المفاضلة بين النسخ
نحن في الحقيقة نتحدّث عن مسائل غاية في الأهمية، وينبغي أن يكون الأمر واضحًا تمامًا، ونحن نقدِّم هذه المعلومات التي ينبغي أن تؤخذ بكلّ عناية وبكل اهتمام. وجدنا نسختيْن، وجدنا ثلاث نُسخ، يجب ترتيب النسخ من حيث الأفضلية، ولديْنا معايير وموازين.
أولًا: تُقدّم نسخة المؤلف التي كتبها بخط يده إن وجدت، وهذا أحيانًا يحدث. عندنا كتاب كتبه المؤلف بنفسه وما يزال موجودًا حتى الآن، وهذه النسخة هي أولى النسخ بالتقديم؛ فلا يتقدم عليها شيء حتى ولو كان خطّ المؤلف غير جيّد.
أحيانًا لا يلزم أن يكون المؤلف خطه جيّدًا، وأحيانًا بعض المؤلفين خطوطهم عسيرة على القراءة، لكن لا أستطيع أن أقدّم نسخة أخرى على نسخة المؤلّف التي كتبها بنفسه، بشرط أن تكون النسخة كاملة، ليس فيها أي نقصان، وأن تكون تامة ليس فيها قطْع ولا شيء، وأن تكون واضحة ومقروءة، وليست عسيرة على القراءة.
فنحن لا نبحث عن جودة الخط، ولكن نبحث عن الوضوح، وعلى المقدرة على قراءة النص. هذه النسخة توضع في المقام رقم “1”.
ثانيًا: تأتي بعدها النسخة المنقولة منها، أو المنقول عن هذه المنقولة عن نسخة المؤلف.
فتلامذته مثلًا كتبوا في مجلس علْمه ما قاله هذا المؤلِّف، ثم راجعوها عليه كما كان يحدث قديمًا، أو راجعها بعضهم على بعض، أي: عند الخروج من المحاضرة من عند هذا الأستاذ -يراجعون النسخة بعضهم على بعض؛ فتكون في الأهمية وفي الأولوية وفي الترتيب بعد نسخة المؤلِّف، وإذا لم تكن نسخة المؤلِّف موجودة، تكون هي المقدّمة.
ثالثًا: إذا لم نعثر على نسخة المؤلف نفسه أو النسخة التي نقلت عنها، فإنه ينبغي ترتيب ما لدينا من النسخ بحسب بعض الاعتبارات:
نقوم بعملية موازنة بين هذه النسخ الموجودة بين أيدينا، فتُقدّم النسخة الأقدم لأنها تكون قريبة من عهد المؤلف، بشرط الوضوح والكمال والخلوّ من الأخطاء. ثم تليها وقد تتقدّم عليها في بعض الأحيان النسخة الأوضح؛ حتى وإن كانت أحدث منها، إذا تحقّق لها الكمال والوضوح والخلو من الأخطاء.
ثم يكون من عوامل تقديم النُّسَخ بعضها على بعض: أن نجد لدينا نسخة حتى وإن كانت حديثة نسبيًّا، وليست قديمة، لكن قرأها بعض العلماء الثقات ووضعوا خطوطهم عليها، وبينوا أنهم قرءوها؛ فهذا يعطي هذه النسخة الحديثة نسبيًّا قيمة، وتقدَّم على ما هو أقدم منها إذا لم يكن عليها هذه الخطوط والقراءات والإجازات العلمية التي تؤكّد لنا نسبة الكتاب إلى صاحبه.
ثم إن هذه الكتب التي عليها خطوط العلماء -أي: قرأها فلان الفلاني من العلماء الكبار المعروفين في تاريخ ثقافتا العربية والإسلامية وفي مجالات تخصّصنا الكثيرة- قد يضع هؤلاء العلماء على هوامش هذه النسخة تعليقات علمية ربما لا يكتبونها في كتبهم، فيكون هذا المخطوط مفيدًا للمؤلّف الأصلي، ومفيدًا بذكر هذه التعليقات العلمية التي كتبها العلماء، وعلى الباحثين في سيرة هؤلاء العلماء العلمية أن يستفيدوا من هذه التعليقات التي كتبوها على كتب غيرهم من العلماء السابقين عليه.
وهذه الأمور في المفاضلة بين النسخ من حيث الأقدمية، ومن حيث الوضوح، أو من حيث وجود بعض قراءات العلماء عليها هذه كما نقول أمور تقريبية؛ فقد تكون نسخة الأقدم أقل وضوحًا أو كثيرة الأخطاء فتفقد ميزتها؛ لأنها قديمة.
وقد تكون النسخة الحديثة منقولة من نسخة أقدم، أو عليها خطوط بعض العلماء فتزداد بهذا قدرًا، ولا بد إذًا من مراعاة هذه الاعتبارات جميعًا، وتجميع المزايا لكل نسخة، والعيوب في كل نسخة، ثم نقارن بينها، وتعطى درجة. فهذه تأخذ مثلًا عندها أقدمية وكاملة وتامة، ولكنها ليست واضحة، أحدث منها قليلًا ولكنها واضحة، وعليها إجازات لبعض العلماء تعطى درجة.
ونقارن بين هذه النُّسخ لتقديم أكثرها من حيث توفر المزايا على غيرها من النسخ الأخرى. يقول الأستاذ عبد السلام هارون -وهو من العلماء الكبار الذين كتبوا في هذا المجال، وكتابه من أوّل ما كُتب في فنّ التحقيق ونشر الكتب باللغة العربية من العرب والمسلمين، بالطبع وجدت دراسات لبعض المستشرقين، ولعل بعضها أقدم من هذا التاريخ، ولكنها ليست مشهورة، ولا منشورة كثيرًا، ومن هنا فإن هذا الكتاب له أهمية:
“يجب مراعاة المبدأ العام على كل حال، وهو: الاعتماد على قدم التاريخ في النُّسخ المعدّة للتحقيق، ما لم يعارض ذلك اعتبارات أخرى تجعل بعض النسخ أولى من بعض في الثقة والاطمئنان كصحة المتن، ودقة الكاتب، وقلة الحذف والإسقاط -أي: ليس فيها سقط- بأن تكون النسخة مسموعة، قد أُثبت عليها سماع علماء معروفين أو مجازة قد كُتب عليها إجازات من شيوخ موثقين”.
فينبغي ملاحظة مثل هذا الأمر، ثم أضيف إلى ذلك:
بعض المسائل التي ينبغي ملاحظتها في جمع النسخ وترتيبها:
الملاحظة الأولى: لا ينبغي المبالغة في جمْع عدد كبير من النسخ؛ لأن ذلك ربما يتحوّل إلى عبء على التحقيق، ولا يكون مزية، ولكنه يكون عيبًا، ويؤدِّي إلى إثقال الهوامش التي سنتحدث عنها فيما بعد بكثير من الفروق بين النسخ بما لا يفيد المعنى.
ويمكن القول بصفة عامة إن عدد النُّسخ التي يعتمد عليها في التحقيق، ينبغي أن لا يزيد على خمس نسخ، بل ربما يمكن قبول ما هو أقل من ذلك. قد يكون التحقيق على ثلاث نسخ، أو على أربع نسخ، أو على نسختيْن، لكن لا يكون على نسخة واحدة كما سبق القول، بشرط أن تكون ذات أصول مختلفة، وليست منقولة من أصل واحد أو من بعضها، هذه ملاحظة.
الملاحظة الثانية: تعدّ النسخ المنقولة من نص واحد أو من بعضها بعضًا بمثابة نسخة واحدة. فعندي نسخة قديمة كُتبت مثلًا في بغداد في القرن الرابع الهجري، ثم وجدت نسخة منقولة عن هذه النسخة في القرن الخامس، ثم وجدت نسخة منقولة عن نفس هذه النسخة في القرن السادس، ثم وجدت نسخة منقولة عن نفس هذه النسخة في القرن السابع، هذه النسخ الأربعة تعدّ كلها نسخة واحدة، وهي النسخة الأصلية، ونتجاوز عما كتب منقولًا منها، لكن إذا وجدت نسخة مكتوبة في بغداد في القرن الرابع، ووجدت نسخة أخرى أصلية مكتوبة في الشام في القرن الخامس -أصلية ليست منقولة عن النسخة الأولى- ولكنها منقولة بإسناد يصل بها إلى المؤلف من طريق آخر غير طريق النسخة الأولى، ونحن نعرف هذا في علْم الحديث؛ لأن النُّسخ لها أسانيد أيضًا، فوجدت نسخة أصلية موجودة، مثلًا: في دمشق، أو نسخة أصلية موجودة في القاهرة، ثم وجدنا نسخًا موجودة، من هذه النسخ ما أخذ منها مباشرة لا يُحسب، لكن أعتبر النسخة الموجودة في بغداد أصلًا، والنسخة الموجودة في دمشق أصلًا، والنسخة الموجودة في القاهرة أصلًا، والنسخة الموجودة في تركيا أصلًا، والنسخة الموجودة في الأندلس أصلًا، فهذه خمسة أصول مختلفة، وليست راجعة إلى أصل واحد.
ويراعى هذا، فلا آخذ النسخ المنقولة نقلًا حرفيًّا من نفس النسخة، وأحسبها نسخًا جديدة، لا، لا تعدّ نسخة؛ لأنها منقول طبق الأصل وكأنها نسخًا من كتاب مطبوع. فلا تُعدّ النسخ عندئذٍ أصولًا، ولكن يجب اعتبار الأصول فقط. فإذا وجدنا عددًا مكرّرًا من النُّسخ مأخوذًا من أصل واحد، فإننا نقضي عن كل ما نُقل، ونكتفي بالأصل الأول ونستغني به عن كل الذي جاء في النسخ التالية، ويمكن لنا معرفة ذلك عن طريق التواريخ وعن طريق تصريح النّسّاخ بنقلهم من الأصل الذي كتبوا عنه.
فإذا توافق هذا؛ لأنه -كما قلت- في إسناد للنسخ فإذا كُتب فيها منقولة عن نسخة بغداد التي كتبها فلان الفلاني في القرن الرابع، فإني أعلم أن هذه انتهى فرعها، وليست أصلًا، فأنا أكتفي بالأصول، ولا ألقي بالًا كبيرًا للفروع.
الملاحظة الثالثة: إذا تعدّدت النسخ المخطوطة عن أصل واحد أو عن أصول كثيرة، فإنه يجري تقسيمها إلى مجموعات بحسب الأصول التي نُقلت عنها، وقد نجد لدينا نسختيْن ترجعان إلى أصل معيّن، على حين توجد ثلاث نسخ ترجع إلى أصل آخر، وأربع نسخ ترجع إلى أصل ثالث، فأقوم بعمل ما يسمّى شجرة، شجرة النسخ نسخة الأصل، خصائصها كذا موجودة في قرن كذا، كتبها فلان، ثم توجد منها ثانية: هذا فرع، ثم نقل عن هذا الفرع نسخة ثالثة، فهذا فرع ثان، فرع هذه الشجرة المأخوذ من الأصل الأول.
وأفعل ذلك بالنسبة للأصول الأخرى حتى أقوم بعملية مفاضلة بين الأصول، ثم بين الفروع إن احتجت إلى بعضها.
الملاحظة الرابعة: النسخة التي يجتمع لها أكبر قدر من المزايا تقدم على الجميع، وتسمَّى نسخة الأصل أو النسخة الأم، وهذه هي التي يتمّ جعلها أصلًا يؤخذ منها المتن الموجود في المخطوط، وتكون لها مكانة كبرى بحيث لا يصح مخالفتها إلَّا للضرورة القصوى، كأن يكون فيها جملة ساقطة أو كلمة مطموسة، فأعتمد على النُّسخ الأخرى.
لكن لا يصح أن أخالف نسخة الأصل إلَّا للضرورة. يكون لها هيبة؛ لأنها لم ترتقِ إلى الدرجة الأولى إلَّا لأن بها عددًا كثيرًا من الخصائص والمزايا التي تجعلها أهلًا لهذا التقديم؛ ومن ثم لا يصح أن يتقدّم عليها ما هو أحدث منها أو ما هو أنقص منها.
وإذا تمّ جمع النسخ وترتيبها، يكون الانتقال إلى المرحلة التالية، وهي: مرحلة تحقيق النص ومقابلته على النُّسخ الأخرى، عندئذٍ نكون قد انتهينا من المرحلة الأولى بخطواتها المختلفة، وهي: مرحلة ما قبل التحقيق. فإذا استكملنا الشروط، وقمنا بعملية جمْع النُّسخ، ثم بترتيبها، وموازنتها، وتحديد ما يكون أصلًا منها، فإنني عندئذٍ أنتقل إلى المرحلة الثانية، وهي: مرحلة تحقيق النص ومقابلته على النُّسخ الأخرى.
وهذه المرحلة تنقسم إلى خطوتين أساسيتيْن داخليتيْن:
أولاهما: نسْخ الكتاب من المخطوط باليد إلى أن نكتبه مرة أخرى -سنكتبه بأيدينا، أو نكتبه المطبعة إذا كنا نستطيع أن نفعل ذلك مباشرة، لكن سننقل من الأصل المخطوط إلى الكتاب الذي نودّ طباعته، إمّا بأيدينا، وإمّا بطرق الطباعة الحديثة. هذه الخطوة الأولى من هذه المرحلة.
الثانية: هي مرحلة المقابلة على النُّسخ الأخرى. كلّ مرحلة من هذه المراحل فيها عمل، وتحتاج إلى مجهود، وتحتاج إلى تنبّه واستيقاظ؛ لأنه بدأنا رحلة التحقيق التي سيترتّب عليها أن يكون هذا الكتاب محقّقًا تحقيقًا علميًّا أو لا يكون.
الخطوة الأولى تتضمن القيام بنسْخ الكتاب نسخًا دقيقًا؛ بحيث يكون المنسوخ صورة مطابقة للمخطوط، بلا زيادة ولا نقصان، ولا تقديم ولا تأخير، ولا تغيير ولا تعديل، ولا اختصار، ولا تهذيب. قد نجد ما يسمّى بتهذيب الكتب، هذا أمر آخر غير التحقيق؛ لأن المهذّب للكتاب أو الملخّص للكتاب يقوم بحذف شيء منه، حذف أسانيد، حذف بعض القصص، حذف بعض الموضوعات، قد لا يراها ملائمة للعصر الحديث، وهذا أمر يختلف عن التحقيق، يعتمد على التحقيق، ولكنه يختلف عن التحقيق، أي إن ما قام به الأستاذ عبد السلام هارون في تهذيبه لكتاب (الحيوان) للجاحظ، أو ما قام به بعض العلماء من تهذيب لكتاب: (مدارج السالكين) هذا أمر آخر، ونحن الآن في مجال التحقيق، يجب أن يكون المنسوخ صورة مطابقة تمامًا لنسخة الأصل أو “النسخة الأمّ” التي جرى اختيارها بناءً على ما توفّر لها من المواصفات والمزايا.
وينبغي أن نلاحظ بعض الإجراءات عند القيام بهذا النسخ. سنقوم أيضًا بإجراءات؛ لأن كل خطوة من هذه الخطوات فيها إجراءات داخلية.
(1) التّمرّس قبل الكتابة وقبل النقل، بقراءة النسخة أكثر من مرة لمعرفة طريقة كاتبها الأصلي في الكتابة. وتشتدّ الحاجة إلى هذا الأمر في المخطوطات التي لا يكون النقط والإعجام فيها متوفرًا. بعض المخطوطات القديمة وخصوصًا في عصورنا الأولى، لم تكن منقوطة، ولم يكن عليها أيّ إجراءات أو علامات تدل على الطريقة الصحيحة لقراءة هذا النص، وبعضها كُتب بخط مغربي أو بخط الأندلس؛ لأن خط الأندلس يختلف عن الخط المشرقي، أو نحو ذلك، أو الخط الفارسي الذي كُتب في فارس، أو بعض الخطوط التي ظهرت في العالم العربي والإسلامي وهي خطوط متعدّدة، في تلك المخطوطات لا يُعنى كاتبها عناية دقيقة بكتابة الحروف المتقاربة، فتبدو كأنها متشابهة: فالعين تشبه الغين، والغين تشبه الفاء، والدال والراء تتشابهان، والفاء والقاف تتشابهان، والجيم والحاء والخاء عند عدم النقط تتشابه، والدال والذال، ونحو ذلك من الحروف المتقاربة، فإذا كان الأمر على هذا النحو، فلا بد من التمرس بقراءة المخطوط أكثر من مرة قبل النسخ له؛ حتى يتمكّن المحقّق من معرفة الكيفية التي كتب بها الناسخ المخطوطة؛ لأن عدم معرفة هذه الكيفية بدقّة سيؤدّي إلى الخطأ في إقامة النص إقامة صحيحة معبِّرة عن المعنى المقصود لمؤلّفه.
فإذا وضعت الغين مكان الفاء، سيختلف المعنى، إذا وضعت “سئل” مكان “سأل” سيختلف المعنى، إذا وضعت أي كلمة متشابهة: “متكافئ” غير “متكافأ”، أو نحو ذلك: الهمزات، والياءات … إلخ. لا بد أن أعرف كيف كتب الناسخ الأصلي هذا المخطوط، قبل أن أبدأ أنا في نسخ هذا الكتاب؛ حتى أتعوّد على طريقته هو في كتابته؛ لكي أتمكّن من القراءة الصحيحة للنص. ويحتاج ذلك كما هو واضح
-وكما ينبغي أن يكون مفهومًا، إلى صبر ومراس، كما يحتاج من الناحية العلمية إلى النظر في بعض المؤلّفات التي عُنيت بذكر بعض الإرشادات النافعة في هذا المقام.
لا يكفي أن يقول: أنا أريد أن أحقّق قبل أن يكون محقّقًا، لا بد أن يتعلّم، وقد خُصصت كتب بأكملها لهذه المهمة، ولحل الرموز التي لجأ إليها القدامى عند كتابتهم للمخطوطات، كالرموز التي وضعوها للفرق بين التشديد والتخفيف، أو لتصحيح ما وقعوا فيه من خطأ، أو للاستغناء عن كلمة، أو جملة زائدة، أو لإضافة كلمة أو جملة زائدة سقطت عند الكتابة، وقام الناسخ باستداركها فيما بعد، وهكذا.
وهذه لها طُرق تُتعلّم من الكتب التي عُنيت بكتب التحقيق. وهذا العمل ضروري ومهمّ ولا بد من التدرب عليه، مع الاستعانة بخبرة الخبراء، وبالكتب المؤلفة في هذا الشأن. هذا الإجراء رقم “1”.
(2) تكون الكتابة عند النّسخ على مسافات متباعدة، فإذا كان يكتب على ورق مسطور فليكتب سطرًا ويترك سطرًا خاليًا ليتمكّن من وضع أرقام الهوامش التي سيضعها فيما بعد، أو ليتدارك أيّ نقص يقع فيه المحقِّق عند النسْخ. ربما هو نفسه ينسى، أو يتحوّل نظره عن كلمة، من كلمة إلى كلمة من سطر إلى سطر، فيجد عنده مسافة يستطيع أن يكتب فيها هذا الذي ترَكه من غير أن يغيّر الأوراق، فيقتصد الوقت، ويقتصد المجهود.
(3) إذا كان المخطوط الأصليّ غير منقوط، فعلى المحقّق أن يقوم بنقط هذا النص كما ينبغي، مراعاة لقواعد الكتابة الحديثة؛ لأننا نقدمه للقارئ الحديث؛ وينطبق ذلك على سبيل المثال على ألِفات المدّ التي كان يُستغنَى عنها قديمًا مثل: “إسحاق” كانت تكتب قديمًا هكذا “إسحق”. ونحن نستثني من هذا الكلام ما يتعلّق بالقرآن الكريم؛ لأن القرآن الكريم له طريقة معيّنة في الطباعة يُلتزم فيها بقواعد الخط العثماني المتوارثة من عهد سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه.
وهكذا لا بد من مراعاة قواعد الكتابة الحديثة، إلَّا فيما يتعلّق بالقرآن الكريم، أو إلَّا فيما يقصده المؤلِّف قصدًا. ربما المؤلف يقصد أن يكتب بطريقة معيّنة، فينبغي الحفاظ عليها.
(4) ليس من حق الناسخ أن يغيّر أسلوب المخطوط، أو أن يُحلّ كلمة مكان كلمة أخرى؛ يقول: “هذه لا تليق بالمؤلّف! وأنا أستغرب كيف كتبها المؤلف!”. هذا ليس من شأنك! عليك أن تكتبها كما هي. وقد يلجأ بعض الكتّاب القدامى إلى كتابة بعض الكلمات العامّيّة الشائعة في عصرهم، فلا ينبغي للمحقِّق أن يكتب بدلًا منها كلمة فصحَى، أو كلمات فصحَى. وربّما يخطئ صاحب الكتاب الأصليّ في نسبة نص أو بيت من الشِّعر إلى صاحبه، فلا يحق للمحقِّق أن يتصرف من تلقاء نفسه بتصحيح ذلك الخطأ، وإذا فعل ذلك فلا بد من الإشارة إلى هذا التّصرّف في هامش التحقيق الذي يقوم به.
فمثلًا: أنّ هناك بيتًا من الشِّعر هو لامرئ القيس، هو أضافه لأبي تمام مثلًا، فنصحّح إذا استطعنا، ولكن لا بد أن نشير في الهامش أنّ المؤلف الأصلي أخطأ في نسبة هذا البيت إلى صاحبه، ولم يكن يلزم قديمًا أن يكون النّسّاخ من أهل العلْم، ولم يكتب كلّ المؤلفين القدامى مؤلّفاتهم بأنفسهم، بل كان النّسخ مهنة من المِهن التي يقوم بها بعض الناس مقابل أجر، وربما أخطأ هؤلاء أخطاءً نحوية في الكتابة.
ولا يصحّ القيام بالتصويب النحوي إلَّا إذا أشرنا إليه، إذا تمّ ذلك فلا بد من الإشارة إليه في الهامش حتى نبيّن الطابع العقلي للمؤلِّف، ومستوى إجادته للّغة، ومستوى قدرته على التعبير عن أفكاره باللغة العربية. ويمكن إبقاؤه على ما هو عليه من الخطأ مع الإشارة في الهامش إلى الصّواب.
بعض الناس قد يلجأ إلى هذا -بأن النص خاطئًا- ويقول: هذا هو المؤلّف، والصواب كذا؛ لكن أفضل من هذا أن نصحّح المتن في أعلى، ثم نشير في الهامش إلى أنّ المؤلف كتبه خطأ، وقد اخترنا الكتابة الصحيحة الموافقة للكتابة، وللقواعد العربية.
وربما أخطأ الناسخ في اسم “علي” أو في تاريخ حدث من الأحداث، أو واقعة من الوقائع، فلا يصح التغيير؛ لأن المقصود من التحقيق: أن ننقل النص نقلًا صادقًا كما ترَكَه مؤلِّفه، بقدْر الإمكان. وهكذا لا يصح تغيير شيء من الأخطاء النحوية أو الأسلوبية، أو الأعلام، أو التاريخ، أو نحوها.
إلا ما يكون في النص من خطأ في الآيات القرآنية، أو في الأحاديث النبوية، إذا كان الحديث مرويًّا بهذه الرواية وحْدها، فهذه لا يصح كتابتها على ما وردت عليه من الخطأ، بل يجب تغييرها مع الإشارة في الهامش إلى أنها كُتبت خطأ.
مسألة: بعض الناس يتصوّر أنه أصبح قيِّمًا على الكتاب، وأنه ينبغي أن يدافع عن المؤلِّف، وأنّ المؤلِّف إذا وقع في خطأ عليه هو أن يقوم هو بهذا التصحيح من تلقاء نفسه دون إشارة إلى هذا الخطأ. فأي عمل يكون فيه تغيير للنص لا بد من الإشارة إليه في هامش الكتاب.
بعض الناس يقول هذا نوع من التّشدّد، وربما يكون فيه إثقال على الخلْق، وربما يكون فيه تشويه لبعض الصوَر القديمة لبعض العلماء، ولكننا نقول: إن الالتزام بالنص التزامًا دقيقًا يجب أن يكون ملحوظًا، وإن التصرف بأي وجه من أوجه التصرف -ما عدا ما يتعلّق بتصويب الآيات القرآنية- يجب أن يكون ممنوعًا.
لا يصح أبدًا التّدخّل؛ لأن التصرف في النص يعُدّ تصرفًا في فكر المؤلف، ولهذا لا يجوز التعديل أو التغيير إلَّا عند الضرورة القصوى مع الإشارة إلى ذلك عند وقوعه؛ حتى يعلم القارئ للنص ما وقع فيه من التغيير.
وينبغي عدم التسرع في هذه المسألة، لماذا؟ لأنّ اقتراح قراءة أخرى للنص قد يكون راجعًا إلى عدم فهْم المحقّق للنص فهمًا صحيحًا؛ هو نفسه ليس قادرًا على فهم المعنى. ولهذا يجب التروي مع بذل الجهد في فهم المعنى المراد من النص، وعدم التسرع إلى أيّ نوع من أنواع التغيير، إلَّا بعد استنفاد كل الوسائل الممكنة لقراءة النص، كما هو هذا كلّه عند نسخنا للنص من كونه مخطوطًا إلى كونه مكتوبًا كتابة حديثة أو مطبوعًا على “الكمبيوتر” مثلًا تمهيدًا للقيام بمثل هذا الأمر.
(5) يجب أن يحدّد في النص المنسوخ بداية كلّ ورقة من المخطوط وجهًا وظهرًا، لا بدّ أن يكتب هذا على الهامش، ويشير بالواو مثلًا إلى الوجه، وبالظاء إلى الظهر، أو يكتب (أ) و(ب)، وسيلة ما، لا بد أن يكتب مثل هذا الأمر. وعليه أن يرقِّم المخطوط إذا لم يكن المخطوط مرقّمًا، ويشير عندئذٍ إلى أنه هو الذي قام بهذا الترقيم؛ وبذلك يسهل الرجوع إلى النص نتيجة لهذا التحديد والترقيم.
(6) إذا انتهى المحقّق من نسْخ الأصل، فعليه أن يقوم -وهذه مرحلة أخرى مهمّة- بمقابلة ما نسَخه مع الأصل، ليتأكّد من أنه نقَل النص كما هو دون تغيير أو تقديم. ولعل بعض المحقّقين لا يلتفت إلى إجراء هذه المقابلة مع أن هذا موجود في علْم الحديث. وعلماء الحديث هم الذين وضعوا لنا هذه القواعد في كتبهم الدقيقة، نبّهوا على هذا منذ زمن بعيد. عندما نرجع إلى القاضي عياض، أو لابن الصلاح، أو غيرهما من هؤلاء العلماء الذين عُنوا بهذه المسائل المنهجية، نجد أنهم كانوا يُراجعون الكتب ويحرصون على ذلك حرصًا شديدًا.
وكانوا يقولون: إنّ الكتاب الذي لم يراجَع كأنه لم يُكتَب؛ والسبب في ذلك أن النظر قد يتحوّل بمعنى: أن أقرأ مثلًا كلمة في السطر الرابع، والمؤلّف أعاد هذه الكلمة في السطر السادس فيتحوّل نظري من السطر الرابع إلى السطر السادس، فأكون قد تركت سطريْن كامليْن. نفس الكلمة كرّرت، هذا يحدُث، ونحن بشَر، ويقع منّا الخطأ، ويقع منا السهو. قد أكون أكتب، ثم يأتي لي هاتف، أو أخرج، أو يأتي لي استدعاء أو نحو ذلك.
فإذا أتيت إلى المخطوط مرة ثانية، لا تقع عيني على النقطة التي تركت الكتابة عندها، وعندئذٍ ربما أقع في خطأ أنني أنسى بعض الكلمات أو بعض الجُمل، أو أقفز بعض السطور. فلا بد من إجراء مقابلة أقوم بها بين النّصّ الذي كتبته، وبين المخطوط الأصلي؛ حتى ننجو من تحوّل النظر، وننجو من السهو عند النقل، وننجو من الوقوع من ترك بعض الأشياء الموجودة في النص الأصلي، ومن هنا كانت المقابلة ضرورية، تحقيقًا لقدر أكبر من الدِّقّة، وقيامًا بأمانة العلْم، ووفاءً بحق الشهادة التي ينبغي أداؤها على أكمل وجه؛ لأن هذا شهادة: أنا أنقل كلام المؤلِّف، وأقول فلان الفلاني يقول كذا وكذا في كتابه، فإذًا لا بد أن أراعي الأمانة بكل دقّة.
(7) ينبغي أن يُعنى المحقِّق عند النّسْخ عناية بالغة بالآيات القرآنية من جميع الوجوه حتى تأتي الآيات صحيحة في نصّها وفي ترقيمها، وفي اسم السورة التي تُعزى الآية إليها، ولا يصحّ الاعتماد في ذلك على أحَد. فأحيانًا بعضهم ينقل الآية من كتاب، ويكون صاحب الكتاب الأصلي قد أخطأ، أو اعتمد على (المعجم المفهرس) وهو لا يحفظ القرآن الكريم، فتكون الآية متشابهة فينسب الآية إلى موضع غير موضعها في القرآن الكريم، بل عليه أن يتأكّد بذلك بنفسه دون اعتمادٍ على الذاكرة، فإن الذاكرة قد تخون، وهي تخون فعلًا، والآيات قد تتشابه، ولا يوجد بينها إلا فرْ ق فيه حرف.
إذًا لا بد أن أرجع إلى المصحف بنفسي دون اعتماد على الآخرين، فأرجع إلى المصحف الشريف، أو إلى (المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم) لكي أرجع -من بعد تحديده الموضع- إلى المصحف مرة ثانية. ولا يصح الاعتماد حتى على (المعجم المفهرس) فيما يتعلّق بالتدقيق فيما يتعلّق بالقرآن الكريم. إذا دلّني (المعجم المفهرس) على موضع الآية من القرآن، فعليّ أن أرجع مرة أخرى للقرآن الكريم لأتأكّد من موضع الآية فيه، ومن رقمها دون أيّ زيادة، ودون أيّ نقصان، أو غير ذلك من الوسائل المُعينة على الكتابة الصحيحة دون الوقوع في أي أخطاء.
ولا بد أن أضيف إلى ذلك -فيما يتعلّق بالقرآن الكريم- مراعاة القراءات؛ لأن الناسخ الأصلي قد يكون مغربيًّا فيتبع مثلًا قراءة ورش، ونحن في المشرق نتبع قراءة حفص، فيختار القراءة المغربيّة، فيظن المشرقيّ أنه أخطأ. لا بد أن أرجع إلى كتب القراءات قبل أي تعديل في الآيات القرآنية؛ لأن القراءات معتبَرة إذا كانت من القراءات الصحيحة التي تعارف عليها العلماء، وليست من القراءات الشاذة. وحتى لو كانت من القراءات الشاذة، وأوردها المؤلف، فلا بدّ أن أعرف لماذا أوردها. ربما أوردها لحكمة تتعلّق بالعلْم، وربما أوردها لكي يردّ عليها، وربما أوردها لكي يقول: إنها من القراءات الشاذة؛ فلا ينبغي التّسرّع فيما يتعلّق بالقرآن الكريم، وعلينا أن نتحلّى بأكبر قدر من التّروِّي فيما يتعلّق بالقرآن الكريم كتاب الله العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.