المكتبات والجمعيات العلمية، البعثات والترجمة، والمواهب والعقول
العامل الخامس من عوامل نهضة النقد الأدبي: المكتبات والجمعيات العلمية:
كانت المخطوطاتُ والكُتب مبعثرة في المساجد وبيوت العلماء، وفي إطار النهضة التي حدثت، بفضل انتشار التعليم، والطباعة، والصحافة، ونمو الوعي عند الناس، جمعت هذه الكتب في مكتبات خاضعة لإشراف الدولة؛ حيث أنشئت في عهد إسماعيل “دار الكتب المصرية” التي أدت دورًا كبيرًا في الحياة الأدبية والثقافية في مصر، وما تزال تؤدي هذا الدور إلى يومنا هذا.
وقد احتوت هذا المكتبات على الكثير من المخطوطات الموروثة، وزودت هذه المكتبات بأعداد كبيرة من الكتب التي نشرت وطبعت من كتب التراث العربي، والكتب التي ألفت حديثًا.
وقد توسعت “دار الكتب” ونظمت وأنشئت لها فروع في كثير من مدن مصر، ولما انتشرت الجامعات أنشئت في كل جامعة مكتبة أو أكثر، وزاد عدد المكتبات، بزيادة المدارس والجامعات والمعاهد، ولا شك في أن المكتبات العامة تُوفّر لطلاب المعرفة الكتب اللازمة لتنمية ثقافتهم وتهذيب رؤيتهم، فكان لهذه المكتبات أثر طيب في تنشيط الحركة الأدبية والنقدية بلا شك.
العامل السادس من عوامل نهضة النقد، هو: البعثات وما نتج عنها:
وتاريخ البعثات يبدأ بعهد محمد علي الذي أراد أن ينقُل من علوم الغربيين وثقافة الغربيين وفكرهم ما يفيده في إنشاء الدولة الحديثة في مصر؛ فاختار عددًا من طلاب الأزهر، وأرسلهم في بعثة إلى فرنسا، وعاد هؤلاء المبتَعَثون يكتبون عما رأوه، وينقلون من ثقافة الفرنسيين إلى الثقافة العربية، وأشهرهم في هذا المجال هو: رفاعة الطهطاوي، الذي توفي عام ألف وثمانمائة وثلاثة وسبعين.
ومن المناصب التي أُسندت إلى رفاعة الطهطاوي: رئاسة قلم الترجمة، وأسندت إليه أيضًا إدارة مدرسة الألسن في عهد محمد علي، ثم في عهد إسماعيل، أما جهوده في الترجمة: فقد ترجم كتبًا في الطب والهندسة والجغرافيا، بالإضافة إلى بعض الآداب والفنون؛ حيث ترجم إلى العربية نشيد فرنسا القومي، ورثاء فولتير للويس الرابع عشر؛ كما ترجم رواية “وقائع تليماك” لمؤلفها “لافونتين” وسماها “وقائع الأفلاك في أخبار تليماك”.
وسار على درب رفاعة في الترجمة مجموعة من العلماء والأدباء؛ منهم: عبد الله أبو السعود، وفتحي زغلول، وخليفة محمود، ومحمد أحمد عبد الرازق، وحسن عاصم؛ إذ ترجموا عددًا من الكتب التاريخية والأدبية إلى اللغة العربية.
ومن أبرز المترجمين في ذلك العصر: محمد عثمان جلال؛ حيث نقل كثيرًا من الأدب الفرنسي إلى اللغة العربية؛ فترجم بعض روايات “موليير” وبعض روايات “راسين”، واستمر نشاط الترجمة والمترجمين فنقلت أعمال كثير من الأدب الأوربي على اختلاف لغاته إلى اللغة العربية، كما نقلت أعمال من الآداب الشرقية كذلك إلى اللغة العربية.
ومن أهم الأعمال التي ترجمت إلى اللغة العربية، والتي كان لها أثر مهم في الأدب والنقد ملحمة الشاعر الإغريقي القديم “هوميروس” المعروفة بـ”الإلياذة”، وهذه “الإلياذة” اهتم بها الأوربيون ونقلوها من اليونانية أو الإغريقية إلى عدد من لغاتهم، وأول من ترجمها شعرًا إلى العربية سُليمان البستاني عام ألف وتسعمائة وثلاثة.
ومن الأعمال التي نُقلت أيضًا من اللغة العربية من الأدب الغربي قصائد كثيرة من الشعر الإنجليزي، ومن الشعر الفرنسي، ومن أهمها أعمال لـ”لامرتين” و”بودلير” من الأدب الفرنسي، وأعمال “شكسبير” من اللغة الإنجليزية، وكذلك “الفردوس المفقود” لـ”ميلتون” الإنجليزي.
وترجم من الأدب الألماني إلى اللغة العربية أعمال من أهمها “فاوست” للشاعر الفيلسوف “جوته”، وقد تأثر بهذه الأعمال عدد من الأدباء العرب والشعراء العرب، وكان للأفكار التي احتوتها هذه الأعمال أثر في المجال النقدي كذلك.
ومن الأدب الشرقي تُرجمت أيضًا بعض الأعمال منها: “رباعيات الخيام” من الأدب الفارسي، وكان الخيام شاعرًا فيلسوفًا أودع رباعياته آراءه ونظرياته التي تمثل مذهبه في الحياة، ويميلُ في أسلوبه إلى طريقة المتصوفة الرمزيين، وفي هذه الرُّباعيات كثير من الفكر والتأمل، وغير قليل من التمرد، وأفكار وأقوال عن الحكمة من الخلق، والمبدأ والمصير.
كما نُقل أيضًا من الشعر الفرنسي “ديوان الشاعر السعدي” و”ملحمة الشاهنامة” للفردوسي، والترجمة تنقل فكر الآخرين وآراءهم ومواقفهم من الحياة، وطرائق إبداعهم، وهذه كلها تؤدي إلى ظهور أفكار جديدة وآراء جديدة تعمل على إثراء الحياة الثقافية والأدبية والنقدية.
وهذا الأثر لهذه الأعمال المترجمة يُشبه الأثر الذي قام به المستشرقون؛ من حيث إبداء الآراء الخاصة بهم في الثقافة العربية والأدب العربي.
وكان هذا النشاط الاستشراقي عاملًا من عوامل تحريك الحياة الأدبية والنقدية، فقد اهتم المستشرقون بنفائس التراث العربي، ونشروا كثيرًا من الكتب وأدلوا بآرائهم في الكثير من قضايا الأدب العربي والنقد العربي، وتعرضوا لتقويم عدد من الشعراء العرب، وبذلك استثاروا حمية النقاد العرب الذين كتبوا يصححون لهؤلاء المستشرقين بعض أفكارهم، ويردون عليهم ما ذهبوا إليه في بعض القضايا المتعلقة بالأدب العربي؛ فكان لذلك كله مردود مفيد على حركة النقد الأدبي في العصر الحديث.
العامل الثامن الذي أدى إلى نهضة النقد الأدبي في العصر الحديث، وأثر فيه تأثيرًا كبيرًا: تيارات الثقافة واتجاهات الفكر:
وقد تنوعت هذه التيارات وتلك الاتجاهات بين اتجاه محافظ يرى أن النموذج التراثي القديم في الأدب هو النموذج الذي يجب احتذاؤه، وأن طريقة النقد العربي، وتقويم الشعر والنثر يجبُ أن تكون امتدادًا لطريقة القدماء، وهذا الاتجاه يمثله أصحاب الثقافة التراثية، المحافظون على هذه الثقافة، المدافعون عنها، المتشبعون بها.
وقد كان هذا الاتجاه هو الغالب في مرحلة البدايات، ومرحلة البعث والإحياء. وبزيادة الاتصال بالغرب وحضارته بدأ يظهر تيار قوي يدعو إلى ثقافة الغرب، ويبشر بها، ويناوئ أصحاب الاتجاه المحافظ الذي كان يؤمن أصحابه إيمانًا راسخًا بالإسلام والعروبة، والتراث العربي والإسلامي، ويرون في الاتجاه إلى ثقافة الغرب خطرًا يهدد الشخصية الإسلامية والعربية.
يمثل الاتجاه المحافظ مجموعة من النقاد والأدباء والشعراء من أشهرهم: البارودي، والرافعي، والمنفلوطي. وفي النقد مثلًا سار على طريقة القدماء: الشيخ حسين المرصفي، والشيخ سيد بن علي المرصفي، هؤلاء يمثلون الاتجاه التراثي.
اشتد الصراع بين التيارين، وساعدت ظروف الحرب العالمية الأولى وتعضيد الاستعمار وصنائعه للاتجاه الداعي إلى ثقافة الغرب، وانبهار المبعوثين إلى أوربا بمظاهر الحياة الحديثة هناك، على تغلب الاتجاه الداعي إلى التجديد في الثقافة والأدب، على هدي من ثقافة الغرب وفكره.
ونما هذا الاتجاه الداعي إلى تمثل الثقافة الغربية، واقتفاء خطى الأدب الغربي، والتأثر بالمذاهب النقدية الغربية، وكان أصحاب هذا التيار ينقسمون إلى اتجاهين: اتجاه إعجابه بالثقافة الإنجليزية والأدب الإنجليزي؛ لأن اللغة التي ثقفها هي اللغة الإنجليزية. واتجاه آخر يعلي من شأن الأدب الفرنسي والثقافة الفرنسية؛ لأن اللغة التي ثقفها هي اللغة الفرنسية.
وأصبح في مصر فريقان من المثقفين يجمعهم الإعجاب بالثقافة الغربية وآدابها؛ أحدهما يولي وجهه شطر فرنسا، والآخر يولي وجهه شطر إنجلترا، وكلاهما يواجه أصحاب الاتجاه المحافظ.
وكان هؤلاء المعجبون بثقافة الغرب وآدابه والداعون إليها متفاوتين في حماسهم لهذا الأدب؛ فقد كان منهم المغالي المشتط، الداعي إلى أن تكون الثقافة الغربية، والأدب الغربي وطريقة التعبير وطريقة التفكير عند العرب تابعة لما عند الغرب.
وكان منهم المعتدل الذي يرى أن العرب عندهم ما يمكن أن يفاخروا به ويضيفوا إليه، وبعضهم بدأ مستغربًا مغاليًا في استغرابه، ثم عاد فخفف من مغالاته، واقتصد في إعجابه.
وكانت السنوات العشر الأولى من بعد ثورة سنة ألف وتسعمائة وتسعة عشر، هي الفترة التي تشبه المراهقة الفكرية، أو الحيرة الفلسفية التي يبحث المثقفون فيها، أو بعض المثقفين فيها عن المثل في عصبية واندفاع، ومن هنا وجدنا بعض الأدباء في هذه الفترة يدعو إلى الاتجاه القومي في الأدب، وفي مقدمة هؤلاء: محمد حسين هيكل، الذي خفف من غلوائه فيما بعد، ومنهم: سلامة موسى الذي كان يتخذ موقفًا معاديًا من الثقافة العربية والثقافة الإسلامية. وكان منهم أيضًا طه حسين الذي عاد وخفف من غلوائه فيما بعد.
وهؤلاء كانوا يدعون إلى استلهام الماضي الفرعوني المصري في الأدب، ولما غلا هؤلاء في إعجابهم بالغرب، ودعوتهم إلى اقتفاء آثار الغرب في التفكير والتعبير والتصوير، انبرى لهم من يرد عليهم من أصحاب الاتجاه المحافظ، ونشأ عن ذلك معارك أدبية ونقدية أثرت الحياة الأدبية والفكرية والنقدية ثراءً كبيرًا. من هذه المعارك التي نتجت عن ذلك الاختلاف ما كان بين العقاد وشوقي، وما كان بين العقاد والرافعي، وما كان بين المازني والمنفلوطي، وما كان بين سلامة موسى وأحمد حسن الزيات، وما كان بين الأجيال المتأخرة أيضًا من الأدباء والنقاد، كما كان بين محمود شاكر ولويس عوض.
وهذا الاختلاف في الثقافة والفكر من هذه الجوانب كان عاملًا مهمًّا جدًّا في حركة النقد الأدبي في العصر الحديث.
العامل التاسع: الذي لا يمكن إغفاله بطبيعة الحال في النهضة النقدية في العصر الحديث في شتى المراحل هو: أصحاب العقول من الأدباء والمفكرين والنقاد الذين تأثروا بالعوامل السابقة، وأسهموا بآرائهم ومقالاتهم وكتبهم في هذه الحياة الأدبية والنقدية الثرية.
وسبقت الإشارة إلى بعض هؤلاء الأعلام، كالشيخ محمد عبده، وأديب إسحاق، والبارودي، والمنفلوطي، وطه حسين، والزيات، والعقاد، وغير هؤلاء كثيرون من الذين كانت لهم آراء مهمة في مجال الأدب ونقده، كل هذه العوامل أثرت في مجال النقد الأدبي وكان لها فضل في النهضة النقدية في العصر الحديث.