهُ- في بيانه لتعريف المعجزة:

“وتعريف المعجزة هي: اسم فاعل مأخوذة من العجز المقابل للقدرة. وفي (القاموس): معجزة النبي: ما أعجز به الخصم عند التحدي, والهاء للمبالغة. وقال ابن حمدان في (نهاية المبتدئين): المعجزة: هي ما خرق العادة من قولٍ أو فعلٍ إذا وافق دعوى الرسالة، وقارنها وطابقها على جهة التحدي ابتداءً؛ بحيث لا يقدر أحد عليها, ولا على مثلها، ولا على ما يقاربها.

وقال الفخر الرازي: المعجزة عرفًا: أمر خارق للعادة, مقرون بالتحدي مع عدم المعارضة.

قال العلامة التفتازاني: إنما قال: أمر؛ ليتناول الفعل كانفجار الماء من بين أصابع النبي صلى الله عليه وسلم, ويتناول عدمه -أي: عدم الفعل- كعدم إحراق النار إبراهيمَ عليه السلام، واحترزوا بقيد المقارنة للتحدي عن كرامات الأولياء، والعلامات الإرهاصية التي تتقدم البعثة النبوية، وعن أن يتخذ الكاذب معجزةَ من مضى من الأنبياء، أو ما تقدم له في السنين الماضية حجةً لنفْسِهِ، وبقيدِ عدمِ المعارضةِ عن السحر والشعوذة.

وقول ابن حمدان: “وطابقها”؛ ليخرج ما إذا قال: معجزتي نطق هذا الحجر فنطق, بأنه كاذب مفترٍ، وكما تفل مسيلمة الكذاب في بئرٍ فغار ماؤها، ومسح على رأس غلام فصار أقرع، ونحو ذلك” انتهى كلام السفاريني -رَحِمَهُ اللهُ.

وعَرَّفَ الجرجاني -رَحِمَهُ اللهُ- المعجزة بقوله:

“المعجزة: أمر خارق للعادة، داعٍ إلى الخير والسعادة، مقرونٌ بدعوى النبوة؛ قُصِدَ به إظهار صدق من ادعى أنه رسول من الله” انتهى كلامه. 

2. الحكمة من ظهور معجزات وآيات الرسل:

لم يرسل الله تعالى رسولًا إلا وأيّده بآيات تبين صدقه في ادعائه مرسلًا من عند الله تعالى، وقد وقف كثيرٌ من أعداء الرسل في وجه الأنبياء مطالبين الرسل -عَلَيْهِم السَّلامُ- بمعجزاتٍ وآياتٍ وبيناتٍ تؤكد صدقهم في ادعاء الرسالة والوحي من الله تعالى، ولم يسلم رسولٌ من الرسل من معارضٍ يرد دعوته، وينكر نبوته، ويطالبه بآيةٍ حسيةٍ تخالف المعتاد وتخرق العادة؛ لكي يتأكد عند المعاندين صدقه، ويظهر للناس أمره، وأنه مؤيدٌ من الله تعالى، وأن الوحي يتلقاه من السماء، ويلقيه إليه الملك المقرب من رب العالمين.

يقول الشيخ سيد سابق:

لم يرسل الله تعالى رسولًا ليبلغ الناس الدين ويعلمهم الشريعة, إلا وأيده بالآيات التي تقطع بأنه مرسل من عنده، وأنه موصولٌ بالملأِ الأعلى يتلقى عنه، ويأخذ تعاليمه منه.

وهذه الآيات التي يؤيد الله بها رسله لا بد وأن تكون فوق مقدور البشر، وخارج نطاق طاقاتهم وعلومهم ومعارفهم، كما يجب أن تكون مخالفة للسنن الخاصة بالمادة, وخارقة للعادات المعروفة والقوانين الطبيعية المألوفة؛ ولذلك سمى العلماء هذه الآيات بالمعجزات؛ لأنها تعجز العقل عن تفسيرها، كما تعجز القدرة الإنسانية عن الإتيان بمثلها.

ومن ثَمَّ كانت المعجزة ضرورية وإظهارها واجبًا؛ ليتمَّ بها المقصود من تبليغ الرسالة، وتقامَ بها حجةُ الله على الناس، وهذه الآياتُ ممكنةٌ في ذاتها والعقل لا يمنعها، والعلم لا ينفيها،.

والواقع يؤيدها، فقد قام رجال وادعوا أنهم رسل الله، وتحدَّوْا أممهم بما أظهروه من هذه الخوارق, ورآها الناس عيانًا، وآمن بها ألوف وألوف عبر القرون والأجيال؛ بل إن العلم الحديث نفسه أثبت أن النواميس الطبيعية يمكن تخلفها عن إحداث آثارها, بنواميس أخرى أرقى منها.

كما أثبت العلم أيضًا أن معجزاتِ الأنبياء كلها صحيحة، ما بعث الله رسولًا إلا وقد أيده الله بالآيات الكونية، والمعجزات المخالفة للسنن المعروفة للناس، والخارجة عن مقدور البشر؛ ليكون إظهارها على يديه مع بشريته دليلًا على أنه مرسل من عند الله، فعدم حرق النار لإبراهيم، وناقة صالح، وعصا موسى، وما ظهر على يدي عيسى كلها آيات للرسل.

وكانت الآيات حسيةً يومَ أن كان العقل الإنساني في الظهور الذي لم يبلغ فيه الرشد بعد، ويوم أن كانت هذه العجائب تبلغ من نفسية الجماهير مبلغًا لا تملك معه إلا الإذعان والتسليم.

فلما بدأ النوع الإنسانيُّ يدخل في الرشد، وبدأت الحياة العقلية تأخذ طريقها إلى الظهور والنماء؛ لم تعد تلك العجائب هي الأدلة الوحيدة على صدق الرسالة، ولم يعد من السهل على العقل أن يذعن لمجرد شيءٍ رآه خارجًا عن عُرِفِ الحياةِ، إنه يريد شيئًا جديدًا يتناسب والطور الذي وصل إليه؛ يريد الإيمان الذي لا تخالطه الشكوك، واليقين الذي يبدد ظلامه، وما كان الله ليمد النوع الإنساني في طفولته بماء يحفظ به حياته الروحية, ثم يدعه بعد أن أخذ سبيله إلى النظر العقلي والاستقلال الفكري, دون أن يقيم له من الأدلة ما يناسب الارتقاء الذي وصل إليه.

فكان أن بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم وأيده بالمعجزة العلمية والحجة العقلية، وهو القرآن الكريم: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88]، روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من الأنبياءِ نبيٌّ إلا أُعْطِيَ ما مثله آمن عليه البشر، إنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إليَّ؛ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة)) وهذا القرآن ليس من تأليفِ أحدٍ، وإنما هو وحيُ الله أنزله على أكملِ صورةٍِ من صورِ الوحي. انتهى كلامه.

ويقول الدكتور عمر الأشقر في كتابه (الرسل والرسالات):

“الأنبياء الذين ابتعثهم الله إلى عباده يقولون للناس: نحن مرسلون من عند الله، وعليكم أن تصدقونا فيما نخبركم به، كما يجب عليكم أن تطيعونا بفعل ما نأمركم به, وترك ما ننهاكم عنه.

وقد أخبر الله في سورة الشعراء أن نوحًا خاطب قومه قائلًا: {أَلاَ تَتَّقُون * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِين * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُون} [الشعراء: من 106- 108]. وبهذا القول نفسه خاطب رسل الله هودٌ وصالحٌ ولوطٌ وشعيبٌ أقوامَهُم, بل هي مقالة ودعوة كل رسول لقومه؛ فإذا كان الأمر كذلك فلا بد أن يقيم الله الدلائل والحجج والبراهين المبينة صدق الرسل في دعواهم أنهم رسل الله؛ كي تقوم الحجةُ على الناس، ولا يبقى لأحدٍ عذرٌ في عدم تصديقهم وطاعتهم: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ} [الحديد: 25]، أي: بالدلائل والبينات التي تدل على صدقهم” انتهى كلامه.

فاتضح من هذا أن الله سبحانه أَيّدَ رُسُلَهُ -عَلَيْهِم السَّلامُ- بالآيات والمعجزات الواضحة، والبينة؛ لحكمة جليلة وهي إثبات صدق الرسول فيما جاء به، وأن هذا الذي يدعي الاتصال بالملأ الأعلى ومشافهة الملائكة رسول، وأن الله تعالى هو الذي قال له: اذهب فبلغ الناس شرعي, وأْمرهم بالمعروف وانههم عن المنكر، وأخبرهم أن لدي نارًا أعذب بها العصاة والمكذبين للرسل، وأن لدي جنةً أعددتها للمطيعين لي والمتبعين للرسل، والمصدقين بالرسالات السماوية- من ادعى ذلك, لا بد أن المخاطبين من العقلاء سوف يواجهونه بالتساؤل التالي: ما الدليل على صدق ما تقول؟ فإن الدعاوى سهلٌ الإتيان بها، وقد مر على البشرية كثيرٌ من مدعي النبوة، فإذا كان الرجل مؤيدًا بالوحي، ومرسلًا من قِبَل الله تعالى حقًّا -أتاه التأييد من العناية الإلهية حالًا ولم تتخلَّ عنه العناية الإلهية، فيؤيد كل رسول بما يثبت نبوته، ويتحدى الرسول قومه في الفن الذي ينتشر بينهم؛ فكان السحر مشتهرًا في عهد موسى عليه السلام, وكان الطب وإنكار الروح في عهد عيسى عليه السلام, وكانت البلاغة في عهد نبينا خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم, فكانت معجزة كل نبيٍّ من جنس ما اشتهر على عهده؛ فسبحان الله الحكيم الخبير, الذي يضع الأمور في موضعها، والذي يؤيد رسله {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [غافر: 51]. 

3. ذكر أمثلة لآيات بعض الرسل -عَلَيْهِم السَّلامُ-:

يقول العلامة السفاريني -رَحِمَهُ اللهُ-:

ومعجزات خاتم الأنبياء كثيـ

ـرة تجل عن إحصائي

منها: كلام الله معجز الورى

كذا انشقاق البدر في غير امترا

وهذا يدل على أن معجزات خاتم النبيين محمدٍ صلى الله عليه وسلم كثيرةٌ ومتنوعةٌ، منها الحسية والمعنوية، ولقد أوصلها بعض العلماء فوق الألف كما فعل البيهقي -رَحِمَهُ اللهُ- في (دلائل النبوة)؛ لكننا سنذكر بعض المعجزات الخاصة بنبينا محمدٍ صلى الله عليه وسلم بعد أن نُعَرِّجَ على ذكر بعض الأنبياء قبله, فنقول:

أولًا: آية نبي الله صالح عليه السلام:

لقد دعا صالحٌ عليه السلام قومه إلى عبادة الله تعالى وحده، قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ} [النمل: 45]، فكذّبوه وطلبوا منه آية تدل على صدقه: {قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِين * مَا أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِين} [الشعراء: 153- 154].

يذكر المفسرون: أن ثمود اجتمعوا, فطلبوا من صالحَ أن يخرج لهم من صخرةٍ ناقة عشراء طويلة, فقام يصلي عليه السلام ثم دعا الله أن يجيبهم إلى ما سألوا، بعد أن أخذ عليهم الميثاق إن أتاهم بالآية أن يسلموا ويتبعوه، فلما رأوها على الوجه الذي طلبوا حيث انشقت عنها الصخرة فرأوها؛ كفر بعضهم, وآمن بعضهم وهو القليل.

ثانيًا: معجزة إبراهيم عليه السلام:

لقد حطّم إبراهيم عليه السلام إله قومه وأصنامهم التي كانوا يعبدونها, فأشعلوا له نارًا عظيمة ورموه فيها، فأمر الله عز وجل النار ألا تصيبه بأذى, قال تعالى: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِين * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيم * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِين} [الأنبياء: 68- 70].

ويذكر علماء التفسير في تفسير هذه الآية, أن هذه النار من عظمها كانت تبلغ عنان السماء, فكان الطير -أي: طير يطير في السماء- يقع فيها من شدة لهبها, وطول ألسنتها.

ومن آيات إبراهيم عليه السلام إحياء الموتى، وقد قص الله علينا قصة إحياء الطير في قوله تعالى: {قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا} [البقرة: 260].

فأمره الله تعالى أن يذبح هذه الطيور ويقطعها ويفرقها على عدةِ جبالٍ ثم يدعوها؛ فتلبي النداء وتجتمع الأجزاء المتفرقة، وتلتحم كما كانت من قبل، وتدبّ فيها الحياة، وتطير محلقةً في الفضاء.

ثالثًا: معجزات نبي الله موسى عليه السلام:

أعطى الله تعالى موسى عليه السلام تسعَ آياتٍ بيناتٍ وهناك غيرها؛ إلا أن هذه التسع هي الأشهر والأظهر, قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [الإسراء: 101]. وهذه الآيات بإيجاز هي:

الأولى: العصا -وهي أكبر هذه الآيات وأعظمها- حيث كانت تتحول إلى حيةٍ عظيمةٍ, عندما يلقيها على الأرض.

الثانية: أنه عليه السلام كان يُدْخِلُ يده في جيبه -أي: درع قميصه- ثم ينزعها؛ فإذا هي تتلألأ كالقمر بياضًا, من غير سوء ولا برص ولا بهق.

الثالثة: آية السنين، وهي الجدب والقحط الذي أصابهم في عهده عليه السلام.

الرابعة: نقص الثمرات والخيرات التي تخرج عادةً من الأرض.

الخامسة: الطوفان الذي يتلف المزارع، ويهدم المدن والقرى.

السادسة: الجراد الذي لا يدعُ أخضر ولا يابسًا.

السابعة: القُمَّل الذي آذاهم في أجسادهم.

الثامنة: الضفادع التي نغّصت عليهم عيشتهم لكثرتها.

التاسعة: الدم الذي أصاب معاشهم وشرابهم؛ فكانوا لا يفتحون قِدْرًا إلا ووجدوا فيه الدم.

رابعًا: معجزات نبي الله عيسى عليه السلام:

أخبر الله تعالى عن عيسى عليه السلام أنه كان يصنع من الطين ما يشبه الطيرَ, ثم ينفخ فيه فيصبح طيرًا بإذن الله تعالى وقدرته ومشيئته، وكان يمسحُ الأكمه والأبرص فيبرآن بإذن الله، ويُذْهِبُ اللهُ ما بهما من أذى، ويمر على الموتى فيناديهم؛ فيحييهم الله له, قال تعالى: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِىءُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِي} [المائدة: 110].

ومن آيات عيسى عليه السلام العظيمة: تلك المائدة التي أنزلها الله من السماء عندما طلب الحواريون من عيسى إنزالها؛ فكانت على الحال التي طلبوا من عيسى عيدًا لأولهم وآخرهم، وقد ورد تفصيل هذه الآية في سورة المائدة من القرآن الكريم.

خامسًا: آيات خاتم النبيين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم:

ومعجزات نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كثيرة جدًّا، بل لقد أوصلها بعض العلماء إلى الألف وأَزْيَدَ، وأُلِّفَتْ فيها المصنفات التي تعرف بكتب (دلائل النبوة) و(أعلام النبوة) و(الخصائص), واهتم ببيانها علماء التوحيد والحديث والسيرة والمفسرون.

وأعظم تلك الآيات التي أُوتيها رسولنا محمدٌ صلى الله عليه وسلم, بل أعظم آيات الرسل قاطبة: القرآن الكريم والكتاب المبين، وهي آية تخاطب النفوس والعقول، آيةٌ باقيةٌ دائمةٌ إلى يوم الدين، لا يطرأ عليها التغيير ولا التبديل، قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيز * لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيد} [فصلت: 41-42].

ولقد كانت معجزة خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم نمطًا مخالفًا لمعجزات الرسل المتقدمين، وكان الله قادرًا على أن ينزل معجزةً حسيةً تُذِلُّ من يراها، كما قال تعالى: {إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّن السَّمَاء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِين} [الشعراء: 4]، لكنه سبحانه وتعالى شاء أن يجعل معجزة هذه الرسالة الأخيرة آية غير قاهرة.

لقد جعل آية القرآن منهاج حياة كاملة، معجزًا في كل ناحية؛ معجزًا في بنائه التعبيري وتنسيقه الفني, معجزًا في بنائه الفكري وتناسق أجزائه وتكاملها؛ فلا فلتة فيه ولا مصادفة، كل توجيهاته وتشريعاته تلتقي وتتناسق وتتكامل، وتحيط بالحياة البشرية وتستوعبها وتلبيها، وتدفعها دون أن تتعارض جزئية واحدة من ذلك المنهج السامي الشامل, معجزًا في يسر مداخله إلى القلوب والنفوس، ولمس مفاتيحها وفتح مغاليقها, وعلاجه لعقدها ومشاكلها في بساطة ويسر عجيبين؛ من أجل ذلك كان من المناسب أن تكون معجزة القرآن مفتوحة للبعيد والقريب، لكل أمة ولكل جيل.

ومن معجزاته صلى الله عليه وسلم الخارقة: إسراء الله بنبيه من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى؛ حيث جمع الله له الأنبياء فصلى بهم إمامًا، قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} [الإسراء: 1].

ومن معجزاته صلى الله عليه وسلم: انشقاق القمر, حيث سأله أهل مكة آيةً؛ فانشق القمر شقين حتى رأوا حراءَ بينهما، وقد كان القمر عند انشقاقه بدرًا، قال تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَر * وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِر} [القمر: 1، 2].

ومن معجزاته صلى الله عليه وسلم باختصارٍ: تكثير الطعام ببركة يديه صلى الله عليه وسلم, ونبع الماء من بين أصابع يديه الشريفتين؛ قال الشاعر:

يَا مَنْ تَفَجَّرَتِ الأنهارُ نَابِعَةً مِن

*أُصْبُعَيْهِ, فَرَوَّى الجَيْشُ بِالمَدَدِ

ومنها: كف الأعداء عنه، ومثاله: كف الله تعالى لسراقة بن مالك حينما أراد النبي صلى الله عليه وسلم, فارتطمت بسراقة فرسه إلى بطنها في أرض صلبة، وتكرر مثل ذلك؛ قال تعالى: {وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67].

ومنها: إجابة دعوته.

ومنها: إبراء المرضى.

ومنها: الإخبار بالأمور الغيبية.

ومنها: حنين الجذع في مسجده صلى الله عليه وسلم.

ومنها: انقياد الشجر, وتسليمه وكلامه.

ومنها: تسليم الحجر.

ومنها: شكوى البعير له من صاحبه, إلى غير ذلك من الآيات البينات والمعجزات الباهرات.

ويكفي خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم من دلائل على نبوته, ما عُرف به صلى الله عليه وسلم من محاسن الأخلاق، وصدق الأقوال والأفعال, وحميد السيرة.

يقول القاضي عياض -رَحِمَهُ اللهُ-:

“وإذا تأمل المتأملُ المنصفُ ما قدمناه من جميل أثره، وحميد سيرته، وبراعة علمه، ورجاحة عقله وحلمه، وجملة كماله, وجميع خصاله، وشاهد حاله، وصواب مقاله -لم يمتر في صحه نبوته وصدق دعوته” انتهى كلامه.

error: النص محمي !!