Top
Image Alt

المقارنة بين الصحيحين

  /  المقارنة بين الصحيحين

المقارنة بين الصحيحين

المقارنة بين الصحيحين للإمامين الجليلين البخاري ومسلم -رحمهم الله تعالى-:

قبل أن نبدأ في هذه الدراسة لا بد أن يعرف القارئ الكريم أنه ليس الهدف من هذه الدراسة انتقاص أحد الكتابين؛ فالكتابين مَوْسُومَانِ بالصحة، والأمة قد تلقّت الكتابين بالقبول، واتّفقوا على أن أصحّ الكتب بعد كتاب الله عز وجل الصحيحين: (صحيح الإمام البخاري)، و(صحيح الإمام مسلم)؛ فالأمر يدُور إذًا بين صحيح وأصحّ، وليس بين صحيح وضعيف. قد يقول قائل:

وما فائدة هذا البحث إذا كانت أحاديث الصحيحين كلها صحيحة، وأن الأمر يدور بين صحيح وأصح، وكلها صالحة للاحتجاج بها؟

نقول: إنما تظهر فائدة هذا البحث عند التعارض والترجيح، فإذا تعارض حديث في (صحيح الإمام البخاري) مع حديث في (صحيح الإمام مسلم) ولم يمكن الجمع بين الحديثين بوجهٍ من وجوهِ الجمع، ولم يُعرف أيّهما أسبق من الآخر، أي: لم يُعرف التاريخ الذي قيل فيه كل حديث لنصير إلى الناسخ والمنسوخ، عند ذلك نقدّم الحديث الذي أخرجه الإمام البخاري على الحديث الذي أخرجه الإمام مسلم.

كما نريد أن ننبّه القارئ إلى أن الحكم إنما هو بالنسبة للمجموع، وليس بالنسبة للجميع؛ فترجيح (صحيح الإمام البخاري) على (صحيح الإمام مسلم) إنما المراد به ترجيح الجملة، فليس معنى هذا الترجيح: أن كلّ حديث في (صحيح الإمام البخاري) أصحّ من كل حديث في (صحيح الإمام مسلم).

قال الزركشي: ومن هنا يُعلم أن ترجيح كتاب البخاري على كتاب مسلم إنما المراد به ترجيح الجملة، لا كل فرد من أحاديثه على كل فرد من أحاديث الآخر، كما ينبغي أن يعلم القارئ أن أحاديث الصحيحين، وإن كانت كلها صحيحة، بل لقد جمع الشيخان في صَحِيحَيْهِمَا أصحّ الأحاديث الصحيحة، غير أن أحاديث الصحيحين؛ بل أحاديث (صحيح الإمام البخاري) ليست  في درجة واحدة من الصّحة، وإنما هي متفاوتة في الصحة. وهذا التفاوت يرجع إلى مدى تمكّن الحديث من شروط الصحة؛ فأحاديث الصحيحين، وإن كانت كلها صحيحة، إلا أنّها تدور بين صحيح وأصحّ. اختلف العلماء في ترجيح أحد الكتابين على الآخر، وهذه مذاهبهم:

الرأي الأول: مذهب الجمهور:

ذهب جمهور العلماء إلى ترجيح (صحيح الإمام البخاري) على (صحيح الإمام مسلم) -رحمهم الله تعالى-.

أدلّة الجمهور الإجمالية:

قال الإمام النووي: اتفق العلماء -رحمهم الله- على أن أصحّ الكتب بعد القرآن العزيز الصحيحان للبخاري ومسلم، وتلقّتهما الأمة بالقبول، وكتاب البخاري أصحّهما، وأكثرهما فوائد ومعارف ظاهرة وغامضة. وقد صحّ أن مسلمًا كان ممّن يستفيد من البخاري، ويعترِف بأنه ليس له نظير في علم الحديث. وهذا الذي ذكرناه من ترجيح كتاب البخاري هو المذهب المختار الذي قاله الجماهير، وأهل الإتقان، والغَوْص على أسرار الحديث.

قال الحافظ ابن حجر: والكلام في نقل كلام الأئمة في تفضيل (صحيح الإمام البخاري) على (صحيح الإمام مسلم) كثير، ويكفي منه اتّفاقهم على أن البخاري كان أعلم بهذا الفن من مسلم، وأن مسلمًا كان يشهد له بالتقدم في ذلك، والإمامة فيه، والتفرّد بمعرفة ذلك في عصره، حتى هجر  من أجله شيخه محمد بن يحيى الذهلي. ثم قال الحافظ في شرح “النخبة”: اتفق العلماء على أن البخاري كان أجلّ من مسلم في العلوم، وأعرف بصناعة الحديث منه، وأن مسلمًا تلميذه، ولم يزل يستفد منه، ويتبع آثاره حتى قال الدارقطني: لولا البخاري لما راح مسلمٌ ولا جاء.

 أدلّة الجمهور التفصيلة على أن (صحيح الإمام البخاري) أصحّ من (صحيح الإمام مسلم) رحمهما الله تعالى:

بعد أن ذكرنا أدلة الجمهور الإجمالية على أرجحيّة (صحيح الإمام البخاري) وتقديمه في الأصحية على (صحيح الإمام مسلم)، وقبل أن نذكر الأدلّة التفصيلة يجب علينا أن نتذكر شروط الحديث الصحيح المتفق عليها، وهي:

الشرط الأول: اتصال الإسناد.

الشرط الثاني: عدالة الرواة.

الشرط الثالث: ضبط الرواة.

الشرط الرابع: السلامة من الشذوذ.

الشرط الخامس: السلامة من العلة القادحة.

وسبق أن تحدّثنا عن هذه الشروط بالتّفصيل، كما قلنا: إن مدار الحديث الصحيح يرجع إلى مدى تمكّن الحديث من شروط الصحة، وعند التأمّل وإمعان النظر في (صحيح البخاري)، و(صحيح مسلم) نجد أن (صحيح الإمام البخاري) أشدّ اتصالًا، وأتقن رجالًا، وأن الأحاديث المُنْتَقَدَة على البخاري أقلّ من الأحاديث المُنْتَقَدَة على الإمام مسلم، وإن لم تكن هذه النقود قادحة.

الشرط الأول: اتصال الإسناد:

سبق أن عرفنا الإسناد، وقلنا: المراد باتّصال الإسناد إذا نظرنا إلى أحاديث صحيح الإمام البخاري وجدنها أشدّ اتصالًا من أحاديث صحيح الإمام مسلم؛ لأن الإمام البخاري لا يكتفي بالمعاصرة، وإمكان اللقاء بين الراوي وشيخه، حتى يكون  الإسناد متصلًا؛ بل لا بد من تحقّق اللقاء بين الراوي وشيخه، وثبوت السماع ولو مرة واحدة.

واكتفى الإمام مسلم بالمعاصرة، وإمكان اللقاء بين الراوي وشيخه، ولم يشترط تحقّق اللقاء، وثبوت السماع، كما شرط ذلك البخاري بشرط ألّا يكون الراوي مدلّسًا.

وهذا يُرجّح (صحيح الإمام البخاري) على (صحيح الإمام مسلم)، وإن كان ما شرطه مسلم كافيًا في الحكم بالاتصال، إلا أن شرط البخاري أشدّ وأوضح في الاتصال.

الشرط الثاني والثالث: العدالة والضبط:

وهذان الشرطان يتعلّقان بالرّاوي، إذا نظرنا إلى الرجال الذين خرّج لهم الإمام البخاري في صحيحه؛ نجد أنهم أتقن وأرفع  من الذين خرّج لهم الإمام مسلم في صحيحه. وذلك للأمور الآتية:

  • الذين انفرد البخاري بالإخراج لهم دون الإمام مسلم أربعة مائة وبضع وثلاثون رجلًا، المتكلّم فيهم بالضعف منهم ثمانين رجلًا. والذين انفرد الإمام مسلم بالإخراج لهم دون الإمام البخاري ست مائة وعشرون رجلًا، المتكلم فيهم بالضعف منهم مائة وستون رجلًا، ولا شكّ أن التخريج عمّن لم يتكلّم فيه أصلًا، أولى من التخريج عمّن تُكُلِّمَ فيه، وإن لم يكون ذلك الكلام قادحًا.
  • الذين انفرد الإمام البخاري بالتخريج لهم دون الإمام مسلم، ممّن تُكُلّم فيهم، لم يُكثر الإمام البخاري من تخريج أحاديثهم، وليس لواحد منهم نسخة كبيرة أخرجها كلّها، أو أكثرها إلا ترجمة عكرمة عن ابن عباس؛ بخلاف الإمام مسلم، فإنه أخرج أكثر تلك النسخ كأبي الزبير عن جابر، وسُهيل بن أبي صالح عن أبيه، والعلاء بن عبد الرحمن عن أبيه، وحمّاد بن سلمة عن ثابت، وغير ذلك.
  • الذين انفرد الإمام البخاري بالتخريج لهم دون الإمام مسلم ممّن تُكُلّم فيه أكثرهم من شيوخه الذين لقيهم، وجالسهم، وعرف أحوالهم، واطّلع على أحاديثهم، وميّز جَيِّدَهَا من مُوهمها بخلاف مسلم. فإن أكثر من تفرّد بتخريج حديثه ممّن تُكُلّم فيه، ممّن تقدّم عن عصره من التابعين، ومن بعدهم، ولا شكّ أن المحدّث أعرف بحديث  شيوخه أكثر من معرفته بحديث غير شيوخه.
  • الإمام البخاري يُخرّج أحاديث أهل الطبقة الأولى على سبيل الاستيعاب، أي: يُخرّجها أصولًا، وقد يُخرّج من حديث أهل الطبقة الثانية ما يعتمده من غير استيعاب أي: ينتقي من حديثهم، وأكثر ما يخرّج لأهل الطبقة الثانية تعليقًا. وربما خرّج اليسير من حديث أهل الطبقة الثالثة تعليقًا. وأما مسلمٌ فيخرّج أحاديث أهل الطبقتين الأولى  والثانية على سبيل الاستيعاب أي: يُخرّج أحاديثهم أصولًا، ويخرّج من أحاديث أهل الطبقة الثالثة ما يعتمده من غير استيعاب أي: ينتقي من أحاديثهم. وعلى ذلك، فالإمام البخاري ينتقي من أحاديث أهل الطبقة الثانية، ولا يُخَرّج حديثهم أصولًا. أما مسلمٌ فإنه يخرّج أحاديث أهل الطبقة الثانية أصولًا، وينزل للطبقة الثالثة انتقاء.

الشرط الرابع والخامس: السّلامة من العلّة القادحة، والسّلامة من الشّذوذ:

إن الأحاديث التي انْتُقِضَتْ على الإمام البخاري ومسلم بلغتْ مائتي  حديث، وعشرة أحاديث اختصّ البخاري منها بأقلّ من ثمانين، وانْتُقِضَ على الإمام مسلم نحو مائة وثلاثين. ولا شكّ أن ما قلّ الانتقاض فيه أرجح ممّا كَثُرَ، ولو لم يكن ذلك الانتقاض قادحًا.

الرأي الثاني:

ذهب بعض العلماء إلى ترجيح (صحيح مسلم) على (صحيح البخاري):

قال الإمام النووي: قال أبو العلي الحسين بن علي النيسابوري، الحافظ، شيخ الحاكم: كتاب مسلم أصحّ، ووافقه بعض شيوخ المغاربة، والصحيح أن (صحيح البخاري) أصحّ من (صحيح مسلم). قال الشيخ أبو عمرو بن الصّلاح: وأما ما رويناه عن أبي علي الحافظ النيسابوري من أنه قال: ما تحت أديم السماء كتابٌ أصحّ من كتاب مسلم بن الحجاج.

فهذا، وقول من فضّل من شيوخ المغرب كتاب مسلم على كتاب البخاري، إن كان المراد به أن كتاب مسلم يترجّح بأنه لم يُمازجه غير الصحيح، فإنه ليس فيه بعض خطبته إلا الحديث الصحيح مسرودًا غير ممزوج، بمثل في كتاب البخاري في تراجم أبوابه من الأشياء التي لم يُسندها على الوصف المشروط في الصحيح. فهذا لا بأس به، وليس يلزم منه أن كتاب مسلم أرجح فيما يرجع إلى نفس الصحيح على كتاب البخاري، وإن كان المراد به أن كتاب مسلم أصحّ صحيحًا، فهذا مردود على من يقوله. والله أعلم.

قال الحافظ ابن حجر: وأما قول أبي علي النيسابوري: فلم نقف قط على تصريحه بأن كتاب مسلم أصحّ من كتاب البخاري؛ بخلاف ما يقتضيه إطلاق الشيخ محيي الدين -يعني: النووي- في مختصره في علوم الحديث. وفي مقدمة شرح البخاري أيضًا؛ حيث يقول: اتفق الجمهور على أن (صحيح البخاري) أصحهما صحيحًا، وأكثرهما فوائد. وقال أبو علي النيسابوري، وبعض علماء المغرب: (صحيح مسلم) أصحّ. ومقتضى كلام أبي علي نفي الأصحيّة عن غير كتاب مسلم عليه. أما إثباتها له فلا؛ لأن إطلاقه يحتمل أن يُريد ذلك، ويحتمل أن يُريد المساواة، قال الحافظ ابن حجر: فلم يصرّح أبو علي النيسابوري بكون (صحيح مسلم) أصحّ من (صحيح البخاري)؛ لأنه إنما نفى وجود كتاب أصحّ من كتاب مسلم.

إذ المنفيّ إنما هو ما تقتضيه صيغة “أفعل” من زيادة صحّة في كتاب شارك كتابَ مسلم في الصحة، يمتاز بتلك الزيادة عليه، ولم ينفِ المساواة، وما نُقل عن بعض المغاربة: أنه فضل (صحيح مسلم) على (صحيح البخاري)، فذلك إنما يرجع إلى حسن السياق، وجودة الوضع، والترتيب. ولم يُفصح أحد منهم بأن ذلك راجع إلى الأصحيّة، ولو أفصحوا لردّ عليهم شاهدُ الوجود؛ فالصّفات التي تدور عليها الصحة في كتاب البخاري أتم ّ منها في كتاب مسلم وأشدّ. وشرطه فيها أقوى وأسدّ.

ولقد بيَّن الأئمة -رحمهم الله تعالى- الأسباب التي دَعَتْ هؤلاء العلماء إلى هذا القول الذي فُهم منه أنهم يُفضلّون (صحيح مسلم) على (صحيح البخاري)، وهذه الأسباب لا ترجع إلى تمكّن أحاديث (صحيح مسلم) من شروط الصّحة، بل ترجع إلى أمور أخرى، وهي كما يأتي:

  1. 1.    (صحيح مسلم) أسهل تناولًا من حيث أنه جعل لكل حديث موضوعًا واحدًا يَلِيق به، جَمَع فيه طُرُقَه التي ارتضاها واختارها، وأورد فيه أسانيده المتعدّدة، وألفاظه المختلفة؛ فيسهل على الطالب النظر في وجوهه، واستثمارها، ويحصل له الثقة بجميع ما أورده مسلم من طُرُقه، بخلاف الإمام البخاري، فإنه يذكر تلك الوجوه المختلفة في أبواب متفرّقة متباعدة، وكثيرٌ منها يذكره في غير بابه  الذي يسبق إلى الفهم أنه أولى به، وذلك لدقيقة يَفهمها البخاري منه، فيصعب على الطالب جمع طرقه، وحصول الثقة بجميع ما ذكره البخاري من طُرق هذا الحديث. وقد غَلَط جماعة من الحفّاظ المتأخرين في مثل هذا، فَنَفَوْا رواية البخاري أحاديث هي موجودة في صحيحه في غير مظانّها السابقة إلى الفهم. والله أعلم.
  2. احتياط الإمام مسلم في تلخيص الطرق وتحويل الأسانيد، مع إيجاز العبارة وكمال حسنها.
  3. حسن ترتيب الإمام مسلم للحديث على نسقٍ يقتضيه تحقيقه، وكمال معرفته بمواقع الخاطب، ودقائق العلم، وأصول القواعد، وخفيات علم الأسانيد، ومراتب الرواة، وغير ذلك. اعتناء الإمام مسلم بالتمييز بين “حدّثنا” و”أخبرنا”، وتقيِيْدُه ذلك على مشايخه، وفي روايته، وكان من مذهبه  رحمه الله  التّفرقة بينهم، وأن “حدّثنا” لا يجوز  إطلاقه إلا فيما سمعه من لفظ الشيخ خاصّة، و”أخبرنا” فيما قُرئ على الشيخ. وهذا الفرق هو مذهب الشافعي وأصحابه، وجمهور أهل العلم بالمشرق، وهو مذهب أكثر أصحاب الحديث الذين لا يحصيهم أحد إلا الله تعالى.
  4. اعتناء الإمام مسلم بضبط اختلاف لفظ الرواة كقوله “حدثنا فلان وفلان”، “واللفظ لفلان قال، أو قال: حدّثنا فلان”. وكما إذا كان بينهما اختلاف في حرف من متن الحديث، أو صفة الراوي، أو نسبه، أو نحو ذلك؛ فإنه يُبيّنه، وربما كان بعضه لا يتغيّر به معنًى، وربّما كان في بعضه اختلاف في المعنى، ولكن كان خفيًّا لا يفطن إليه إلا ماهر في العلوم، ومن ذلك تحرّيه  في مثل قوله “حدثنا عبد الله بن مسلمة، حدثنا سليمان -يعني ابن بلال-، عن يحيى، وهو ابن سعيد، فلم يستجز   رضي الله عنه   أن يقول: حدثنا سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد؛ لكونه لم يقعْ  في روايته منسوبًا، فلو قاله منسوبًا لكان مخبرًا عن شيخه أنه أخبره بنسبه، ولم يخبره.
  5. صنّف الإمام مسلم كتابه الصحيح في بلده، بحضور أصوله في حياة كثير من مشايخه، فكان يتحرّز في الألفاظ، ويتحرّى في السياق بخلاف البخاري، فربّما كتب الحديث من حفظه ولم يميّز ألفاظ رواته.
  6. لم يتصدّ مسلم لما تصدّى له البخاري من استنباط الأحكام ليبوّب عليها، ولزم من ذلك تقطيعه للحديث في أبوابه، بل جمع مسلم الطرق كلها في مكان واحد، واقتصر على الأحاديث دون الموقوفات، فلم يعرّج عليها إلا في بعض المواضع على سبيل النضرة تبعًا، لا مقصودًا.
  7. ليس في (صحيح الإمام مسلم) بعد الخطبة إلا الحديث الصحيح مسرودًا غير ممزوج بمثّل ما في كتاب البخاري من الأحاديث الموقوفة، وأقوال العلماء، وغير ذلك. فهذه الأمور السبعة التي امتاز بها (صحيح مسلم) تجعله راجحًا على (صحيح الإمام البخاري)؛ لأن هذه الأمور لا ترجع إلى شرط الصّحة، بل ترجع  إلى حسن السياق، وجودة الوضع والترتيب؛ ولذلك فإن ما ذهب إليه جمهور العلماء من أن (صحيح الإمام البخاري) أرجح، وأصحّ من (صحيح الإمام مسلم) هو الصّواب.

لقد امتاز (صحيح البخاري) بأمور أخرى غير التي ذكرنا أنها تعود إلى شرط الصحة، فقد ضمّن الإمام البخاري أبواب كتابه من التراجم التي حيّرت الأفكار، وأدهشت العقول والأبصار، وإنما بلغت هذه المرتبة، وفازت بهذه الخطوة لسبب عظيم أوجب عظمها، وهو ما رواه أبو أحمد بن عدي عن عبد القدس بن همام قال: شهدت عدّة مشايخ يقولون: حوّل البخاري تراجم جامعه -أي: عناوين الأبواب- بين قبر النبي صلى الله عليه وسلم ومنبره، وكان يُصلّي لكل ترجمة ركعتين، ولقد اشتهر من قول جمع من الفضائل فقه البخاري في تراجمه.

الرأي الثالث:

ذهب بعض العلماء إلى أن الكتابين سواء.

والرأي الصحيح الراجح هو الرأي الأول الذي ذهب إليه جماهير العلماء، وقد ذكرنا الأسباب ذلك، والله أعلم.

الأحاديث الصحيحة في غير الصحيحين:

سبق أن ذكرنا أن الإمام البخاري ومسلم لم يستوعبا كلّ الأحاديث الصحيحة في صَحِيحَيْهِمَا، وأقام على ذلك الأدلة التي لا تدع مجالًا للشكّ، وإذا كان هناك كتب التزم مؤلفوها إخراج الصحيح من الحديث غير البخاري ومسلم في صَحِيحَيْهِمَا، مثل ابن خزيمة وابن حبان في صَحِيحَيْهِمَا، والحاكم في (المستدرك) غير أن هؤلاء الأئمة كانوا لا يَرَوْنَ التّفرقة بين الصحيح والحسن من الحديث؛ لذلك اشتملت كتبهم على الصحيح والحسن، وربّما وقع فيها الضعيف أيضًا، خاصّة إذا أخذنا في الاعتبار أن ابن حبان متساهلٌ في التصحيح، وفي توثيق الرواة. وكذلك الحاكم متساهلٌ في التصحيح -كما ستعلم ذلك بالتفصيل، إن شاء الله تعالى- كما جمع الحافظ ضياء الدين  محمد بن عبد الواحد المقدسي كتابًا سمّاه (الأحاديث المختارة)، مما ليس في الصحيحين، أو أحدهما، التزم في هذا الكتاب الصحّة، وذكر فيه أحاديث لم يُسبق إلى تصحيحها. وعلى ذلك؛ فإن الأحاديث الصحيحة ليست منحصرة في هذه الكتب التي أطلق عليها أصحابها اسم الصحيح؛ بل توجد أحاديث صحيحة في غير هذه الكتب.

فإذا نصّ إمام معتمد على صحّة حديث في غير الصحيحين علمنا صحته، ولا يكفي للحكم على الحديث بالصحة أن يُوجد في كتاب من الكتب التي لم يلتزم أصحابها إخراج الصحيح كـ”سنن أبي داود”؛ لأن أصحاب هذه الكتب خرّجوا فيها الصحيح والحسن والضعيف. فلا بدّ إذًا لمعرفة الصحيح في هذه الكتب أن ينصّ صاحب الكتاب على صحّة الحديث، أو يحكم بصحّته إمام معتمدٌ من أئمة الحديث.

من الكتب التي خرّج أصحابها أحاديث صحيحة، ليست في الصحيحين، ولا في أحدهما:

  1. 1.     (الموطأ) للإمام الجليل أبي عبد الله مالك بن أنس بن مالك الأصبحي، إمام دار الهجرة الْمُتَوَفَّى في سنة تسع وسبعين ومائة من الهجرة، و(الموطأ) صحيح عند الإمام مالك، وعند من يُقلّده، وإن كان قد وُجدت فيه بلاغات ومراسيل، فإنها وُجدتْ متصلة من طرق أخرى في كتب السنة، وسيأتي بذلك مزيدُ إيضاح عند الكلام عن منهج الإمام مالك في (الموطأ) إن شاء الله تعالى.
  2. 2.     (سنن أبي داود) للإمام الحافظ سليمان بن الأشعث السجستاني، الْمُتَوَفَّى في سنة خمس وسبعين ومائتين من الهجرة، وقد جاء عنه أنه يذكر في كتابه (السنن) المعروف بـ(سنن أبي داود) الحديث الصحيح وما يُشبهه ويُقاربه، وما كان فيه وَهْن شديد، أي: ضعف شديد بيّنّه، وما سكت عنه فهو صالح، كما أنه يذكر في كل باب أصحّ ما عُرف فيه، وستعرف ذلك بالتّفصيل عند الكلام عن منهجه.
  3. 3.     (سنن الإمام الترمذي) للحافظ أبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة المعروف بالترمذي، الْمُتَوَفَّى في سنة تسع وسبعين ومائتين من الهجرة، والترمذي يتعقّب الأحاديث بالحكم عليها، كما هو واضح في سُننه، كما أن الترمذي ينقل في سننه عن البخاري تصحيح أحاديث ليست في الصحيحين.
  4. 4.     (سنن الإمام النَّسائي) للحافظ أبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب، المعروف بالنسائي، الْمُتَوَفَّى في سنة ثلاث وثلاث مائة من الهجرة.
  5. 5.     (صحيح ابن خزيمة) للحافظ أبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة السلمي النيسابوري، الْمُتَوَفَّى في سنة إحدى عشر وثلاث مائة، وأكثر صحيح ابن خزيمة مفقودٌ.
  6. 6.     (صحيح ابن حبان) أبي حاتم التميمي البُسْتِي، الْمُتَوَفَّى في سنة أربع وخمسين وثلاثمائة من الهجرة، وصحيح ابن حبان يُسَمّى (بالتقاسيم والأنواع).
  7. 7.     (مستدرك الحاكم) للإمام أبي عبد الله محمد بن عبد الله النيسابوري، الْمُتَوَفَّى في سنة خمس وأربعمائة من الهجرة.
  8. 8.     (المختارة) للحافظ ضياء الدين محمد بن عبد الواحد المقدسي، الْمُتَوَفَّى في سنة ثلاث وأربعين وستمائة من الهجرة، جمع المقدسي كتابًا سمّاه (الأحاديث المختارة) ممّا ليس في الصحيحين، أو أحدهما، التزم في هذا الكتاب الصحة،  وذكر فيه أحاديث لم يُسبق إلى تصحيحها، ورتبه على المسانيد على حروف المعجم، غير أنه لم يكمله.
  9. 9.     (مسند الإمام أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني)، الْمُتَوَفَّى في سنة إحدى وأربعين ومائتين من الهجرة.
  10. 10.(السنن الكبرى) للإمام الحافظ أبي بكر أحمد بن الحسين المعروف بالبيهقي، الْمُتَوَفَّى في ثمانٍ وخمسين وأربعمائة من الهجرة.
error: النص محمي !!