الملائكة -عليهم السلام-: صفاتهم، أصنافهم، أعمالهم
1. بيان صفات الملائكة:
لقد ورد في القرآن الكريم تشبيه يوسف –على نبينا وعليه الصلاة والسلام- بالملائكة في الحُسْن، كما قال تعالى على لسان النسوة اللاتي قَطَّعْنَ أيديهنّ: {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَـذَا بَشَرًا إِنْ هَـذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيم} [يوسف: 31]، كما ورد وصف جبريل عليه السلام بالقوة والأمانة في أداء الوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِين * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِين * وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُون * وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِين * وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِين * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيم} [التكوير: 20-24]. وقد ورد في صفة الملائكة أنهم أُولُو أجنحة مثنى وثلاث ورباع، كما قال تعالى: {جَاعِلِ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاء} [فاطر: 1]. كما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن جبريل عليه السلام أن له ستمائة جناح؛ فقد أخرج السيوطي في (الحبائك) عن أبي الشيخ -رحمهما الله تعالى- عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((جبريل له ستمائة جناح من لؤلؤ، قد نشرها مثل ريش الطواويس)) رواه السيوطي في (الحبائك).
وقد روى الإمام السيوطي -رحمه الله- أحاديث تُبيّن صفة جبريل عليه السلام:
منها: عن عائشة رضي الله عنها, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “رأيت جبريل منهبطًا، قد ملأ ما بين الخافقين، عليه ثياب سندس معلّق بها اللؤلؤ والياقوت”.
ومنها: عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل: “وَدِدْتُ لو رأيتك في صورتك، قال: وتحب ذلك؟ قال: نعم، قال: موعدك كذا وكذا من الليل ببقيع الغرقد. فلقيه موعده, فنشر جناحًا من أجنحته فسدّ أُفق السماء, حتى ما يُرى من السماء شيء”. ومنها: عن ابن عباس عن ورقة الأنصاري قال: قلت: يا محمد، كيف يأتيك الذي يأتيك -يعني جبريل؟ قال: “يأتيني من السماء, جناحاه لؤلؤ، وباطن قدميه أخضر”. ومنها: عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن لله ملائكةً ما بين شحمة أذن أحدهم إلى تَرْقُوته مسيرة سبعمائة عامٍ, بالطير السريع الطيران”.
ومنها: عن يحيى بن أبي كثير قال: “خلق الله الملائكة صمدًا, ليس لهم أجواف”.
ومنها: عن وهب بن منبه أنه سُئل عن خلق جبريل, فذكر أن ما بين منكبيه من ذي إلى ذي خفقُ الطير سبعمائة عام.
وقال صاحب كتاب (الإيمان: أركانه – حقيقته – نواقضه) وهو يبيّن صفة الملائكة:
“وبناءً على ذلك، فإن الخالق عز وجل لم يُخبرنا من صفاتهم الخِلْقِيّة إلا النزر القليل، فأخبرنا سبحانه أنهم خُلقوا قبل آدم؛ إذ ورد في القرآن أن الله أخبرهم بأنه سيخلق الإنسان ويجعله في الأرض، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُون} [البقرة: 30].
وأما المادة التي خُلقوا منها فقد أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله خلقهم من نور, فقد أخرج مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((خُلقتِ الملائكة من نور، وخُلق الجانّ من مارج من نار، وخُلق آدم مما وُصف لكم)).
وتدل النصوص في مجموعها على أن الملائكة مخلوقات نورانيّة, ليس لها جسم مادي يُدرك بالحواس الإنسانية، وأنهم ليسوا كالبشر؛ فلا يأكلون، ولا يشربون، ولا ينامون، ولا يتزاوجون، مطهّرون من الشهوات الحيوانية، ومنزّهون عن الآثام والخطايا، ولا يتّصفون بشيء من الصفات المادية التي يتّصف بها ابن آدم, غير أن لهم القدرة على أن يتمثّلوا بصور البشر بإذن الله تعالى؛ كما أخبر الله عز وجل عن جبريل عليه السلام أنه جاء مريم في صورة بشريّة, فقال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} [مريم: 16، 17].
وفي حديث جبريل المشهور فيما جاء يعلم الصحابة معنى الإسلام، والإيمان، والإحسان، وأشراط الساعة -ذكر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه جاء على هيئة رجل شديد بياض الثياب, شديد سواد الشعر، لا يُرى عليه أثر السفر، وأنه جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفّيه على فخذيه، ثم شرع في السؤال.
ومن صفاتهم الخِلْقِيّة التي أخبرنا الله بها: أنه جعل لهم أجنحة يتفاوتون في أعدادها، فقال سبحانه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاء إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير} [فاطر: 1]، وقد أخرج مسلم والبخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى جبريل عليه السلام له ستمائة جناح.
هذا ما أخبرنا به ربنا -تبارك وتعالى- عن هذه المخلوقات الكريمة من حيث خلقتها، ونؤمن بها كما جاءت ولا نسأل عن غيره، ولو كان في التفصيل نفع لعباد الله لما حجب عنهم معرفته، فهو اللطيف الرحيم بهم يُعلمهم الحق والخير” انتهى كلامه.
2. ذكر أصناف الملائكة:
لقد وَرَدَ في القرآن الكريم ذكر الملائكة وأصنافهم وأعدادهم، والمتتبّع لتلك الآيات يجد أنهم موصُوفون بالكثرة؛ فمنهم الصّافات صفّا، ومنهم الزّاجرات زجرًا، ومنهم المرسلات عرفًا، وكل ذلك دليلٌ على أن الملائكة طوائف وجماعات، وأنهم سكّان السموات يتصفون بالقرب، مقرّبون طائعون لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون, وأن البيت المعمور الذي في السماء يَطُوف به كل يوم سبعون ألف ملك لا يُعودون إليه آخر ما عليهم، وأنهم طوائف يجوبون الأرض, كلٌّ مُوَكَّل بوظيفة خاصة به, فكل حركة في هذا العالم وراءها ملائكة موكّلون بها، وهم كثيرون جدًّا.
يقول الحافظ ابن حجر -رحمه الله-:
“وقد اشتملت أحاديث الباب على ذكر بعض من اشتُهر من الملائكة؛ كـ”جبريل” ووقع ذكره في أكثر أحاديثه، و”ميكائيل” وهو في حديث سمرة وحده، والملك الموكل بتصوير ابن آدم، و”مالك” خازن النار، وملك الجبال، والملائكة الذين في كل سماء، والملائكة الذين ينزلون في السحاب، والملائكة الذين يدخلون البيت المعمور، والملائكة الذين يكتبون الناس يوم الجمعة، وَخَزنَة الجنة، والملائكة الذين يَتَعَاقَبون، ووقع ذكر الملائكة على العموم في كونهم لا يدخلون بيتًا فيه تصاوير” انتهى كلامه.
ويقول ابن أبي العز الحنفي -رحمه الله-:
فالملائكة أعظم جنود الله، ومنهم: المرسلات عرفًا، والناشرات نشرًا، والفارقات فرقًا، والملقيات ذكرًا، ومنهم: النازعات غرقًا، والناشطات نشطًا، والسابحات سبحًا، فالسابقات سبقًا، ومنهم: الصافات صفًّا، فالزاجرات زجرًا، فالتاليات ذكرًا. ومعنى جمع التأنيث في ذلك كله: الفِرَق والطوائف والجماعات التي مفردها: فرقة، وطائفة، وجماعة.
ومنهم: ملائكة الرحمة، وملائكة العذاب، وملائكة قد وُكّلوا بحمل العرش، وملائكة قد وكلوا بعمارة السموات بالصلاة والتسبيح والتقديس… إلى غير ذلك من أصناف الملائكة التي لا يحصيها إلا الله. انتهى كلامه.
3. أعمال الملائكة, ووظائفهم المنوطة بهم:
إن الملائكة الكِرَام مكلّفون بأعمال عديدة، ومنوطة بهم وظائف متنوعة؛ فمنهم المُوَكَّل بالوحي، والمُوكل بالقطر والنبات، ومنهم المُوكّل بالنفخ في الصور، ومنهم ملائكة الرحمة، وملائكة العذاب، والملكان الموكلان ببني آدم يكتبان الحسنات والسيئات، ومنهم الملكان الموكّلان بسؤال الميت إذا وُضع في قبره، ومنهم خزنة جهنم، وخزنة الجنة، والملائكة الذين يَتَعَاقَبُون في بني آدم، وملائكة الليل وملائكة النهار، وملك الموت وأعوانه، وملك مُوَكّل بالشمس، وملك مُوَكّل بالقمر؛ إلى غير ذلك من الأعمال التي يُرسل الله تعالى بها ملائكة معينين, حتى قيل: إن كل حركة في العالم وراءها ملك مُوَكَّل بها.
يقول ابن أبي العز الحنفي -رحمه الله-:
“وأما الملائكة فهم الموكلون بالسموات والأرض، فكل حركة في العالم فهي ناشئة عن الملائكة كما قال تعالى: {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا} [النازعات: 5]، {فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا} [الذاريات: 4]، وهم الملائكة عند أهل الإيمان وأتباع الرسل.
وقد دلّ الكتاب والسنة على أصناف الملائكة، وأنها موكلة بأصناف المخلوقات، وأنه سبحانه وكّل بالجبال ملائكة، ووكل بالسحاب والمطر ملائكة، ووكل بالرحم ملائكة تُدَبّر أمر النطفة حتى يتمّ خلقها، ثم وكّل بالعبد ملائكة لحفظ ما يعمله وإحصائه وكتابته، ووكّل بالموت ملائكة، ووكّل بالسؤال في القبر ملائكة، ووكّل بالأفلاك ملائكة يحركونها، ووكل بالشمس والقمر ملائكة، ووكل بالنار وإيقادها وتعذيب أهلها وعمارتها ملائكة، ووكل بالجنة وعمارتها وغرسها وعمل آلاتها ملائكة.
فالملائكة أعظم جنود الله، ومنهم: المرسلات عرفًا، والناشرات نشرًا، والفارقات فرقًا، والملقيات ذكرًا، ومنهم: النازعات غرقًا، والناشطات نشطًا، والسابحات سبحًا، فالسابقات سبقًا، ومنهم: الصافات صفًّا، فالزاجرات زجرًا، فالتاليات ذكرًا” انتهى كلامه.
ويتّضح من هذا أن تعدّد الملائكة بتعدّد الأعمال المنوطة بهم؛ لتيسير شئون هذا الكون، والله غنيّ عن الملائكة وعن غيرهم من المخلوقات؛ لكنه سبحانه بحكمته البالغة، وقدرته ومشيئته النافذة جعل هذه المخلوقات النورانية هي التي تُسيّر شئون كثير من هذا الكون، وقد ورد أن الله سبحانه وتعالى وَكّل بالإنسان ملائكة يحرسونه ويحفظونه, لا يتركونه حتى في حالة النوم، وفي حالة اليقظة يراقبونه ويحفظونه حتى إذا جاء قدر الله خلّوا بينهم وبينه، وورد أن الملائكة الذين يحفظون الإنسان يُتابعونه حتى يُحشر، ثم يُتابعونه حتى يصل إلى منازله؛ منازل الجنان، أو منازل النيران.
ونقل الإمام السيوطي عن أبي الحسن الهروي -رحمهما الله تعالى- قوله من أرجوزته المسماة “الجواهر المضيئة”، وهو يتكلم عن الملائكة:
القول بالملائك الكرام | * | فريضة لصحة الإسلام |
وهم عباد الخالق القهار | * | قد خُلقوا من خالص الأنوار |
فمنهم كاتبُ أعمال الورى | * | ومنهم حافظُ سكان الثرى |
ومنهم مُوَكّل بالرزق | * | يوصل أو يزوى بأمر الحق |
4. مَن سُمِّي لنا من الملائكة في القرآن الكريم:
لقد ورد ذكر أسماء بعض الملائكة الكرام في القرآن الكريم؛ كجبريل وميكائيل -عليهما السلام-.
يقول صاحب كتاب (الإيمان: أركانه – حقيقته – نواقضه):
“ويجب الإيمان بالملائكة التي وردت أسماؤهم في الكتاب، أو السنة بالتفصيل، ومن هؤلاء رؤساؤهم الثلاثة: جبريل، وميكائيل، وإسرافيل.
وجبريل هو الملك الموكل بالوحي الذي به حياة القلوب والأرواح، وقد ورد ذكره هو وميكائيل في القرآن الكريم، قال تعالى: {قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِين * مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِين} [البقرة: 97، 98].
وقد أثنى الله سبحانه وتعالى على جبريل في القرآن الكريم أحسن الثناء, ووصفه بأجمل الصفات، ومن ذلك قوله تعالى: {فَلاَ أُقْسِمُ بِالْخُنَّس * الْجَوَارِ الْكُنَّس * وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَس * وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّس * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيم * ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِين * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِين} [التكوير: 15- 21]، وقال تعالى في وصفه أيضًا: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى} [النجم: 5، 6].
وأما ميكائيل فهو الملك الموكل بالقطر الذي به حياة الأرض والنبات والحيوان، وأما إسرافيل فهو الملك الموكل بالنفخ في الصور الذي به حياة الخلق بعد مماتهم.
ومن الملائكة الذين ورد ذكرهم في القرآن خازن النار، قال تعالى: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُون} [الزخرف: 77].
فهؤلاء وغيرهم ممن ورد ذكر أسمائهم في أحاديثَ ثبتت صحتها -يجب الإيمان بهم, وبما نيط بهم من الوظائف والأعمال” انتهى كلامه.
ويقول ابن أبي العز الحنفي -رحمه الله-:
“ومنهم -أي: الملائكة- الأَمْلَاكُ الثلاثة -جبرائيل، وميكائيل، وإسرافيل- الموكلون بالحياة؛ فجبرائيل موكلٌ بالوحي الذي به حياة القلوب والأرواح، وميكائيل موكلٌ بالقطر الذي به حياة الأرض والنبات والحيوان، وإسرافيل موكلٌ بالنفخ في الصور الذي به حياة الخلق بعد مماتهم.
فهم رسل الله في خلقه وأمره، وسفراؤه بينه وبين عباده، ينزلون بالأمر من عنده في أقطار العالم، ويصعدون إليه بالأمر” انتهى كلامه -رحمه الله.
لكن الذي ورد ذكره كثيرًا في القرآن الكريم هو الملك جبريل عليه السلام, فمن ذلك قول الله تعالى مخاطبًا عيسى -على نبينا وعليه السلام-: {اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ} [المائدة: 110]، وقال تعالى أيضًا: {وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} [البقرة: 87]، وروح القدس في الآيتين المراد به جبريل عليه السلام.
كما ورد ذكر جبريل عليه السلام كذلك في القرآن الكريم, في شأن نزوله على خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم؛ فمن ذلك قول الله تعالى: {قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِين}، ومن تلك الآيات قول الله تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِين} [النحل: 102].
والمقصود أن ذكر جبريل عليه السلام في القرآن الكريم كثير؛ لأنه هو الواسطة بين الله تعالى وخاتم النبيين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا كان حسان بن ثابت رضي الله عنه يقول:
وجبريل أمين الله فينا | * | وروح القدس ليس له كفاء |
ومن الملائكة الذين ذكروا في القرآن الكريم: مَالِكٌ عليه السلام خازن النار, قال تعالى: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُون}.
ومنهم: ملك الموت الذي لم يرد اسمه صريحًا لا في القرآن، ولا في السنة الصحيحة، لكن ورد في بعض الآثار تسميته بعزرائيل، قال الله تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُون} [السجدة: 11].
ومن الملائكة المذكورين في القرآن الكريم: هاروت وماروت في قصة تعلم أهل بابل للسحر، قال الله تعالى: {وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ} [البقرة: 102].
وذكر ابن كثير -رحمه الله- أن هذين الملكين أرسلهما الله فتنة لأهل بابل، وما قيل في قصتهما مع المرأة التي علماها اسم الله الأعظم هو من قبيل الإسرائيليات.
5. حكم إنكار وجود الملائكة، أو تأوّل وجودهم بأخيلة القوى العقلية والنفسية:
أ. إثبات وجود الملائكة, وأنهم أجسام قادرون على التشكل:
إن المادة التي خَلَقَ اللهُ منها الملائكة هي النور؛ وذلك لما ثبت في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وُصف لكم)) أي: من الطين. رواه الإمام مسلم -رَحِمَهُ اللهُ.
ولما خلق الله تعالى الملائكة من هذه المادة النورانية، جعلهم قادرين على التشكل على أشكال مختلفة، وهيئات متعددة، وصور عجيبة؛ لكي يسهل انتقالهم من مكانٍ إلى مكانٍ، ومن هيئةٍ إلى هيئة؛ فمن ذلك أن جبريل عليه السلام ثبت أنه تبَدَّى للنبي صلى الله عليه وسلم وله ستمائة جناح, سادًّا الأفق.
وكذلك ورد في القرآن الكريم أن الملائكة رسل الله تعالى، خلقهم بأجنحة مثنى وثلاث ورباع، كما قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} [فاطر: 1].
ومن الصفات العجيبة التي تبين التشكل, الذي تظهر به الملائكة قول الله تعالى مبينًا غلظة وشدة ملائكة النار: {عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُون} [التحريم: 6].
ومن الهيئات التي تبين التشكل الذي يجوز للملائكة، كما أنه دليل على إثبات وجودهم، ما ثبت من أن المَلَكَ يظهر على هيئة رجل؛ حيث ثبت ظهور جبريل عليه السلام لمريم ابنة عمران -عليها السلام- في صورة رجل، كما قال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} [مريم: 16، 17].
وكذلك ثبت في قصة الملائكة الذين أرسلهم الله إلى إبراهيم ولوط -على نبينا وعليهما السلام- وهم المعروفون بضيف إبراهيم، فقدم إليهم إبراهيم القِرَى ظانًّا أنهم بشر ليأكلوا منه, قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِين * قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِين} [العنكبوت: 31، 32], فبين الله تعالى في هذه الآيات أنه أرسل ملائكةً تشكّلوا على هيئةِ رجالٍ، وبعثهم إلى إبراهيم ولوط -عَلَى نَبِينَا وعَلَيْهِما السَّلامُ- وأخبروهما بأنهم مكلفون من قِبَلِ الله بإهلاك قوميهما، بعد أن ينجياهما وأهلهما إلا امرأة لوط المتمالئة مع قومها.
يقول صاحب كتاب (الإيمان أركانه، حقيقته، نواقضه):
“وتدل النصوص في مجموعها على أن الملائكة مخلوقات نورانية، وأنهم ليسوا كالبشر؛ فلا يأكلون ولا يشربون، ولا ينامون ولا يتزاوجون، مُطَهَّرونَ من الشهوات الحيوانية، ومنزهون عن الآثام والخطايا، ولا يتصفون بشيءٍ من الصفات المادية التي يتصف بها ابن آدم” انتهى كلامه.
ويقول سيد سابق -رحمه الله-:
“وهم -أي الملائكة- يتفاوتون في الخلق, كما يتفاوتون في الأقدار تفاوتًا لا يعلمه إلا الله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاء إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير} [فاطر: 1] أي: إن الله جعل الملائكة أصحابَ أجنحةٍ؛ فمنهم من له جناحان، ومنهم من له ثلاثة، ومنهم من له أربعة، ومنهم من يزيد على ذلك، وهذا مظهر التفاوت في الأقدار عند الله، والقدرة على الانتقال.
روى مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى جبريل عليه السلام له ستمائة جناح. وكثرة الأجنحة دليلُ القدرةِ على السرعة في تنفيذ أوامر الله, وتبليغ رسالته: {وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُوم * وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّون * وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُون} [الصافات: 164- 166] قال ابن كثير: ما من ملك إلا له موضع مخصوص في السموات ومقامات العباد, لا يتجاوزه ولا يتعداه” انتهى كلامه -رحمه الله.
وأما مجيء جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صورةِ رجلٍ، والتشكلِ بهيئةٍ أخرى فكثير جدًّا؛ وعليه فقد كان نزول جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم على أشكالٍ:
أولًا: من تلك الأشكال أنه كان يأتيه على صورة غير مرئية، ويقع كلامه على قلب النبي صلى الله عليه وسلم فيعي المصطفى صلى الله عليه وسلم ما يقول جبريل, ولا يرى الصحابة رضي الله عنهم جبريل والحالة هذه.
ثانيًا: وقد يراه على صورته التي خُلق عليها؛ فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم رأى جبريل على صورته التي خلق عليها مرتين, فقد روى مسلم بسنده عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: “إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يَرَ جبريل في صورته التي خلق عليها إلا مرتين: مرةً عند سدرة المنتهى، ومرة في أزاد له ستمائة جناح، قد سد الأفق”. وأزاد أو زياد: وادٍ في مكة.
ثالثًا: وقد يتمثل جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم في صورة رجل فيكلِّمه بالوحي، ومن ذلك تمثل جبريل عليه السلام في صورة الصحابي دحية بن خليفة الكلبي رضي الله عنه, وكان معروفًا بجماله؛ فقد روى الإمام أحمد عن ابن عمر رضي الله عنهماقال: كان جبريل عليه السلام يأتي النبي صلى الله عليه وسلم في صورة دحية.
وقد يأتيه على صورةٍ غيرِ معروفةٍ كرجلٍ من الأعرابِ، كما ثبت في (صحيح مسلم) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: ((بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم, إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يُرَى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم, فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه…)) الحديث.
وساق عمر رضي الله عنه الحديث, إلى أن قال في آخره: ثم انطلق فلبثت مليًّا، ثم قال لي -أي النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا عمر، أتدري من السائل؟)) قلت: الله ورسوله أعلم، قال: ((فإنه جبريل, أتاكم يعلمكم دينكم)) انتهى.
وبهذه الأشكال الثلاثة ثبت نزولُ جبريل عليه السلام عَلَى خاتم النبيين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم, وفي ذلك دليل واضح على وجود الملائكة, وأنهم أجسام قائمة, وأنهم يتشكلون على هيئات مختلفة ويجيئون على صور متعددة – سلام الله عليهم أجمعين.
ب. من الطائفة التي أنكرت وجود الملائكة؟
إذا بحثنا عن الطائفة التي أنكرت وجود الملائكة -عَلَيْهِم السَّلامُ- وكفرت بهم، ولم تؤمن بوجودهم ولا بالأعمال المنوطة بهم؛ وجدنا أهل العلم يذكرون أنهم طائفة الفلاسفة, التي لا تؤمن بهذه المخلوقات النورانية العجيبة التي ورد ذكرها في القرآن، وتعتبر ركيزةً مهمةً من ركائزِ الإيمانِ في الدين الإسلامي، بل إنَّ من لم يؤمن بوجودهم فلا إيمان له؛ لذلك كان الفلاسفة، ومن شاكلهم في تكذيب الآيات والأحاديث التي تطفح بذكر الملائكة -عَلَيْهِم السَّلامُ- كافرين؛ سواء منهم من كذب بوجودهم وأنكرهم, أو من ادعى أنهم عبارة عن العقول والنفوس، أو أنهم هذه الكواكب السيارات.
يقول الشيخ ابن أبي العز الحنفي -رحمه الله-:
“فهذه الأصول التي اتفقت عليها الأنبياء والرسل -صلوات الله عليهم وسلامه- ولم يؤمن بها حقيقة الإيمان إلا أتباع الرسل، وأما أعداؤهم ومن سلك سبيلهم من الفلاسفة، وأهل البدع فهم متفاوتون في جحدها وإنكارها؛ وأعظم الناس لها إنكارًا الفلاسفة المسمون عند من يعظمهم بالحكماء.
فإنَّ من علم حقيقة قولهم؛ علم أنهم لم يؤمنوا بالله، ولا رسله، ولا كتبه, ولا ملائكته، ولا بـاليوم الآخر؛ فـإن مـذهبـهم أن اللـه سبحانه موجـود لا مـاهية له ولا حقيقة، فلا يعلم الجزئيات بأعيانها، وكل موجود في الخارج فهو جزئي…
إلى أن يقول: وأما الملائكة فهم الموكلون بالسموات والأرض, فكل حركة في العالم فهي ناشئة عن الملائكة، كما قال تعالى: {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا} [ النازعات: 5]، {فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا} [ الذاريات:4] وهم الملائكة عند أهل الإيمان وأتباع الرسل؛ وأما المكذبون للرسل المنكرون للصانع، فيقولون: هي النجوم” انتهى كلامه.
وقال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-:
“قال جمهور أهل الكلام من المسلمين: الملائكة أجسام لطيفة، أُعْطِيَتْ قدرةً على التشكلِ بأشكالٍ مختلفةٍ, ومسكنها السموات، وأبطل من قال: إنها الكواكب، أو إنها الأنفس الخيرة التي فارقت أجسادها، وغير ذلك من الأقوال التي لا يوجد في الأدلة السمعية شيء منها” انتهى كلامه.
وبهذا يتضح أن الطائفة التي أنكرت وجود الملائكة, أو أَوَّلْت وجودهم بالعقول والنفوس، أو الكواكب هم الفلاسفة، والدهريون كما يوجد في كلام بعض الماجنين المستهزئين ببعض شعائر الدين.
كما نقل ذلك الإمام النووي -رحمه الله- في (بستان العارفين):
أن بعض طلبة العلم كانوا يختلفون إلى بعض المحدثين في أزقة البصرة، فيسرعون في المشي فكان معهم رجل ماجن في دينه؛ فقال: ارفعوا أرجلكم عن أجنحة الملائكة, لا تكسروها كالمستهزئ المنكر؟! فما زال ذلك الماجن في موضعه حتى جفت رجلاه, وسقط على الأرض.
ونقل عن عن خليع آخر: أنه جعل في عقبيه مسامير من حديد؛ وقال: أريد أن أطأ أجنحة الملائكة، فأصابه أكلة في رجليه.
وقيل: شلت رجلاه ويداه وسائر أعضائه. انتهى بمعناه.
ج. الرد على من قال: إن الملائكة عبارة عن العقول والنفوس, أو الكواكب:
لا شك أن من ادعى أن الملائكة -عَلَيْهِم السَّلامُ- عبارة عن العقول والنفوس أو الكواكب، لا دليلَ لهم على ما ادعوه؛ بل إن الأدلة القرآنية والنبوية مستفيضة في التأكيد على وجود الملائكة، وأنهم حقيقة، ولهم أسماء وأعمال ووظائف، وأنهم كثيرون جدًّا.
وأما من ادعى أنهم عبارة عن هذه الكواكب العلوية السيارة، فنقول لهم: إن هذه الكواكب العلوية ما هي إلا أجرام فضائية، تسير بأمر الله عز وجل وتدبيره وتقديره.
وإنها آيات كونية من آيات الله عز وجل لا تضر ولا تنفع, وليس لها من خصائص الألوهية شيء، وإنما هي كواكب سيارة مثل كوكب الأرض الذي نعيش عليه.
وقد أثبتت الدراسات الكونية المعاصرة أن هذه الكواكب تحمل خصائص كوكب الأرض، فمن زعم أنها تتوسط له عند الله عز وجل حال الدعاء والتضرع والرجاء؛ فقد كذب على الله عز وجل.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في الرد على الفلاسفة المنكرين للملائكة:
“قيل لهم: أما إثباتكم أن في السماء أرواحًا فهذا يشبه ما في القرآن وغيره من كتب الله؛ ولكن ليست هي الملائكة كما يقول الذين يزعمون منكم أنهم آمنوا بما أنزل على الرسول، وما أنزل من قبله، ويقولون: ما أردنا إلا الإحسان والتوفيق بين الشريعة والفلسفة.
فإن قالوا: العقول والنفوس عند الفلاسفة هي الملائكة عند الأنبياء، وليس كذلك، لكن تشبهها من بعض الوجوه؛ فإن اسم الملائكة والملك يتضمن أنهم رسل الله، كما قال تعالى {جَاعِلِ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً} [فاطر: 1] وكما قال: {وَالْمُرْسَلاَتِ عُرْفًا} فالملائكة رسل الله في تنفيذ أمره الكوني الذي يدبر به السموات والأرض، كما قال تعالى: {حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُون} [الأنعام: 61] وكما قال تعالى {بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُون} [الزخرف: 80]، وأمره الديني الذي تنزل به الملائكة؛ فإنه قال: {يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ} [ النحل: 2]، وأمثال هذه النصوص التي يذكر فيها من أصناف الملائكة وأوصافهم وأفعالهم, ما يمنع أن تكون على ما يذكرونه من العقول والنفوس، أو أن يكون جبريل هو العقل الفعّال والقوى الصالحة، والشياطين هي القوة الفاسدة -كما يزعم هؤلاء.
وأيضًا، فزعمهم أن العقول والنفوس التي جعلوها الملائكة، وزعموا أنها معلولة عن الله، صادرة عن ذاته صدورَ المعلول عن علته -هو قول بتولدها عن الله، وأن الله ولد الملائكة؛ وهذا مما رده الله ونزه نفسه وكذب قائله، وبين كَذِبَهُ بقوله: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَد * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَد} [الإخلاص: 3، 4] وقال تعالى: {أَلاَ إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُون * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُون * أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِين * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُون * أَفَلاَ تَذَكَّرُون * أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِين * فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِين} [الصافات: 151-157] وبقوله: {وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُون} [الأنعام: 100] وقوله {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُون * لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُون * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُون} [الأنبياء: 26-28] وقال تعالى: {لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} [النساء: 172]” انتهى كلامه.
فتبين بهذا أن الملائكة -عَلَيْهِم السَّلامُ- مخلوقات قائمة حقيقية، وأنهم أجسام نورانية تتشكل حسب المشيئة الإلهية، وليسوا عبارةً عن العقول والنفوس أو الكواكب -كما يزعمه هؤلاء الفلاسفة والصابئون, ومن سلك مسلكهم.