(المقابسات) و(الإمتاع) و(المؤانسة) لأبي حيان التوحيدي
وإذا تركنا الفارابي وانتقلنا إلى نموذج آخر ودائرة أخرى من دوائر تأثر النقد الأدبي عند العرب بالنقد اليوناني، فإننا نشير إلى ما جاء في كتب أبي حيان التوحيدي: (المقابسات) و(الإمتاع) و(المؤانسة).
وقد كان أبو حيان التوحيدي ذا ذوق دقيق في إدراك الجمال في النثر والشعر، وكان ذا أسلوب مميز، وكان يعيش في بيئة تجمع الكثير من الفلاسفة، وقد سأل هؤلاء الفلاسفة الذين كانوا يحيطون به في القرن الرابع الهجري عن بعض المسائل، والأسئلة والإجابات تحمل هذا التأثر بما كان عند اليونان من فلسفة وآراء في النقد.
فمن هذه الأسئلة مثلًا: سؤال عن الشعر والنثر وأيهما أفضل؟ وكان أبو سليمان المنطقي وأبو عابد الكرخي صالح بن علي وعيسى الوزير وابن طرارة الجريري وابن هند الكاتب ممن يفضلون النثر، وتتفاوت حججهم بين السطحية والعمق، والذين يفضلون الشعر هم في الغالب من طبقة الشعراء، وهم يرون أن الشعر صناعة قائمة بذاتها، بينما النثر -أي: الكلام- يستطيعه كل إنسان.
ويسأل أبو حيان أستاذه أبا سليمان المنطقي عن أشد الفنين -النثر والشعر- تأثيرًا في النفس، ويأتي جواب أبي سليمان شبيهًا بما قاله عيسى الوزير حين قال: “”النظم أدل على الطبيعة لأن النظم من حيز التركيب، والنثر أدل على العقل لأن النثر من حيز البساطة، وإنما تقبلنا المنظوم بأكثر مما تقبلنا المنثور؛ لأنا للطبيعة أكثر منا بالعقل، والوزن معشوق للطبيعة والحس؛ ولذلك يفتقر له عندما يعرض استكراه في اللفظ، والعقل يطلب المعنى؛ فلذلك لا حظ للفظ عنده وإن كان متشوقًا معشوقًا”، وكان مفهوم التركيب والبساطة أو التكثر والوحدة مفزع أبي سليمان المنطقي، كلما سئل عن تصوره لأثر الشعر والنثر.
ولذلك نجده -هذا كلام الدكتور إحسان عباس- يلجأ إلى هذا المفهوم عندما أعاد عليه التوحيدي السؤال في صيغة أخرى، وقال: لم لا يطرب النثر كما يطرب النظم؟ فقال في الجواب: لأننا منتظمون -أي ذوو تركيب- فما لاءمنا أطربنا، وصورة الواحد -أي الوحدة- فينا ضعيفة ونسبتنا إليه بعيدة.
وخلص المنطقي من هذا إلى تعليل الإعجاز في القرآن؛ بأن صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلمغلبت عليه الوحدة فلم ينظم من تلقاء نفسه، ولم يقتطعه -أي الشعر- ولا ألقى إلى الناس عن القوة الإلهية شيئًا على ذلك النهج المعروف، بل ترفع عن كل ذلك، وخص في عرض ما كانوا يعتادونه ويألفونه بأسلوب حير كل سامع”.
ومن مظاهر هذا التأثر الواضح بالفلسفة أيضًا -وهو واضح في هذا الكلام الذي سبق- أن التوحيدي يسأل عن صلة جرس اللفظ بالحس وصلة المعنى بالعقل، يسأل هذا السؤال لرجل اسمه أبو بكر القومسي وهو أحد الفلاسفة، فيقول له: “ما معنى قول بعض الحكماء: الألفاظ تقع في السمع فكلما اختلفت كانت أحلى، والمعاني تقع في النفس فكلما اتفقت كانت أحلى؟”، فكان جواب القومسي يدور على مفهوم التبدد أي: التكثر والتوحد، فالحس من صفاته التبدد وهو تابع للطبيعة، فاختلاف الألفاظ يوافق خاصة التكثر في الحس، والنفس متقبلة للعقل، فكلما ائتلفت حقائق المعاني عند ورودها على العقل وافقت نزعة التوحد، وكانت أنصع وأبهر.
ومن مظاهر هذا التأثر بفلسفة اليونان أيضًا ما جاء في كتاب (المقابسات) لأبي حيان عن أستاذه أبي سليمان المنطقي في تحديد أنواع البلاغة، وجعلها سبعة أضرب، هي: بلاغة الشعر، وبلاغة الخطابة، وبلاغة النثر، وبلاغة المثل، وبلاغة العقل، وبلاغة البديهة، وبلاغة التأويل، وهذا ما قاله أبو سليمان.
“فأما بلاغة الشعر فأن يكون نحوه مقبولًا، والمعنى من كل ناحية مكشوفًا، واللفظ من الغريب بريئًا، والكناية لطيفة، والتصريح احتجاجًا، والمؤاخاة موجودة، والمواءمة ظاهرة.
وأما بلاغة الخطابة فأن يكون اللفظ قريبًا، والإشارة فيها غالبة، والسجع عليها مستوليًا، والوهم في أضعافها سابحًا، وتكون فقرها قصارًا، ويكون ركابها شوارد إبل.
وأما بلاغة النثر فأن يكون اللفظ متناولًا، والمعنى مشهورًا، والتهذيب مستعملًا، والتأليف سهلًا، والمراد سليمًا، والرونق عاليًا، والحواشي رقيقة، والصفائح مصقولة، والأمثلة خفيفة المأخذ، والهوادي متصلة، والأعجاز مفصلة.
وأما بلاغة المثل فأن يكون اللفظ مقتضبًا، والحذف محتملًا، والصورة محفوظة، والمرمى لطيفًا، والتلويح كافيًا، والإشارة مغنية، والعبارة سائرة.
وأما بلاغة العقل فأن يكون نصيب المفهوم من الكلام أسبق إلى النفس من مسموعه إلى الأذن، وتكون الفائدة من طريق المعنى أبلغ من ترصيع اللفظ وتقفية الحروف، وتكون البساطة فيه أغلب من التركيب، ويكون المقصود ملحوظًا في عرض السنن، والمرمى يتلقى بالوهم لحسن الترتيب.
وأما بلاغة البديهة فأن يكون انحياش اللفظ للفظ في وزن انحياش المعنى للمعنى، وهناك يقع التعجب للسامع؛ لأنه يهجم بفهمه على ما لا يظن أنه يظفر به كمن يعثر بمأموله على غفلة من تأميله، والبديهة قدرة روحانية في جبلة بشرية كما أن الروية صورة بشرية في جبلة روحانية.
وأما بلاغة التأويل فهي التي تحوج؛ لغموضها إلى التدبر والتصفح، وهذان يفيدان من المسموع وجوهًًا مختلفة كثيرة نافعة، وبهذه البلاغة يتسع في أسرار معاني الدين والدنيا، وهي التي تأولها العلماء بالاستنباط من كلام الله عز وجل وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم”.
وهذا الكلام يُشعر بكثرة التقسيم والتفصيل دون اللجوء إلى التطبيق، ويتضح فيه عمق التفكير الجانح إلى التفلسف أيضًا.
ومن ملامح هذا التأثر أيضًا ما نجده في تأثر “مسكويه” بـ”أفلاطون” إلى جانب تأثره بـ”أرسطو”، فقد تبنى رأي “أفلاطون” فيما يجرّه الشعر من ضرر في تربية الناشئين، وخاصة ذلك اللون من الشعر الفاحش المليء بالأكاذيب، المشجع على اللذات، كبعض شعر امرئ القيس والنابغة وأشباههما.
يقول “مسكويه” بعد أن يثني على من اتفق له أن يربى على أدب الشريعة وكتب الأخلاق والحساب والهندسة، ويتدرج إلى صدق القول وصحة البرهان: “ومن لم يتفق له ذلك في مبدأ نشوئه، ثم ابتلي بأن يربيه والداه على رواية الشعر الفاحش، وقبول أكاذيبه، واستحسان ما يوجد فيه من ذكر القبائح ونيل اللذات، كما يوجد في شعر امرئ القيس والنابغة وأشباههما، ثم صار بعد ذلك إلى رؤساء يقربونه على روايتها وقول مثلها ويجزلون له العطية، واشتغل بها عن السعادة التي أهل لها -فليعد جميع ذلك شقاء لا نعيمًا، وخسرانًا لا ربحًا”.
ومن ملامح هذا التأثر ودوائره أيضا ما نجده عند الحاتمي في رسالته (الحاتمية) وربطه بين الفلسفة والشعر، واستخراجه لكثير من الأبيات الحكمية التي وردت في شعر المتنبي، وردها إلى أفكار للفيلسوف اليوناني “أرسطو”.
وقد بلغت الأقوال التي أوردها الحاتمي في هذا المجال مائة، وهي على تفاوتها وتكرار بعضها تفيد شيئًا واحدًا -كما يقول الدكتور إحسان عباس في كتابه (تاريخ النقد الأدبي عند العرب)- هذا الشيء الواحد يعد تحصيل حاصل في حقيقة الأمر، وهو أن أبا الطيب كان يعيش في جو الفكر الفلسفي، سواء استمد ذلك من تجربته العلمية أو من ثقافته، ومن شاء أن يزيد عدد تلك الأقوال فعل.
ومن الشواهد التي وردت في هذه الرسالة، وهي تدل على التقاء الحكمة النثرية وبيت الشعر، والتقاء الأدب العربي مع الفلسفة اليونانية قول المتنبي:
وإذا كانت النفوس كبارًا | * | تعبت في مرادها الأجسام |
فهذا البيت يتضمن فكرة، ردّها الحاتمي إلى قول أرسطو: “إذا كانت الشهوة فوق القدرة؛ كان هلاك الجسم دون بلوغها”.
ومن ذلك قول المتنبي:
ومِن جاهل بي وهو يجهل جهله | * | ويجهل علمي أنه بي جاهل |
فالحاتمي يرد الفكرة في هذا البيت إلى قول أرسطو: “الذي لا تعلم علته؛ لا يوصل إلى برئه”.
ومن الشواهد التي لم يوردها الحاتمي، وذكر الدكتور إحسان عباس أنها يمكن أن ترد إلى كلام “أرسطو”، أو إلى كلام غيره من فلاسفة اليونان قول المتنبي:
أعيذها نظرات منك صادقة | * | أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم |
فيمكن رد الفكرة في هذا البيت إلى قول أفلاطون: “الفقير إذا تشبه بالغني في الهيئة؛ كان مثل الوارم الذي يوهم الناس أنه سمين”.
ومن مظاهر تأثر الحاتمي بالفكر اليوناني ما جاء في رسالته أيضًا عن المفاضلة بين النظم والنثر، وهي قضية شغلت المفكرين في عصره، وكان الحاتمي من القائلين بتفضيل النظم على النثر إذ يقول: “وأولى هذين بالمزية والقدم المنظوم؛ فإنه أبدع مطالع وأنصع مقاطع، وأطول عنانًا وأفصح لسانًا، وأنور أنجمًا وأنفذ أسهمًا، وأشرد مثلًا وأسير لفظًا ومعنًى”.
ويتحدث الحاتمي عن المنظوم فيميزه بالرشاقة في الانسجام وبالخلود، وبأنه أجمع للبديع، وأبلغ أثرًا في النفس من المنثور، غير أن النثر خير منه إذا جاء الشعر غير معتدل النظم ولا متناسب القسمة ولا مقبول العبارة، وكانت معانيه بعيدة وألفاظه شريدة، بل إن المنثور مطلق من عقال القوافي، فإذا صفا جوهره وطاب عنصره ولطفت استعارته ورشقت عبارته؛ كاد يساوي المنظوم.
ومن القضايا التي كانت مثارة في بيئة الفلاسفة والنقاد مسألة الكذب في الشعر، والتي أثارها فلاسفة اليونان أيضًا، وهذه القضية لها صلة بالفكر الفلسفي، وحين تحدث الحاتمي عن الإغراق -وهو ما يسميه بعضهم الغلو- قرر أن العلماء في هذا مختلفون؛ فبعضهم يرون أبيات الغلو من إبداع الشعر الذي يوجب له الفضيلة، اعتمادًا على ما قيل: أحسن الشعر أكذبه، وهذا الفريق يقول: إذا أتى الشاعر من الغلو بما يخرج به عن الموجود ويدخل في باب المعدوم؛ فإنما يراد به المثل وبلوغ الغاية، وهذا الكلام موجود في كلام فلاسفة اليونان عند كلامهم عن اللامعقول أو المستحيل.
وهناك فريق آخر يعيب هذا المذهب لمنافاته الحقيقة، والحاتمي لا يرى بأسًا من إيراد نماذج من الغلو في رسالته، ويسمي كل بيت منها أبدع بيت قيل في الإغراق، أي: الغلو، دون أن يكون منتميًا إلى أحد الفريقين بوضوح؛ الفريق الذي يذم الغلو أو الذي يقبله ويرضاه، ففي هذا كله ما يدل على أن الأثر اليوناني في النقد الأدبي عند العرب كانت له دائرة واسعة ومظاهر كثيرة.
ولكننا مع ذلك نقول: إن هناك نقادًا اعتصموا بذوقهم من أن ينجرفوا أو يندفعوا اندفاعًا كبيرًا نحو التنظير والتحديد المنطقي، وبعضهم وازن بين استفادته من الفلسفة والمنطق في وضع النظريات والحدود والرسوم، ومع ذلك أتى بالشواهد والأمثال مستخدمًا ذوقه في مرونة وبصيرة، فسلم من أن يتحول نقده إلى علم بارد جاف.
وهذا الأثر الفلسفي -أو الأثر اليوناني- في النقد امتد في الحقيقة ليصل إلى نقاد الأندلس، وأوضح مثال لذلك هو كتاب (منهاج البلغاء وسراج الأدباء) لحازم القرطاجني.
ومن الذين استطاعوا المواءمة بين استفادتهم من الثقافة الوافدة وذوقهم؛ فجاءت كتاباتهم معتدلة ومتوازنة، ابن رشيق القيرواني في كتابه المشهور والمعروف بـ(العمدة).