المنهج البياني في التفسير
لقد كان القرآن الكريم معجزًا للعرب تحداهم فلم يستطيعوا الإتيان بمثله، أو بعشر آيات، أو بأقصر سورة من القرآن، فهذا عمر رضي الله عنه وهو من هو، يقع في أسرار البيان القرآني في وقت كان الشر يتطاير من عينيه حين علم بإسلام أخته، فذهب ليفتك بها؛ فإذا به يقع في أسر بيان آية من سورة طه، لا يملك معها إلا الإذعان والإيمان حيث لا عناد، وهذا جبير بن مطعم رضي الله عنه يقع في أسر البيان القرآني حين سمع من فم الرسول صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور: 35]، حتى اعترف وكَادَ قلبُهُ يطيرُ وآمن، ويقول: ذلك أول ما وقر الإسلام في قلبي؛ لأنه لم يكن هناك عناد.
بعض الكتب أو الشخصيات التي اهتمت بهذا المنهج البياني:
1. أمين الخولي، والتفسير البياني:
ولد سنة (1895)، بشوشاي، مركز أشمون، بمحافظة المنوفية، فأنشأ مدرسة أدبية، وكان مهتمًا بالمنهج البياني في تفسير القرآن الكريم.
حينما ننظر إلى تفسيره، وأثر ذلك المنهج عليه، نجد أنه يذكر تفسير القرآن الكريم حسب الموضوعات، وليس حسب تسلسل السور في القرآن الكريم.
وبيّن أن القرآن الكريم لفت إلى الرشاد والصواب في السلوك الذي يريده من أصحاب الأموال، قال تعالى: {لَـَكِنِ الرّسُولُ وَالّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُوْلَـَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَـَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [التوبة: 88]، وقال تعالى: {الّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللّيْلِ وَالنّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 274]، ولن يكون الإنفاق بالليل والنهار، وفي السر وفي العلن، إلا من مالٍ كثيرٍ يجتهد في سبيل جمعه أولئك المنفقون.
فهذه الآيات وأمثالها لفت القرآن أقوى لفتٍ إلى خيريةِ غريزة التملك المهذبة الموفقة، فالقرآن بعد مسلكه النفسي في تقرير هذه الحقيقة عن الفطرة، يشير إلى أنها في حاجة إلى رقابةٍ مرشدةٍ وتوجيهٍ سديدٍ.
ووضح في تحويل نفسي أن القرآن حين يقصد إلى تعلية غريزة التملك وتوجيهها لم يعمد قط إلى هذا القمع الكابت، فلم يجعل المال لعنةً ولا الغنى خطيئة، ولا طرد الغني من ملكوت الله، ولا وجه إلى الزهد المنقطع عن الحياة؛ بل فتح مسالك ومنافذ للتحويل النفسي لبعض ما سمعنا من توجيه، لا يضن ويبخل ولا يبدد ويسرف، ولا يفتر ويستكبر ولا ينكر القيم ويجحد اليقين، ولا يحسب المال هو الدنيا والآخرة جميعًا، ولا ينسى ما هو خير ثوابًا وخير أملًا.
ثم يتحدث عن غريزة التملك، فيقول: القرآن حين يحمل ملكية الفردية واقعي لا يفجأ الناس بتجردهم من أموالهم تجريدًا يفتر همتهم، ويثني عزائمهم ويقعدهم، فلا يبتكرون ولا يجددون ولا يزودون عن حماهم، ثم هو حين يهز أسس هذه الملكية الخاصة يكون مثاليًّا، يكف من غلواء الأغنياء، ويزلزل صلتهم بأموالهم، ويجعلها للناس جميعًا، هم عليها أمناء مستخلفون، وهي مال الله لا مالهم.
بهذا التعديل الديني، والأساس السماوي الصبغة، الإلهي الروح، يوقيهم أخطار الجموح في التملك والوصول إليه بأي وسيلة وإهدار الخلق والفضيلة، واستمع إليه حين يحدث كثيرًا عن أداء هؤلاء الواجدين لما عليهم من واجبات الزكاة، فيستعمل في ذلك كله كلمة من الإيتاء، لا يغيرها في بضع وعشرين مرة استعمل فيها مادة واحدة هي{وَآتِ} لم يغيرها على كثرة ما قال عن الزكاة، فتراها في صور متعددة: {أَقَامُواْ الصّلاَةَ وَآتَوُاْ الزّكَـاةَ} [الحج: 41]، و {وَأَقِيمُواْ الصّلاَةَ وَآتُواْ الزّكَاةَ} [البقرة: 43]، {وَإِقَامِ الصّلاَةِ وَإِيتَآءِ الزّكَـاةِ يَخَافُونَ يَوْماً} [النور: 37]، و {وَالْمُقِيمِينَ الصّلاَةَ وَالْمُؤْتُونَ الزّكَاةَ} [النساء: 162].
وتقرأ هذا فتسأل: هل للكلمة حس فني خاص يجعل استعمالها موحيًا بشعور نفسي، يجده من ينصت لهذا القرآن المعجز، وإذا الجواب عن هذا السؤال: نعم، إن المادة ترجع في أصل معناها جملة إلى الاستقامة في السير والسرعة في العطاء، كما أن منها المجيء بسهولة، ومن هنا تحس إيحاء التعبير القرآني حينما يخصها للتعبير عن أداء الواجبين لزكاة أموالهم، حين يؤدونها لأصحاب الحق فيها، ويؤدونها من مال الله الذي آتاهم وينفقون مما جعلهم مستخلفين فيه، فما أقوى أن يشعر التالي المتأمل من قريب وفي قوة أن الحرص على استعمال هذه المادة في أداء الزكاة، إنما هو التعبير عن إعطاء في سرعة واتجاه إلى الإعطاء يتم في سهولة.
وفي قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا وَصَلّ عَلَيْهِمْ} [التوبة 103]، قال الخولي: نشعر في مادة الأخذ بأنها التناول الجاد الحازم القوي، تحسه واضحًا في مثل قوله تعالى: {وَلْيَأْخُذُوَاْ أَسْلِحَتَهُمْ} {وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ} [النساء 102]، و {فَيُؤْخَذُ بِالنّوَاصِي وَالأقْدَامِ} [الرحمن: 41]، فنستشف هذا الجد المتناول، وبهذا يخرج الصدقة عن مفهوم الامتنان والتفضل؛ بل إن الإحسان في عامة استعماله هو ضد الإساءة: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء 7]، و {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [الأنعام: 151]، وبذلك ينفر الحس القرآني الدقيق دائمًا من أن يستعمل في ذكر المال المصلح لحياة الجماعة، هذا الإحساس بمعنى الإعطاء المتفضل والبذل المنعم، والأداء المترفع المستعلي الذي يسير في القلوب، ويهيج النفوس، ويفسد ما بين المؤمنين، وإنما المؤمنون إخوة، وبهذا الأسلوب البياني، وبهذا الأسلوب الموضوعي، الذي يتحدث فيه عن موضوع في القرآن الكريم، بهذه الصورة الجذابة المقربة للهدف القرآني؛ كان هذا هو أمين الخولي.
2. عائشة عبد الرحمن – بنت الشاطئ- والتفسير البياني:
إن لمنهجها قواعدَ في التفسير، نجد أن أهمها العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولقد قررت هذا في مقدمة تفسيرها، ورتبت عليها نظرتها إلى أسباب النزول؛ حيث قالت: إن المرويات في أسباب النزول موضع اعتبار في فهم الظروف التي لبست نزول الآية مع تقدير أن الصحابة الذين عاصروا نزولها، ورويت عنهم أقوال فيها، ربطها كل منهم بما وَهِمَ أو فَهِمَ أنه السبب في نزولها، وهذا هو معنى قول علماء القرآن: إن المرويات في أسباب النزول يكثر فيها الوهم ونقدر معه أن السببية فيها ليست بمعنى العلة التي لولاها لما نزلت الآية، وأن العبرة في كل حال بعموم اللفظ المفهوم من صريح نصها، لا بخصوص السبب الذي نزلت فيه.
أما المرحلة التطبيقية عند بنت الشاطئ، فهي ترد سبب النزول ثم تعقب عليه بقاعدة الأصوليين هذه وتعلق عليه، ومثال ذلك: قولها في تفسير قوله تعالى: {إِنّ الإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ}(2) {إِلاّ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ} [العصر: 2- 3]،
قالت: وللمفسرين في {الإِنسَانَ} قولان: إنه لعموم الجنس، أو أن “ال”، للعهد مراد بالإنسان، جماعة من المشركين الوليد بن المغيرة، والعاصي بن وائل، والأسود بن عبد المطلب، ولا نقف عند ما اختلفوا فيه؛ فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب الذي نزلت فيه الآية، والسياق ظاهره لا يخص الإنسان بفلان أو بآخر، والتعميم فيه مستفاد صراحة من الإطلاق، ثم استثناء: {إِلاّ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ} وهذا الاستثناء ينقطع إذا ما كان الإنسان خاصًّا بالمعهودين الذين ذكروهم، وليس فيهم من يخرج بالاستثناء مع الذين آمنوا وعملوا الصالحات.
فهي لا تكتفي بإيراد القاعدة الأصولية؛ بل تحلل سبب رفضها، ولكنها أحيانًا تكتفي بإيراد القاعدة، ومثال ذلك: قولها فيما ورد من سبب نزول قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ الّذِي يُكَذّبُ بِالدّينِ} قالت: وقالوا في أسباب النزول: إنها نزلت في أبي سفيان، أو العاص بن وائل السهمي، أو الوليد بن المغيرة، أو أبي جهل، وقال ابن عباس: نزلت في منافق جمع بين البخل والمراءاة، والعبرة على كل حال بعموم اللفظ.
ومن منهجها: استقراء اللفظ القرآني في كلِّ مواضع وروده.
3. منهج سيد قطب في التفسير:
لن نجد أفضل من تفسير (ظلال القرآن) لسيد قطب مثالًا على منهج التذوق الأدبي في التفسير، فنجد أنه هذا التفسير يشتمل على الأسلوب الأدبي الراقي، فسيد قطب -رحمه الله- آتاه الله موهبة أدبية رائعةً وأسلوبًا أدبيًّا ساميًا، وقد انفرد سيد قطب -رحمه الله- بهذا الأسلوب من بين كثير من المفسرين في القديم وفي الحديث، فلا تكاد مهما بلغ جهدك أن تجد أحدًا يجاريه في أسلوبه الأدبي المميز؛ فمثلًا حينما يتعرض لتفسير سورة الضحى يقول: هذه السورة بموضوعها وتعبيرها ومشاهدها وظلالها وإيقاعها لمسة من حنان ونسمة من رحمة، وطائف من ود، ويد حانية تمسح على الآلام والمواجع وتسكب البرد والطمأنينة واليقين.
فهذا الأسلوب الأدبي الرائع يجذبك إلى معرفة ما يدور في هذه السورة، فمثلًا: أقتطف آية أو آيتين أو ثلاث تحدث عنهما سيد قطب بهذا الأسلوب الأدبي، في قوله تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَىَ}(6) {وَوَجَدَكَ ضَآلاّ فَهَدَىَ}(7) {وَوَجَدَكَ عَآئِلاً فَأَغْنَىَ} [الضحى: 6: 8].
يقول: ألا تجد مصداق هذا في حياتك؟ ألا تحس مس هذا في قلبك؟ ألا ترى أثر هذا في واقعك؟
ومثل هذا الأسلوب الأدبي الرائع، تراه واضحًا جليًّا عند تفسيره لقوله سبحانه: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نّاضِرَةٌ}(22) {إِلَىَ رَبّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22، 23].
يقول: إن هذا النص ليشير إشارة سريعة إلى حالة تعجز الكلمات عن تصويرها، كما يعجز الإدراك عن تصويرها بكل حقيقتها، ذلك حين يعد الموعودين السعداء بحالة من السعادة لا تشبهها حالة حتى لتتضاءل إلى جوارها الجنة بكل ما فيها من ألوان النعيم، هذه الوجوه الناضرة، نضرها أنها إلى ربها ناظرة، فأيّ مستوى من الرفعة هذا؟ وأي مستوى من السعادة؟! إن روح الإنسان لا تستمتع أحيانًا بلمحة من جمال الإبداع الإلهي في الكون، أو النفس تراها في الليلة القمراء أو الليل الساجي، أو الفجر الوليد، أو الظل المديد، أو الصحراء المنسابة، أو الروض البهيج، أو الطلعة البهية، أو القلب النبيل، أو الإيمان الواثق، أو الصبر الجميل، إلى آخر مطالع الجمال في هذا الوجود، فتغمرها النشوة، وتفيض بالسعادة، وتتوارى عنها أشواك الحياة، وما فيها من ألم وقبح وصراعِ شهواتٍ وأهواء، فكيف بها وهي تنظر لا إلى جمال صنع الله، ولكن إلى جمال ذات الله، إلا أنه مقام يحتاج أولًا إلى مدٍّ من الله، ويحتاج ثانيًا إلى تثبيت من الله؛ ليملك الإنسان نفسه، فيسجد ويستمتع بالسعادة التي لا يحيط بها وصف، ولا يتصور حقيقتها إدراك، {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نّاضِرَةٌ}(22) {إِلَىَ رَبّهَا نَاظِرَةٌ} وما لها لا تتنضر، وهي إلى جمال ربها تنظر، إن الإنسان لينظر إلى شيء من صنع الله في الأرض من طلعة بهية، أو زهرة ندية، أو فعل جميل؛ فإذا السعادة تفيض من قلبه على ملامحه، فيبدو فيها الوضاءة والنضارة، كيف بها حين تنظر إلى جمال الكمال مطلقًا من كل ما في الوجود من شواغل عن السعادة بالجمال، فما تبلغ الكينونة الإنسانية ذلك المقام، إلا وقد خلصت من كل شائبة تصدها عن بلوغ ذلك المرتقى الذي يعز على الخيال كل شائبة لا فيما حولها فقط، ولكن فيها هي ذاتها من دواعي النقص والحاجة، إلى شيء ما سوى النظر إلى الله، فأما كيف تنظر وبأيّ جارحة تنظر، وبأيّ وسيلة تنظر، فذلك حديث لا يخطر على قلبٍ يمسه طائفٌ من الفرح، الذي يطلقه النص القرآني في القلب المؤمن والسعادة التي يفيضها على الروح، والتشوف والتطلع والانطلاق، فما بال أناس يحرمون أرواحهم أن تعانق هذا النور الفائض بالفرح والسعادة، ويشغلونها بالجدل حول مطلق، لا تدركه العقول المقيدة بمألوفات العقل ومقرراته.
إن ارتقاء الكينونة الإنسانية وانطلاقها من قيود هذه الكينونة الأرضية المحدودة، هو فقط محط الرجاء في التقائها بالحقيقة الطليقة يوم ذاك، وقبل هذا الانطلاق سيعز عليها أن تتصور مجرد تصور كيف يكون ذلك اللقاء.
رحمك الله يا صاحب (الظلال في تفسير القرآن)؛ حيث شوقتنا لرؤية الله سبحانه وتعالى والعمل لرؤية ربنا سبحانه وتعالى.
الأساس الأول الذي يقوم عليه تفسير سيد قطب: تذوق النص القرآني:
يقول سيد قطب: إن في هذا القرآن سرًّا خاصًّا يشعر به كل ما يواجه النصوص ابتداء قبل أن يبحث عن مواضع الإعجاز فيها، إنه يشعر بسلطانٍ خاص في عبارات هذا القرآن، يشعر أن هناك شيئًا ما وراء المعاني التي يدركها العقل من التعبير، وأن عنصرًا ما ينسكب في الحس بمجرد الاستماع لهذا القرآن، يدركه بعض الناس واضحًا، ويدركه بعض الناس غامضًا.
الأساس الثاني: الواقعية، والحركة:
ويتميز صاحبه أنه لم يكتبه مرة واحدة؛ بل كتبه مرة تحت ظلال المنبر، ومرة تحت ظلال السيوف، كتبه مرة بمداد قلمه، وأخرى بدماء قلبه؛ فهذا هو السبب في أن تفسيره فيه واقعية، وفيه حركية، فيؤكد -رحمه الله- أن القرآن كان دائمًا في المعركة سواء أكان ميدانها القلوب بين تصورات الجاهلية وتصورات الإسلام، أو كان الجو الخارجي بين الجماعة المسلمة وأعدائها، ويؤكد أن تلك المعركة ما تزال قائمة، فالنفس البشرية هي النفس البشرية، وأعداء الأمة المسلمة هم أعداؤها، والقرآن حاضر وبين أنه لا نجاة للنفس البشرية ولا للأمة المسلمة إلا بإدخال هذا القرآن في المعركة؛ ليخوضها حية كاملة كما خاضها أول مرة، وأنه لا فلاح ولا نجاح ما لم يستيقن المسلمون بهذه الحقيقة.
ويصف القرآن بأنه كائن حي متحرك، يعمل ويتحرك في وسط الجماعة المسلمة، ويواجه حالات واقعة؛ فيدفع هذه ويقر هذه، ويدفع الجماعة المسلمة ويوجهها؛ فهو في عمل دائب وفي حركة دائبة، إنه في ميدان المعركة، وفي ميدان الحياة، وهو العنصر الدافع المحرك الموجه في الميدان.
الأساس الثالث: ترك الإطناب عما أبهم في القرآن الكريم:
فهو في قوله تعالى حكاية لقول الجن: {وَأَنّا لَمَسْنَا السّمَآءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً} [الجن: 8]، قال: أما أين يقف ذلك الحرس ومن هو، وكيف يرجم الشياطين بالشهب؟ فهذا كله مما لم يقل لنا عنه القرآن، ولا الأثر شيئًا، وليس لنا مصدر سواهما نستقي منه عن هذا الغيب شيئًا، ولو علم الله أن في تفصيله خيرًا لنا لفعل، وإذا لم يفعل فمحاولاتنا نحن في هذا الاتجاه عبث، ولا تضيف إلى حياتنا ولا إلى معرفتنا المثمرة شيئًا.
الأساس الرابع: التحذير من الإسرائيليات:
وكان يحذر من الإسرائيليات؛ ولهذا يقول: ولو قد سلمت التوراة من التحريف والزيادات، لكانت مرجعًا يعتمد عليه في شيء من تلك الأحداث، ولكن التوراة أحيطت بالأساطير التي لا شك في كونها أساطير، وشحنت كذلك بالروايات التي لا شك في أنها مزيدة على الأصل الموحى به من الله، فلم تعد التوراة مصدرًا مستيقنًا لما ورد فيها من القصص التاريخي؛ إذن لم يبق إلا القرآن الذي حفظ من التحريف والتبديل، هو المصدر الوحيد لما ورد فيه من القصص التاريخي.
الأساس الخامس: ترك الخلافات الفقهية:
فهو لا يخوض في الاختلافات الفقهية؛ وإنما كان يقول الخلافات الفقهية في هذه الفرعيات ليست من منهجنا في هذا الظلال، فمن أرادها فليطلبها في مواضعها في كتب الفقه.
الأساس السادس: اجتناب الإغراق في المسائل اللغوية:
فمثلا: عند تفسيره لقوله تعالى عن ابني آدم عليه السلام{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقّ إِذْ قَرّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبّلْ مِنَ الاَخَرِ قَالَ لأقْتُلَنّكَ قَالَ إِنّمَا يَتَقَبّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتّقِينَ} [المائدة: 27]، فقد وقف -رحمه الله تعالى- عند كلمة: {فَتُقُبّلَ} فقال: الفعل مبني للمجهول؛ ليشير بناؤه هكذا إلى أن أمر القبول أو عدمه موكول إلى قوة غيبية، وإلى كيفية غيبية، وهذه الصيغة في دون أمرين:
الأول: ألا نبحث عن كيفية هذا التقبل، ولا نخوض فيه.
الثاني: الإيحاء بأن الذي قبل قربانه لا جريرة له توجب الحفيظة عليه، وتبييت قتله، فالأمر لم يكن يد فيه؛ وإنما تولته قوة غيبية.
فهكذا كان سيد قطب لا يقف عند المسائل اللغوية إلا بمقدار دلالتها على ما في الآية، لا ما فيها مما هو خارج عن استعمال الآية.
الأساس السابع: رفض التفسير العلمي.
فهذه هي أهم الأسس التي يقوم عليها منهج سيد قطب -رحمه الله- في (الظلال)؛ لكن هناك ملاحظات على هذا التفسير؛ لأنه لا ينبغي أن ندعي عصمة لسيد قطب ولا لتفسيره؛ فالكمال لله سبحانه وتعالى وحده.
بعض المآخذ التي أخذت على سيد قطب:
ففي التفسير بالمأثور نرى سيد قطب -رحمه الله- يعطيه اهتمامًا كبيرًا، ويورد كثيرًا من الأحاديث في تفسيره، لكنه أحيانًا يورد تفسيره خاليًا من أحاديث صريحة صحيحة، وأحيانًا يورد بعض الأحاديث الضعيفة من غير بيان درجتها وينسبها أحيانًا لغير كتب الرواية.
ومن الملاحظ: أن التزامه لمنهج الواقعية في التفسير قد أوقعه في موقف من الفقه غير سليم؛ ففي تفسيره لقوله تعالى: {وَاعْلَمُوَا أَنّمَا غَنِمْتُمْ مّن شَيْءٍ فَأَنّ للّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال 41]، قال: إن موضع الغنائم بجملته ليس واقعًا إسلاميًّا يواجهنا اليوم أصلًا، فنحن اليوم لسنا أمام قضية واقعة، لسنا أمام دولة مسلمة، وإمامة مسلمة، وأمة مسلمة، تجاهد في سبيل الله، ثم تقع لها غنائم تحتاج إلى التصرف فيها، ليس هناك قضية غنائم؛ لأنه ليس هناك قضية جهاد، والمنهج الإسلامي منهج واقعي لا يشتغل بقضايا ليست قائمة بالفعل، ومِن ثَم لا يشتغل أصلًا بأحكام تتعلق بهذه القضايا التي لا وجود لها من ناحية الواقع.
إنه منهج أكثر جدية وواقعية من أن يشتغل بالأحكام، هذا ليس منهج هذا الدين، هذا منهج الفارغين الذين ينفقون أوقات الفراغ في البحوث النظرية، وفي الأحكام الفقهية، حيث لا مقابل لها من الواقع أصلًا، بدلًا من أن ينفقوا هذه الجهود في إعادة إنشاء المجتمع المسلم.
من أجل هذا الإدراك لجدية المنهج الحي الواقعي الحركي لهذا الدين، لا ندخل هنا في تلك التفصيلات الفقهية الخاصة بالأنفال، والغنائم، حتى يحين وقتها وينشأ المجتمع الإسلامي، ويواجه حالة جهاد فعلي، تنشأ عنه غنائم تحتاج إلى أحكام.
هو يريد أن يتحدث عن المسائل الفقهية التي لها وجود، أما التي لا وجود لها في الواقع، فلا داعي للحديث عنها. وعلى كل حال، نحن نلتمس له عذرًا، بأن كلامه هذا صدر عن انفعالٍ وتأثرٍ، وأنه نفثة مصدور وزفرة مكلوم، اطلع على واقع العالم الإسلامي من زاوية لم ينظر منها أولئك، فقال ما قال، وكان الأولى ألا تصدر عنه مثل هذه العبارات، أما وقد صدرت؛ فإنا ندعو لنا وله بالرحمة والمغفرة.