المقارنة بين عمل مسلم في صحيحه وعمل أبي داود في سننه
سبق أن تحدثنا عن صحيح الإمام مسلم، وقلنا: إنه شرط ألا يُخرِّج في كتابه الصحيح إلا الأحاديث الصحيحة، كما سبق أن تحدثنا عن أنواع الأحاديث التي خرجها الإمام أبو داود في سننه، وذكرنا أن منها الصحاح، ومنها الحسان، ومنها الضعيف الذي يصلح للعمل به عند أبي داود، ومنها الضعيف الواهي، وبعض هذه الأنواع نبَّه عليه أبو داود في سننه، وبعضها لم يُنبِّه عليه كما سبق.
وبذلك يتضح أن الإمام مسلم اقتصر في صحيحه على الأحاديث الصحيحة، أما أبو داود فجمع في سننه بين الصحيح والحسن والضعيف من الحديث، ولم يقتصر على الصحيح كما فعل الإمام مسلم.
وما دام أن الأمر كذلك فلا بد أن الرجال الذين خرَّج لهم أبو داود في سننه ليسوا كالرجال الذين خرَّج لهم الإمام مسلم في صحيحه من حيث العدالة والضبط، غير أن أبا الفتح محمد بن سيد الناس اليعمري زعم أن شرط أبي داود في سننه كشرط الإمام مسلم في صحيحه، إلا في الأحاديث التي بين أبو داود ضعفها.
قال الحافظ السخاوي: “قال أبو الفتح ابن سيد الناس اليعمري: لم يصف أبو داود شيئًا -أي: من أحاديث السنن- بالحسن وإنما المراد بقول أبي داود ذكرت الصحيح وما يشبهه -أي: في الصحة- وما يقاربه -أي: في الصحة أيضًا- كما دل على ذلك قوله: “إن بعضها أصح من بعض”؛ فإنه يشير على القدر المشترك بينهما لما تقتضيه صيغة أفعل التفضيل”. يريد أبو الفتح أن أحاديث (سنن أبي داود) تشترك كلها في الصحة مع تفاوت بينها، إلا أن الحد الأدنى للصحة متحقق في كل أحاديث سنن أبي داود، يستثنى من ذلك الأحاديث التي نصَّ أبو داود على أنها ضعيفة. وهذا يُشبه قول الإمام مسلم: “جملة الصحيح لا توجد عند الإمام مالك وشعبة وسفيان الثوري وغيرهم من أهل الطبقة العليا في الضبط والإتقان”، فاحتاج إلى أن ينزل إلى حديث يزيد بن أبي زياد، وحديث ليث بن أبي سليم، وعطاء بن السائب وغيرهم ممن يلي أهل الطبقة العليا في الضبط والإتقان؛ لاشتراك أهل الطبقتين في جملة العدالة والضبط.
وحينئذٍ فمعنى كلام مسلم وأبي داود واحد، ولا فرق بين الطريقين غير أن مسلمًا شرط الصحيح فاجتنب حديث الطبقة الثالثة، وهو الضعيف الواهي، وأتى بالقسمين الأخيرين، وأبو داود لم يشترطه فذكر ما يشتدّ وهنه عنده، والتزم بيانه.
وقد أجيب على ما زعمه ابن سيد الناس بجوابين: الأول إجمالي، والثاني تفصيلي.
أولًا: الجواب الإجمالي:
هذا الزعم غير صحيح للتفاوت بين أحاديث صحيح الإمام مسلم، وأحاديث (سنن أبي داود) من حيث المتون والأسانيد.
أولًا: من حيث المتون: شرط الإمام مسلم لا يُخرِّج في صحيحه إلا الأحاديث الصحيحة، فليس لأحد أن يحكم على حديث في (صحيح مسلم) بأنه حسن؛ فضلًا عن أن يكون ضعيفًا.
أما أبو داود فذكر أنه يُخرِّج في سننه الصحيح والحسن والضعيف، والضعيف الواهي، ويُبين حال الواهي الشديد كما سبق.
ثانيًا: من حيث الرواة: فالرواة الذين خرَّج لهم الإمام مسلم في صحيحه أحفظ وأضبط من الرواة الذين خرَّج لهم أبو داود في سننه.
ثانيًا: الجواب التفصيلي:
أجاب العلماء على زعم ابن سيد الناس بأجوبة تفصيلية كما يلي: قال الحافظ السخاوي: “قال بعض المتأخرين: وهو تعقب متجه، وردَّه الحافظ ابن حجر وقال: بل هو تعقب واهٍ جدًّا لا يساوي سماعه”، قال الحافظ السخاوي مؤيدًا ما قاله شيخه الحافظ ابن حجر معللًا ما قال وهو كذلك لتضمنه أحد شيئين؛ الشيء الأول: وقوع غير الصحيح في (صحيح الإمام مسلم)، أو تصحيح كل ما سكت عنه أبو داود في سننه، وقد بيَّن ردَّه الحافظ ابن حجر فقال: إن مسلمًا شرط الصحيح، فليس لنا أن نحكم على حديثه في كتابه بأنه حسن، وأبو داود قال: ما سكت عنه فهو صالح، والصالح يجوز أن يكون صحيحًا وأن يكون حسنًا؛ فالاحتياط أن يُحكم عليه بالحسن.
قال الحافظ السخاوي: وبنحوه -أي: بنحو جواب الحافظ ابن حجر السابق- أُجيب عن اعتراض بن رشيد الماضي، وسبقه الحافظ العلائي شيخ الحافظ ابن حجر، فقال كما ذكر الحافظ ابن حجر، قال الحافظ ابن حجر: أجاب الحافظ صلاح الدين العلائي عن كلام أبي الفتح اليعمري بجواب أمتن من هذا، فقال ما نصه: هذا الذي قاله ضعيف، وقول ابن الصلاح أقوى؛ لأن درجات الصحيح إذا تفاوتت فلا نعني بالحسن إلا الدرجة الدنيا منها، والدرجة الدنيا منها لم يُخرِّج مسلم منها شيئًا في الأصول، وإنما يُخرِّجها في المتابعات والشواهد.
الرواة عند الإمام مسلم ثلاثة أقسام: قال الحافظ ابن حجر: “وهو تعقب صحيح، وهو مبني على أمر اختلف نظر الأئمة فيه، وهو قول مسلم ما معناه: إن الرواة ثلاثة أقسام: الأول: كمالك وشعبة، الثاني مثل عطاء بن السائب ويزيد بن أبي زياد وأمثالهما، وكل من القسمين مقبول لما يشمل الكل من اسم الصدق، الطبقة الثالثة أحاديث المتروكين.
قال القاضي عياض، وتبعه النووي وغيره: “إن مسلمًا أخرج أحاديث القسمين الأولين، ولم يُخرِّج شيئًا من أحاديث القسم”، وقال الحاكم والبيهقي وغيرهما: “لم يُخرِّج مسلم إلا أحاديث القسم الأول فقط، فلما حدَّث به -أي: بأحاديث القسم الأول- اخترمته المنية قبل إخراج القسمين الآخرين”.
ويؤيِّد هذا ما رواه البيهقي بسند صحيح عن إبراهيم بن محمد بن سفيان صاحب مسلم قال: “صنف مسلم ثلاثة كتب: أحدها هذا الذي قرأه على الناس -يعني: الصحيح- والثاني: يُدخل فيه عكرمة وابن إسحاق وأمثالهما، والثالث يدخل فيه الضعفاء”.
قال الحافظ ابن حجر: “وإنما اشتبه الأمر على القاضي عياض ومن تبعه بأن الرواية عن أهل القسم الثاني موجودة في (صحيح الإمام مسلم)، لكن فرض المسألة هل احتج بهم الإمام مسلم كما احتج بأهل القسم الأول أم لا، والحق أنه لم يُخرِّج شيئًا مما انفرد به الواحد منهم، وإنما احتج بأهل القسم الأول؛ سواء تفرَّدوا أم لا، ويُخرّج من أحاديث أهل القسم الثاني ما يرفع به التفرد عن أحاديث أهل القسم الأول، وكذلك إذا كان لحديث أهل القسم الثاني طُرق كثيرة يُعضِّد بعضها بعضًا، فإنه قد يُخرج ذلك”.
وهذا ظاهر بيِّن في كتابه، ولو كان يخرج جميع أحاديث الأهل القسم الثاني في الأصول، بل وفي المتابعات؛ لكان كتابه أضعاف ما هو عليه، ألا تراه أخرج لعطاء بن السائب في المتابعات، وهو من المكثرين، ومع ذلك فما له عنده سوى مواضع يسيرة، وكذا محمد بن إسحاق وهو من بحور الحديث، وليس له عنده في المتابعات إلا ستة أو سبعة، ولم يخرج لليث بن أبي سليم، ولا ليزيد بن أبي زياد، ولا لمجالد بن سعيد إلا مقرونًا. وهذا بخلاف أبي داود، فإنه يُخرج أحاديث هؤلاء في الأصول محتجًّا بها؛ ولأجل ذا تخلف كتابه عن شرط الصحة، وفي قول أبي داود “وما كان فيه وهنٌ شديد بينته” ما يُفهم أن الذي يكون فيه وهنٌ غير شديد أنه لا يبينه.
ومن هنا يتبيَّن أن جميع ما سكت عليه أبو داود لا يكون من قبيل الحسن الاصطلاحي، بل هو على أقسام: منه ما هو في الصحيحين أو على شرط الصحة، ومنه ما هو من قبيل الحسن لذاته، ومنه ما هو من قبيل الحسن لغيره، وهذا القسمان -أي: الحسن لذاته، والحسن لغيره- كثير في كتابه جدًّا، ومنه ما هو ضعيف لكنه من رواية من لم يُجمع على تركه غالبًا، وكل هذه الأقسام تصلح للاحتجاج بها عند أبي داود.