المنهاج الرباني وخصائصه
المنهاج الرباني هو المنهاج الذي أنزله الله سبحانه وتعالى على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ليبلغه للناس أجمعين، ولنبينه لهم، ولتختتم به الرسالات السماوية، وهو من عند الله وحده، وهو إما وحي يتنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمعنى والنص، أو إلهام من الله سبحانه وتعالى لرسوله ونبيه بالمعنى، ويصوغ الرسول صلى الله عليه وسلم هذا المعنى بأسلوبه النبوي، وبذلك يكون المنهاج الرباني هو القرآن الكريم وما صح من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم.
وهذا المنهاج على هذه الصفة يتميز عن كل ما يمكن أن يضعه البشر من مناهج وضعية بصفات تبرز علوه وربانيته، ونورد هنا أهم هذه الخصائص والصفات حتى يظل يتميز المنهاج الرباني قرآنًا وسنة، أمرًا بارزًا في حياة المؤمن واضحٌ في تصوره سمة من سمات إيمانه، كان عاملًا من سائر العوامل في تحديد الممارسة الإيمانية، وتوجيه الطاقة في شتى الميادين.
الدعوة ونهجها التربية وأسسها العظمى وروابطها:
نود من الدارس أن يقف عند كل آية نقتبسها من كتاب الله ليتدبرها، ويرى الظلال المتجددة مع كل آية، ولِيَرَى أهمية تدبر كتابَ الله؛ حيث تتكامل الصورة هناك، وتتناسق في إعجاز كامل، لم نورد هنا الآيات المتتالية لمجرد التكرار فمع كل آية ظل جديد، وعسى ألا تغيب هذه الظلال عن الدارس إذا توقف عندها وتفكر وتدبر:
أولًا: إنه الحق المطلق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، إنه الحق المطلق لأنه من عند الله وليس من عند أحد من البشر، فما يصدر عن البشر مهما عظم ونبغ؛ فإنه معرض للخطر والاضطراب؛ ولذلك نجد أن الله سبحانه وتعالى ربط في كتابه بين نزول الكتاب من عنده وبين كونه الحق.
فقال سبحانه وتعالى: الَمَر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالّذِيَ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رّبّكَ الْحَقّ وَلَـَكِنّ أَكْثَرَ النّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ} [الرعد: 1]، وقال عز وجل: {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبّكَ الْحَقّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَىَ إِنّمَا يَتَذَكّرُ أُوْلُواْ الألْبَابِ} [الرعد: 19]، وقال عز وجل: {تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقّ وَإِنّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [البقرة: 252]، وقال عز وجل: {نَزّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ}(3) {مِن قَبْلُ هُدًى لّلنّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [آل عمران: 3، 4].
وفي هذه الآية من سورة “آل عمران” نرى امتداد الحق عبر الأجيال، ونرى اتصاله الدائم حتى خُتم بالفرقان مصدقًا لما بين يديه، قال سبحانه وتعالى: {الْحَقّ مِن رّبّكَ فَلاَ تَكُونَنّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [آل عمران 60] وقال سبحانه {يَأَيّهَا النّاسُ قَدْ جَآءَكُمُ الرّسُولُ بِالْحَقّ مِن رّبّكُمْ فَآمِنُواْ خَيْراً لّكُمْ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنّ للّهِ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً} [النساء: 170].
فمع كل آية ظلال جديدة تعرض الحق الذي أنزل من عند الله عرضًا يقرع النفس من كل جوانبها، حتى تؤمن وتخبت: {فَآمِنُواْ خَيْراً لّكُمْ} وحتى تنفي الريبة {فَلاَ تَكُونَنّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [البقرة: 147].
وهذا الحق الذي أنزل من السماء مصدقًا لما بين يديه كان كذلك مهيمنًا عليه قال تعالى: {وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ عَمّا جَآءَكَ مِنَ الْحَقّ لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَآءَ اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمّةً وَاحِدَةً وَلَـَكِن لّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَىَ الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [المائدة: 48].
فهو الحق من عند الله متصل وممتد عبر الأجيال، خُتم بالفرقان مصدقًا لما بين يديه، ومهيمنًا عليه، فجمع الحق ليحكم بين الناس، ولا يصد عن ذلك إلا الهوى، فكتاب الله إذًا يمحص القلوب، ويفتح ميادين السباق إلى العمل الصالح إلى الخيرات حتى يرجع الناس كلهم إلى الله يوم القيامة يوم الحساب؛ فينبئهم بما عملوا، وبما اختلفوا فيه، ويكون كتاب الله حجة على الناس، قال سبحانه: {إِنّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ بِمَآ أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُنْ لّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً} [النساء: 105].
وهكذا تتوالى الظلال لتعرض هذا الحق الذي أنزل من السماء عرضًا متكاملًا متناسقًا مترابطًا، يعرض امتداده واتصاله، ويعرض ختامه بالقرآن الكريم، ويعرض مهمته ودوره ليصدق ما بين يديه، وليهمن عليه وليحكم بين الناس، قال سبحانه {لّـَكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلآئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَىَ بِاللّهِ شَهِيداً} [النساء: 166] فلينكر المنكرون، وليبدر الظالمون، وليأبَ الكافرون؛ فإن ذلك كله لا يغير من الحق شيئًا.
ويظل كتاب الله، ويظل منهاج الله قرآنًا وسنة هو الحق؛ لأن الله يشهد بذلك، ولأن الله أنزله بعلمه والملائكة يشهدون، وكفى بالله شهيدًا، فذلك برهان فوق كل برهان، وحجة أصدق من كل حجة، إنه الحق من عند الله والحمد لله رب العالمين، وتتوالى الآيات في كتاب الله تمد الظلال، وتعرض الجوانب حتى لا تدع جانبًا إلا ذكرته، ولا صورة إلا عرضتها.
ونتابع هنا بعض القبسات من كتاب الله، لتطمئن النفوس، وتخشع القلوب قال تعالى: {قُلْ يَأَيّهَا النّاسُ قَدْ جَآءَكُمُ الْحَقّ مِن رّبّكُمْ فَمَنُ اهْتَدَىَ فَإِنّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلّ فَإِنّمَا يَضِلّ عَلَيْهَا وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ}(108) {وَاتّبِعْ مَا يُوحَىَ إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتّىَ يَحْكُمَ اللّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [يونس: 108، 109].
ولا يستطيع مخلوق أن يجمع الحق أبدًا، إن خصائص الإنسان تتعارض مع ذلك، إنه ضعيف إنه يُخلق وهو لا يعلم شيئًا ثم ينمو علمه مع نموه وجهده، إنه يتعلم، ولكن علمه محدود وقليل جدًّا مهما امتدت القرون والأجيال، ومهما امتدت الجهود والبحوث، فلا يستطيع أن يأتي بالحق إلا الذي يعلم كل شيء ويخلق كل شيء، إنه علام الغيوب بيده مفاتيح الغيب لا يعلمها إلا هو لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، قال سبحانه وتعالى: {لاّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42] إنه الحق المطلق الكامل من عند الله لا من عند البشر، إنه مبرأ من أي باطل، لا يأتيه الباطل أبدًا ولا يدخل فيه أبدًا.
ثانيًا: إنه تام كامل ومفصل بين محكم متناسق؛ ذلك لأنه خاتم الرسالات السماوية، مصدق لما بين يديه ومهيمن عليه، فجاء رحمة من عند الله بتكامله وتناسقه، قال اللهعز وجل: {حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَآ أُهِلّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدّيَةُ وَالنّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ السّبُعُ إِلاّ مَا ذَكّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِالأزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنّ اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ} [المائدة: 3].
وقال عز وجل: {وَتَمّتْ كَلِمَةُ رَبّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاّ مُبَدّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام: 115]، وقال سبحانه: {وَمَا مِن دَآبّةٍ فِي الأرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مّا فَرّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمّ إِلَىَ رَبّهِمْ يُحْشَرُونَ} [الأنعام: 38].
ويرى بعض المفسرين في قوله تعالى: {مّا فَرّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} أن الكتاب هو أم الكتاب، وقيل: هو علم الله، وقيل هو القرآن، وتكامل منهاج الله يقتضي تفصيله وبيانه؛ فجاء مفصلًا بينًا قال تعالى: {الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمّ فُصّلَتْ مِن لّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود: 1] وقال عز وجل: {حـمَ}(1) {تَنزِيلٌ مّنَ الرّحْمَـَنِ الرّحِيمِ}(2) {كِتَابٌ فُصّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [فصلت 1: 3] وقال سبحانه: {وَهَـَذَا صِرَاطُ رَبّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصّلْنَا الاَيَاتِ لِقَوْمٍ يَذّكّرُونَ} [الأنعام: 126] وقال سبحانه: {وَكَذَلِكَ نفَصّلُ الاَيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام: 55].
وتتكرر كلمة التفصيل في سورة “الأنعام”، وفي سور أخرى، ومع كل تكرار جانب جديد وإيحاء عميق حتى إذا اجتمعت الآيات تكاملت الصورة ووضح التفصيل بقوة وبيان، وفي سورة “الأعراف” يتكرر العرض مع ظلاله الجديدة، توضح الغاية، وتبين الرحمة قال سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصّلْنَاهُ عَلَىَ عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 52].
فلم يكن التفصيل عبثًا، وإنما كان فيه حكمة ربانية ورحمة إلهية، فهو من لدن حكيم فأحكمت آياته، ومن لدن خبير ففصلت آياته، وهو لقوم يعقلون أو يفقهون أو يعلمون فصلت آياته لعلهم يذكرون، ولتستبين سبيل المجرمين، وليكون بتفصيله هدى ورحمة للمؤمنين، وكذلك فُصلت آياته لعل الكافرين يرجعون إلى الحق بعد أن قامت عليهم الحجة بتفصيل الآيات.
وعلى هذا النحو من التناسق والتكامل تتوالى الآيات لتعرض الصورة الكاملة لبيان المنهاج الرباني، فهو كتاب مبين، وهو آيات بينات يبينها الله سبحانه وتعالى رحمة منه لقوم يعقلون، ولعلهم يعقلون أو يتفكرون أو يهتدون، قال سبحانه وتعالى: {كَذَلِكَ يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلّكُمْ تَعْقِلُونَ} [البقرة: 242]، وقال عز وجل: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مّنَ النّارِ فَأَنقَذَكُمْ مّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 103].
وقال سبحانه: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَآ إِلاّ الْفَاسِقُونَ} [البقرة: 99]، وقال عز وجل: {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيّنَاتٍ وَأَنّ اللّهَ يَهْدِي مَن يُرِيدُ} [الحج: 16]، وفي سورة “العنكبوت” يقول سبحانه: {وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاّرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ}(48) {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيّنَاتٌ فِي صُدُورِ الّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلاّ الظّالِمُونَ} [العنكبوت: 48، 49] كما يقول سبحانه: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مّبَيّنَاتٍ وَمَثَلاً مّنَ الّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لّلْمُتّقِينَ} [النور: 34].
وقال -جل شأنه-: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلّ أُمّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مّنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَىَ هَـَؤُلاَءِ وَنَزّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لّكُلّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىَ لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89] وقال عز وجل: {الَر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} [يوسف: 1] وهذه لمحات وقبسات تهدف إلى عرض الصورة حتى نرى كيف أنها تتكامل مع توالي الآيات ومع كل آية ظل جديد ولفتة جديدة وجانب جديد.
ثالثًا: وهو هدى ونور، وشفاء ورحمة، وموعظة وبشرى وتذكرة، ولقد رأينا من ذلك قبسات في الآيات السابقة، ونورد هنا آيات أخرى حتى تزداد الصورة وضوحًا واليقين قوة، قال تعالى: {هُوَ الّذِيَ أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىَ وَدِينِ الْحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33] وقال عز وجل: {طسَ تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مّبِينٍ}(1) {هُدًى وَبُشْرَىَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [النمل: 1، 2] وقال: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ}(2) {هُدًى وَرَحْمَةً لّلْمُحْسِنِينَ} [لقمان: 2، 3].
وقال -جل شأنه-: {هَـَذَا بَصَائِرُ لِلنّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [الجاثية: 20] وهو نور من عند الله كما قال عز وجل: {يَا أَيّهَا النّاسُ قَدْ جَآءَكُمْ بُرْهَانٌ مّن رّبّكُمْ وَأَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُوراً مّبِيناً} [النساء: 174]، كما قال سبحانه: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَـَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نّهْدِي بِهِ مَن نّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنّكَ لَتَهْدِيَ إِلَىَ صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52].
وقال عز وجل: {فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالنّورِ الّذِيَ أَنزَلْنَا وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [التغابن: 8] وهو شفاء ورحمة قال سبحانه: {وَنُنَزّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظّالِمِينَ إَلاّ خَسَاراً} [الإسراء: 82] وقال سبحانه: {يَأَيّهَا النّاسُ قَدْ جَآءَتْكُمْ مّوْعِظَةٌ مّن رّبّكُمْ وَشِفَآءٌ لّمَا فِي الصّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57].
وتجمع سورة “فصلت” كثيرًا من هذه الخصائص لمنهاج الله جمعًا ربانيًّا معجزًا، جمعًا يقرع القلوب قرعًا قال سبحانه وتعالى: {إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ بِالذّكْرِ لَمّا جَآءَهُمْ وَإِنّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ}(41) {لاّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}(42) {مّا يُقَالُ لَكَ إِلاّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرّسُلِ مِن قَبْلِكَ إِنّ رَبّكَ لَذُو مَغْفِرَةَ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ}(43) {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أعْجَمِيّاً لّقَالُواْ لَوْلاَ فُصّلَتْ آيَاتُهُ ءَاعْجَمِيّ وَعَرَبِيّ قُلْ هُوَ لِلّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ وَالّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِيَ آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَـَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مّكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت: 41- 44].
إن هذه الآيات الكريمة على يسرها وبيانها وإعجازها جمعت خصائص المنهاج الرباني جمعًا ميسرًا للذكرى، لا يدع مجالًا لبشر ليضيف فيه شرحًا لكنها الرغبة الملحة في النفس تدفع إلى أن نوجز لكلمات تربط بين ما عرضنا في الصفحات السابقة، وتؤكد وتكرر؛ فإن هذا الموضوع تميز المنهاج الرباني يحتاج في واقعنا اليوم إلى إبراز وتكرار وإعادة، إنه كتاب عزيز، إنه حق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، إنه تنزيل من عند الله وحده، من عند الله الحكيم الحميد، أنزله كتابًا أحكمت آياته، فله الحمد على نعمته وفضله، وهو ممتد في أعماق تاريخ الإنسان منذ أول رسالة، وهو قرآن عربي فصلت آياته فكان هدى وشفاء للمؤمنين، نعمٌ تتوالى من الله الحكيم الحميد على عباده، ورحمته تحفهم وتظلهم بالمغفرة.
رابعًا: وهو معجز كل الإعجاز تعهد الله بحفظه، فلا عجب إذًا مع هذه الخصائص أن يكون معجزًا، لا يقوى أحدٌ من البشر أحدًا مهما أنعم الله عليه من نبوغٍ وبيانٍ أن يبلغه، أو أن يأتي بمثله، إنه من عند الله؛ ولذلك كان معجزًا.
وقد تحدى الله سبحانه وتعالى الإنس والجن على أن يأتوا بمثله، أو أن يأتوا بعشر سور مفتريات، أو بسورة، فقال سبحانه: {قُل لّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنّ عَلَىَ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء: 88]، وقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [هود: 13]، وقال عز وجل: {وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مّمّا نَزّلْنَا عَلَىَ عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّن مّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَآءَكُم مّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 23] كما يقول سبحانه: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [يونس: 38].
وهذا الإعجاز وهذا التحدي ما زال قائمًا حتى اليوم، وسيظل قائمًا حتى يرث الله الأرض ومن عليها، ولقد حاول الكذابون كمسيلمة الكذاب وغيره فخابوا وهبطوا في هوة الخزي والفشل، وهذا الإعجاز لا يقتصر على ناحية في القرآن الكريم دون الأخرى، فهو معجز كله ولم تحدد الآيات الكريمة السابقة وجهًا معينًا للإعجاز، ولم تحصره بزمن محدد، إنه معجز في لغته وبيانه، معجز في شرعه وإحكامه، معجز في أسلوبه وآياته، معجز في علم الغيب الذي أتى به، ومصائر الأمم التي عرضها، وعرض الخلق الذي أبانه، وسيظل إعجازه هذا كله يتجدد مع الأيام كلما تجددت آيات الله في الكون أمام الإنسان، حتى يُعلم أنه الحق.
قال الله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الاَفَاقِ وَفِيَ أَنفُسِهِمْ حَتّىَ يَتَبَيّنَ لَهُمْ أَنّهُ الْحَقّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبّكَ أَنّهُ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 53] ومع هذا الإعجاز وهذا التحدي تعهد الله بحفظه، فقال سبحانه: {إِنّا نَحْنُ نَزّلْنَا الذّكْرَ وَإِنّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] لقد تعهد الله بحفظه حتى يستمر الإعجاز والتحدي، وحتى يظل يمد الإنسان بالنور والهدى والشفاء والرحمة والذكرى والموعظة والحق المفصل المبين الحق المتكامل المتناسق على مر العصور وتعاقب الأجيال.
خامسًا: وهو للناس كافة أنزله على نبيه ورسوله؛ ليبلغه ويبينه كافةً للناس، قالسبحانه وتعالى: {يَـَأَيّهَا الرّسُولُ بَلّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رّبّكَ وَإِن لّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ إِنّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [المائدة: 67] وقال عز وجل: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاّ رِجَالاً نّوحِيَ إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ}(43) {بِالْبَيّنَاتِ وَالزّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذّكْرَ لِتُبَيّنَ لِلنّاسِ مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلّهُمْ يَتَفَكّرُونَ} [النحل: 43، 44].
وقال سبحانه: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رّسُولٍ إِلاّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيّنَ لَهُمْ فَيُضِلّ اللّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [إبراهيم: 4] وقال سبحانه: {وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرّسُولَ وَاحْذَرُواْ فَإِن تَوَلّيْتُمْ فَاعْلَمُوَاْ أَنّمَا عَلَىَ رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ} [المائدة: 92].
ويتكرر هذا المعنى بإلحاح شديد في سور عدة كـ: “آل عمران”، و”المائدة”، و”الرعد”، و”إبراهيم”، و”النحل”، و”النور”، و”العنكبوت”، و”يس”، و”الشورى”، و”التغابن”، إن شدة الإلحاح وقوة التكرار لم تكن دون حكمة ربانية، ولعلنا ندرك من ذلك أهمية الرسالة، وتحديد مسئولية الرسل في نطاق طاقاتهم البشرية المتميزة التي من الله عليهم بها، فلقد كانت مهمة كل رسول محصورة في قومه.
أما محمد صلى الله عليه وسلم فقد كانت رسالته للناس جميعًا، قال عز وجل: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ كَآفّةً لّلنّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَـَكِنّ أَكْثَرَ النّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} [سبأ: 28] وقال سبحانه: {قُلْ يَأَيّهَا النّاسُ إِنّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الّذِي لَهُ مُلْكُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لآ إِلَـَهَ إِلاّ هُوَ يُحْيِـي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النّبِيّ الاُمّيّ الّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتّبِعُوهُ لَعَلّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((فُضِّلْتُ على الأنبياء بست؛ أُعْطِيتُ جوامعَ الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهورًا ومسجدًا، وأرسلت إلى الخلق كافة، وخُتم بي النبيون))، وسيمضي منهاج الله يحمله المؤمنون دعاة وعلماء، جنودًا أبرارًا، وشهداء صادقين، جيلًا بعد جيل حتى تتحقق كلمات الله ويأتي الوعد الحق.
ومن هذه الخصائص المميزة نجد أن المنهاج الرباني هو لكل زمان ومكان ولكل جيل وإنسان، ولكل عصر ولكل أمة، هو للخلق كافة، كيف لا وهو منزل من رب العالمين على محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، فلا نبي ولا رسول بعده، وهو الحق المطلق المتكامل المتناسق، وهو الهدى والنور والرحمة والشفاء والذكرى والموعظة، إنه للإنسان كله والعصور كلها، إنه حاجة الإنسان الملحة كحاجته إلى الهواء والماء وإلى الكساء والغذاء، إنه الإيمان، إنه الحياة، قال سبحانه وتعالى: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النّاسِ كَمَن مّثَلُهُ فِي الظّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مّنْهَا كَذَلِكَ زُيّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 122].
سادسًا: وهو ميسر للذكر، ومع هذا الإعجاز جاء المنهاج الرباني ميسرًا للذكر سهلًا لينًا على القلوب المؤمنة، بينًا واضحًا، ولقد تكرر هذا المعنى في سورة “القمر” أربع مرات حتى تطمئن النفوس المؤمنة إلى سهولته ويسره، وحتى تتضح المهمة ويستبين السبيل وتنقطع حجة الكافرين، قال سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ يَسّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذّكْرِ فَهَلْ مِن مّدّكِرٍ} [القمر: 17].
فهو ميسر للذكر، ميسر كله، ميسر للناس جميعًا لمن أراد أن يقبل بإيمانه ذاكرا تاليًا متدبرًا، فقد سهل الله لفظه ومعناه لمن أراده، وهون قراءته وتلاوته. وقال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما: “لولا أن الله يسره على لسان الآدميين، ما استطاع أحدٌ من الخلق أن يتكلم بكلام الله عز وجل: {فَهَلْ مِن مّدّكِرٍ} إنه استفهام بمعنى الأمر، إنه أمر من الله، وليس من عند أحد من البشر، إنه أمر الله إلى عباده بأن ينهضوا فيذكروه، ويحفظوه، ويتلوه ويتدبروه، ثم يمضوا فيعملوا به.
قال سبحانه وتعالى: {فَإِنّمَا يَسّرْنَاهُ بِلَسَانِكَ لِتُبَشّرَ بِهِ الْمُتّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لّدّاً} [مريم: 97] وقال عز وجل: {فَإِنّمَا يَسّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلّهُمْ يَتَذَكّرُونَ} [الدخان: 58] فهو إذًا بهذا اليُسْر بشرى للمتقين، ونذيرًا للكافرين، وهو مغفرة للعالمين، ولم يقتصر اليسر على اللسان فحسب وإنما كان كذلك في التكاليف كلها حين جاءت في حدود سعة الإنسان وطاقته، يريد الله بها اليسر لعباده، ولا يريد لهم العسر، قال سبحانه وتعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الّذِيَ أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لّلنّاسِ وَبَيّنَاتٍ مّنَ الْهُدَىَ وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَىَ سَفَرٍ فَعِدّةٌ مّنْ أَيّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدّةَ وَلِتُكَبّرُواْ اللّهَ عَلَىَ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185].
وامتد اليسر إلى الدين كله في لغته وبيانه في تكاليفه في شرعه وأحكامه، حين رفع الله عن عباده الحرج في الدين قال الله سبحانه وتعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللّهِ حَقّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدّينِ مِنْ حَرَجٍ مّلّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَـَذَا لِيَكُونَ الرّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النّاسِ فَأَقِيمُواْ الصّلاَةَ وَآتُواْ الزّكَـاةَ وَاعْتَصِمُواْ بِاللّهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَىَ وَنِعْمَ النّصِيرُ} [الحج: 78].
ويزيد هذا اليسر وضوحًا وقوة في نفوس المؤمنين حين نضيف إلى ذلك ما سبق أن عرضناه من أنه مفصل محكم بين، إنه كتاب مبين، وإنه آيات بينات، وحين نؤكد هذه الحقائق مع أدلتها هذه فإنما نفترض معرفة اللغة العربية معرفة سليمة، فهي لغة القرآن وهي لغة الإسلام وهي لغة أهل الجنة، وقد يجد البعض مشقة أو عسرًا في التلاوة أو التدبر أو الحفظ أو الممارسة، فإن مصدر ذلك أنفسهم هم، لا منهاج الله، إنه الجهل فليرفعوا عن أنفسهم الجهل، وليدرسوا اللغة وليبذلوا الجهد الذي جعله الله في إطار وسعهم، أو إنه الهوى والاسترخاء أو الوهن وضعف الإيمان.
فمنهاج الله ميسرٌ لينٌ على قلوب المؤمنين يزيدهم بشرى وإيمانًا، وأما الكافرون فهو عليهم عمى يزيدهم رجسًا إلى رجسهم، قال سبحانه وتعالى: {وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مّن يَقُولُ أَيّكُمْ زَادَتْهُ هَـَذِهِ إِيمَاناً فَأَمّا الّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ}(124) {وَأَمّا الّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَىَ رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة: 124، 125].
ولقد مرت الآيات في سورة “فصلت” نقتبس منها قوله تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أعْجَمِيّاً لّقَالُواْ لَوْلاَ فُصّلَتْ آيَاتُهُ ءَاعْجَمِيّ وَعَرَبِيّ قُلْ هُوَ لِلّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ وَالّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِيَ آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَـَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مّكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت: 44].
ونود أن نؤكد أن القرآن الكريم والمنهاج الرباني كله قرآنًا وسنة جاء كله ميسر للذكر، ميسرًا للتدبر، ميسرًا للممارسة إن اليسر فيه كله وليس في جزء منه ذلك لأن الله سبحانه وتعالى أنزله للناس كافة، ولا يتعارض هذا مع تفاوت المواهب والقدرات، وتفاوت ما يأخذه هذا أو ذاك، فكل إنسان مكلف شرعًا محاسب يوم القيامة، فهو قادر بما وهبه الله على أن يأخذ من منهاج الله تعالى قدرَ وسعه وطاقته، ومسئوليته وأمانته، ومع هذا اليسر؛ فإن في العمل كله ابتلاءً وتمحيصًا.