Top
Image Alt

المنهج التاريخي

  /  المنهج التاريخي

المنهج التاريخي

ننتقل بعد ذلك إلى الحديث عن المنهج التاريخي:

يستخدم المنهج التاريخي في دراسة الظروف الاجتماعية والمؤثرات البيئية، والأحداث السياسية والتاريخية التي تؤثر في الأدب، فتظهر ظواهر معينة في الأدب في عصر من العصور أو في بيئة من البيئات؛ بسبب عوامل بيئية وسياسية واجتماعية، فدراسة الأدب بالتركيز على هذه المؤثرات يسمى المنهج التاريخي.

فإذا أردنا أن ندرس مدى تأثر العمل الأدبي أو صاحبه بالوسط الذي كان يعيش فيه، وفي دراسة الأطوار التي مر بها فن من فنون الأدب أو لون من ألوانه أو إذا أردنا أن ندرس مجموعة من الآراء في الأدب ظهرت في حقبة زمنية معينة، ونوازن بينها وبين آراء أخرى؛ لنستدل من ذلك على صورة عصر من العصور أو جيل من الأجيال أو نتعرف على ظاهرة من الظواهر كيف نشأت؟ وكيف تطورت؟ ومن هم الأعلام الذين أسهموا بنصيب كبير في تطويرها؟ ذلك كله المنهج التاريخي هو الذي يسعفنا فيه.

مثلًا في تاريخ الأدب العربي، إذا أردنا أن ندرس ظاهرة الغزل العذري مثلًا، علينا أن ندرس البيئة التي ظهرت فيها هذه الظاهرة، أن ندرس الملابسات التاريخية والاجتماعية المحيطة بها نتعرف على الشعراء الذين عُرفوا بهذه الظاهرة، نتعرف على أطراف من حياتهم، وندرس أخبارهم، كل هذا منهج تاريخي في دراسة الأدب.

وهذا المنهج له مخاطر، من أخطر مخاطر المنهج التاريخي: الاستقراء الناقص، والأحكام الجازمة، والتعميم العلمي، كما يقول سيد قطب، فالاستقراء الناقص يؤدي بنا دائمًا إلى خطأ في الحكم.

ومن الاستقراء الناقص: الاعتماد على الحوادث البارزة، والظواهر الفذة التي لا تمثل سير الحياة الطبيعي. هذا طبعًا واضح إذا وقفنا في دراسة ظاهرة ما، أو عصر من العصور على الأحداث البارزة فيه، ولم نستقص ونستتبع باقي الحوادث يمكن أن يؤدي ذلك النقص في الاستقراء والتتبع إلى أحكام غير صحيحة.

مثّل الأستاذ سيد قطب للخطأ في استخدام المنهج التاريخي بسبب نقص الاستقراء بما ورد في دراسة الدكتور طه حسين لشعر المجون في العصر العباسي في كتابه (حديث الأربعاء)؛ حيث اتخذ طه حسين من شعر المجون دليلًا على روح هذا العصر.

يقول سيد قطب:” وحكم مثل هذا كان يقتضي دراسة سائر فنون القول في هذا العصر، في سائر فنون التفكير، في سائر مظاهر الحياة، مع دراسة مستندات تاريخية شاملة عن كل ملابسات تلك الفترة قبل إصدار حكم على روح العصر، كالحكم الذي أصدره الدكتور”.

أشار سيد قطب أيضًا إلى كتب “”العبقريات للأستاذ العقاد، وقال: إنه استند في هذه الكتب على بضع حوادث بارزة فذة في تاريخ بعض الشخصيات، بعضها غير مقطوع بصحته لتصوير شخصية بطلها.

ولم يستكبر الشيخ سيد قطب -عليه رحمة الله- ولم يستنكف أن يمثل لخطأ الاعتماد على المنهج التاريخي الناتج عن الاستقراء الناقص، لم يستنكف أن يذكر أنه هو شخصيًّا اعتمد في إصدار حكم على شعور الشاعر العربي بالطبيعة في كتابه (كتب وشخصيات) على استقراء المشهور من الشعر العربي، وقال: وهو حكم قابل للتخطئة، وأنا الآن أحاول أن أعيد الدراسة لاستيعاب المشهور وغير المشهور من هذا الشعر لوزن ذلك الحكم الذي أصدرته متعجلًا، رحمه الله.

وذكر أن الأحكام الجازمة في المنهج التاريخي خطرة كذلك مثل الاستقراء الناقص.

والتعميم العلمي أيضًا من أخطار المنهج التاريخي، ومن مخاطر المنهج التاريخي كذلك إلغاء قيمة الخصائص والبواعث الشخصية، فطول معاناة الملابسات التاريخية والطبيعية والاجتماعية عند أصحاب هذا المنهج يجرفهم إلى إغفال قيمة العبقرية الشخصية وحسبانها من آثار البيئة والظروف.

أما استخدام هذا المنهج في النقد العربي القديم فإننا نجد كثيرًا من النقاد العرب القدماء استخدموا هذا المنهج في حديثهم عن العصور الأدبية وأهم المؤثرات فيها، وفي تراجمهم للشعراء وحديثهم عن البيئات الشعرية المختلفة، نجد أمثلة من ذلك في كتاب (البيان والتبيين) للجاحظ، وفي كتاب (العقد الفريد) لابن عبد ربه، وفي كتاب (الأغاني) لأبي فرج الأصفهاني، وفي كتاب (الأمالي) لأبي علي القالي، وفي كتاب (اليتيمة) للثعالبي، وفي (معجم الشعراء) و(معجم الأدباء) و(زهر الآداب). في هذه الكتب جميعها نجد استخدامًا للمنهج التاريخي بصور متفاوتة.

وفي العصر الحديث علا شأن المنهج التاريخي في الدراسات النقدية والأدبية، ونما نموًّا عظيمًا على أيدي الكثير من النقاد الذين اعتمدوا على التاريخ وأحداثه والبيئة وآثارها في تتبع الظواهر الأدبية ومعرفة آثار السياسة والاجتماع، والاقتصاد في الأدب وفي الأدباء وأعمالهم المختلفة.

نجد ذلك في كتابات: جورجي زيدان، وأحمد السكندري، ونجده كذلك عند الدكتور طه حسين في كتابه (ذكرى أبي العلاء) وعند الدكتور زكي مبارك في كتابه عن (النثر الفني في القرن الرابع) وعند الدكتور عبد الوهاب عزام في كتابه عن (المتنبي) وعند الأستاذ أحمد أمين في كتبه: (فجر الإسلام) و(ضحى الإسلام) و(ظهر الإسلام) وعند الأستاذ العقاد في كتابه (شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي).

وأكثر الكتب التي أرخت للأدب العربي في عصوره المتتابعة سلكت المنهج التاريخي، فكتب الدكتور شوقي ضيف: (تاريخ الأدب في العصر الجاهلي) ثم بعد ذلك (في العصر الإسلامي) ثم بعد ذلك (في العصر العباسي الأول) و(العصر العباسي الثاني) و(عصر الدويلات) وغير هذه الكتب من الكتب التي أرخت للأدب العربي سلكت هذا المنهج، ككتابات الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي، وكتابات الدكتور إحسان عباس في “تاريخ الأدب”، و”تاريخ النقد العربي” أيضًا.

من النماذج التي تدلنا على هذا المنهج التاريخي في دراسة الأدب، وكيف يستخدمه الناقد في دراسة شخصية ما أو ظاهرة ما: ما جاء في كتاب الدكتور طه حسين الذي درس فيه أبا العلاء، وعنوانه (ذكرى أبي العلاء).

يقول الدكتور طه حسين: ليس الغرض من هذا الكتاب أن نصف حياة أبي العلاء وحده، وإنما نريد أن ندرس حياة النفس الإسلامية في عصره، فلم يكن لحكيم المعرة أن ينفرد بإظهار آثاره المادية أو المعنوية، وإنما الرجل وما له من آثار وأطوار نتيجة لازمة وثمرة ناضجة لطائفة من العلل التي اشتركت في تأليف مزاجه، وتصوير نفسه من غير أن يكون له عليها سيطرة أو سلطان.

من هذه العلل: المادي والمعنوي، ومنها ما ليس للإنسان به صلة، وما بينه وبين الإنسان اتصال، فاعتدال الجو وصفاؤه ورقة الماء وعذوبته، وخصب الأرض، وجمال الربا، ونقاء الشمس وبهاؤها، كل هذه علل مادية تشترك مع غيرها في تكوين الرجل، وتنشئ نفسه، بل وفي إلهامه ما يعن له من الخواطر والآراء، وكذلك ظلم الحكومة وجورها، وجهل الأمة وجمودها، وجذب الآداب الموروثة وخشونتها، كل هذه أو نقائضها تعمل في تكوين الإنسان عمل تلك العلل السابقة.

والخطأ كل الخطأ أن ننظر إلى الإنسان نظرتنا إلى الشيء المستقل عما قبله وما بعده ذلك الذي لا يتصل بشيء مما حوله، ولا يتأثر بشيء مما سبقه أو أحاط به، ذلك خطأ لأن الكائن المستقل هذا الاستقلال لا عهد له بهذا العالم.

ثم يقول: إذا صح هذا كله، فأبو العلاء ثمرة من ثمرات عصره، قد عمل في إنضاجها الزمان والمكان والحال السياسية والاجتماعية، بل والحال الاقتصادية، ولسنا نحتاج إلى أن نذكر الدين، فإنه أظهر أثرًا من أن نشير إليه. ولو أن الدليل المنطقي لم ينته بنا إلى هذه النتيجة لكانت حال أبي العلاء نفسه منتهية بنا إليها، فإن الرجل لم يترك طائفة من الطوائف في عصره إلا أعطاها وأخذ منها، كما سنرى في هذا الكتاب.

إذن يركز الدكتور طه حسين في دراسته لأبي العلاء على ظروف عصره المختلفة: السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والدينية، ويقرر أن أبا العلاء ثمرة كل هذه الظروف.

رواد هذا المذهب في الغرب هم “تين” و”سانتبوف” وآخرون، وإذا كان الدكتور طه حسين عبر عن إيمانه بهذا المنهج في دراسته لأبي العلاء، فإنه لم يكن دائم التحمس له في سائر كتبه، بل إننا نجده يقول كلامًا صريحًا في التقليل من شأن المنهج التاريخي، وعدم قدرته على أن يصل بالناقد إلى نتائج يطمئن لها، ويعتد بها، ففي كتابه (الأدب الجاهلي) يورد كلامًا للنقاد أصحاب نظرية التطور، والقائلين بتأثير البيئة، ويذكر أن تاريخ الأدب لن يظفر من هذا بشيء ذي غناء؛ لأنه مهما يقل في البيئة والزمان والجنس، ومهما يقل في تطور الفنون الأدبية فستظل أمامه عقدة لم تحل بعد، ولن يوفق هو إلى حلها، وهي: نفسية المنتج، والصلة بينها وبين آثارها الأدبية، ما هي هذه النفسية؟ ولم استطاع “فيكتور هوجو” أن يكون “فيكتور هوجو” وأن يحدث ما يحدث من الآيات؟

العصر؛ فلمَ اختار هذا العصر شخصية “فيكتور هوجو” من غيره من أبناء فرنسا جميعًا؟

البيئة؛ فلم اختارت البيئة “فيكتور هوجو” دون غيره من الفرنسيين؟

الجنس؛ فلم ظهرت مزايا الجنس كاملة أو كالكاملة في شخص “فيكتور هوجو” دون غيره من الأشخاص الذين يمثلون هذا الجنس تمثيلًا قويًّا صحيحًا؟

وبعبارة موجزة: سيظل التاريخ الأدبي عاجزًا عن تفسير النبوغ، ولن يوفق إلى تفسير النبوغ، وإنما هي علوم أخرى تبحث وتجد، وقد تظفر، وقد لا تظفر، ولن يستطيع التاريخ الأدبي أن يكون علمًا منتجًا حتى تظفر هذه العلوم، وتحل لنا عقدة النبوغ.

فإذًا المنهج التاريخي في رأي الدكتور طه حسين لا يستطيع أن يفسر ظاهرة النبوغ، ولا يستطيع أن يستخلص نتائج في نقد الأدب، ودراسة الأدباء، ودراسة الظواهر، لا يستطيع المنهج التاريخي وحده أن يأتي بنتائج تطمئن لها نفس الناقد.

على أية حال استمر كثير من النقاد في استخدام النقد التاريخي للعصور الأدبية والظواهر الأدبية والشخصيات الأدبية، وأضافوا إلى المنهج التاريخي مناهج أخرى لكي توصلهم هذه المناهج المتعاونة إلى نتائج أقرب إلى الصواب.

error: النص محمي !!