Top
Image Alt

المنهج الفني

  /  المنهج الفني

المنهج الفني

نتحدث -بمشيئة الله وتوفيقه- عن المناهج النقدية، والمناهج النقدية تعني: الطرق المختلفة التي يواجه الناقد الأدبي بها النص الأدبي ويتعامل معه، الطريقة التي يفسر بها النص الأدبي، ويستطيع الناقد من خلال هذا التفسير أن يستنتج نتائج معينة، وأن يصدر حكمه على هذا النص، هذه الطريقة تسمى منهجًا نقديًّا، وقد عرفت عدة مناهج في التعامل مع النص الأدبي، هذه المناهج تسمى المناهج النقدية.

وأول منهج عرف في التعامل مع النص الأدبي هو المنهج الفني، وهو أن نواجه الأثر الأدبي بالقواعد والأصول الفنية المباشرة، كما يعرفه الأستاذ سيد قطب في كتابه (النقد الأدبي أصوله ومناهجه) فأي تعامل مع النص الأدبي يقوم على الأصول الفنية لهذا العمل، سواء أكان هذا العمل قصيدة أم قصة أم خطبة أم مقالًا أم خاطرة أم رواية، عندما يبحث الناقد في الأصول الفنية لهذا العمل ويحلله من خلال: لغته وأسلوبه وصوره، وما احتوى عليه من أفكار، وما تضمنه من مشاعر، هذا يسمى المنهج الفني.

وهذا المنهج قديم في أدبنا العربي قدم الأدب العربي نفسه، إذا كان تاريخ أدبنا العربي يبدأ بالعصر الجاهلي، وهو ما قبل ظهور الإسلام بقرنين من الزمان تقريبًا، فإننا سنجد هذا المنهج في التعامل مع الأدب مصاحبًا لهذا الأدب منذ نشأته، فمثلًا يروون أن طرَفة بن العبد لما سمع المتلمس يقول:

وقد أتناسى الهم عند احتضاره

* بناج عليه الصيعرية مكدم

قال طرفة: استنوق الجمل. لأن الصيعرية سمة تكون في عنق الناقة، ولا تكون في عنق البعير، وعاب على المتلمس قوله لذلك، وأشار إلى أنه أخطأ في وصف البعير بهذه السمة.

فنحن نرى أن النقد في هذا الشاهد قام على النظر إلى لغة البيت وإلى لحظة فيه ودلالة هذه اللفظة، وأنها غير مناسبة للمعنى، وغير مناسبة للوصف الذي أراده الشاعر.

كذلك عندما انتقدوا قول المهلهل:

فلولا الريح أسمع من بحجر

* صليل البيض تقرع بالذكور

نقدوا هذا البيت؛ لأنه كان بين الجهة التي ذكرها وبين حجر -وهي قرية- مسافة بعيدة، لا يمكن أن يسمع منها صليل السيوف، وعد هذا عيبًا في قوله؛ لأنه أخطأ تقدير المسافة أو أنه بالغ مبالغة غير مقبولة، فهذا نقد أيضًا مبني على النواحي الفنية في التعبير.

وقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في صدر الإسلام في معرض تفضيله لزهير بن أبي سلمى على غيره من الشعراء: إنه كان لا يعاظل في الكلام، وكان يتجنب وحشي الشعر، ولم يمدح أحدًا إلا بما هو فيه. هذا أيضًا نقد مبني على الأسس الفنية للشعر.

وكان النابغة الشاعر الجاهلي المعروف يجلس في سوق عكاظ؛ يحكم بين الشعراء عندما يأتون إليه وينشدونه واحدًا بعد الآخر ثم يحكم لواحد منهم بأنه أفضل من غيره، كان النابغة ينطلق في هذا النقد من الأساس الفني.

وإذا كان هذا النقد المبني على المنهج الفني قائمًا في هذه الشواهد التي أوردناها على الملاحظة الجزئية غالبًا، وأنه لا يميل إلى التعليل في الغالب، فإن هذا النقد الفني تطور تطورًا ملحوظًا مع تطور الأدب والفكر في العصر الإسلامي والعصر الأموي ثم في العصر العباسي.

وما زال هذا المنهج -المنهج الفني- يتدرج في مدارج التطور، ولا يقنع بالملاحظة العابرة أو النقد الجزئي، وإنما وصل إلى مرحلة ناضجة من التعليل والنظرة الكلية، وبدل أن يقف الناقد عند بيت في القصيدة يحلل القصيدة كلها تحليلًا فنيًّا، يتعرض فيه: لأفكارها، وعواطفها، وألفاظها، وأساليبها، والموسيقى التي قامت عليها أو تخللتها، ثم بعد ذلك يحكم على هذه القصيدة من خلال هذا التحليل الفني الشامل.

ويعد كِتاب (الموازنة بين الطائيين أبي تمام والبحتري) وكتاب (الوساطة بين المتنبي وخصومه) علامتين متميزتين في تاريخ نضج هذا المنهج الفني في النقد العربي القديم.

والكتاب الأول (الموازنة) صاحبه الآمدي، والكتاب الثاني (الوساطة) صاحبه القاضي الجرجاني.

يورد سيد قطب في كتابه نماذج من هذا النقد الفني من كتاب (الموازنة) ومن كتاب (الوساطة) ومن كتاب (العمدة) لابن رشيق ومن قبله أبو هلال العسكري في كتابه (الصناعتين) وعبد القاهر الجرجاني في كتابه (دلائل الإعجاز) و(أسرار البلاغة) بوصف كل من هذه الكتب علامات متميزة في تاريخ النقد الأدبي العربي الذي استخدم المنهج الفني في تقويم النص الأدبي والحكم عليه.

هذا النموذج من كتاب (الصناعتين) لأبي هلال يرينا كيف يكون تطبيق المنهج الفني في دراسة الشعر، يقول: من الدليل على أن مدار البلاغة على تحسين اللفظ أن الخطب الرائقة والأشعار الرائعة ما عملت لإفهام المعاني فقط؛ لأن الرديء من الألفاظ يقوم مقام الجيد منها في الإفهام، وإنما يدل حسن الكلام وإحكام صيغته ورونق ألفاظه وجودة مطالعه وحسن مقامه وبديع مباديه وغريب مبانيه على فضل قائله وفهم منشيه.

وأكثر هذه الأوصاف ترجع إلى الألفاظ دون المعاني، وتوخي صواب المعنى أحسن من توخي هذه الأمور في الألفاظ، ولهذا تأنق الكاتب في الرسالة، والخطيب في الخطبة، والشاعر في القصيدة يبالغون في تجويدها، ويغلون في ترتيبها؛ ليدلوا على براعتهم وحذقهم بضاعتهم، ولو كان الأمر في المعاني لطرحوا أكثر ذلك، فربحوا كدًّا كثيرًا، وأسقطوا عن أنفسهم تعبًا طويلًا.

ثم يقول: ودليل آخر أن الكلام إذا كان لفظه حلوًا عذبًا وسلسًا وسهلًا ومعناه وسطًا دخل في جملة الجيد وجرى مجرى الرائع النادر، كقول الشاعر:

ولما قضينا من منى كل حاجة

* ومسّح بالأركان من هو ماسح

وشدت على حدب المهاري رحالنا

* ولم ينظر الغادي الذي هو رائح

أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا

* وسالت بأعناق المطي الأباطح

وليس تحت هذه الألفاظ كبير معنى، وهي رائعة معجبة، وإنما هي: ولما قضينا الحج ومسحنا الأركان وشدت رحالنا على مهازيل الإبل، ولم ينظر بعضنا بعضًا جعلنا نتحدث، وتسير بنا الإبل في بطون الأودية.

يقول: وإذا كان المعنى صوابًا، واللفظ باردًا وفاترًا، والفاتر شر من البارد كان مستهجنًا ملفوظًا ومذمومًا مردودًا.

ثم قال: وأجود الكلام ما يكون جزلًا سهلًا لا ينغلق معناه، ولا يستبهم مغزاه، ولا يكون مكدودًا مستكرهًا ومتوعرًا متقعرًا، ويكون بريئًا من الغثاثة، والكلام إذا كان وخزه غثًّا، ومعرضه غثًّا كان مردودًا ولو احتوى على أجل معنى وأنبله وأرفعه وأفضله، وذكر لذلك مثالًا هو قول الشاعر:

لما أطعناكم في سخط خالقنا

* لا شك سلّ علينا سيف نقمته

فأنت تلاحظ أن كلام أبي هلال هنا يركز على التعبير، ويجعل التعبير واختيار الألفاظ ورصفها ورصها ووضعها في مواضعها المناسبة للمعنى هو مدار تفضيل الكلام عنده، وهو هنا لا ينظر إلى شيء غير فن التعبير -فنية الشعر- وهو هنا لا يتحدث عن المعاني النفسية، ولا عن البيئة والتاريخ، ولا عن شيء غير ذلك سوى التعبير وفنيته.

وقد نضج هذا المنهج نضجًا كبيرًا على يد عبد القاهر الجرجاني، وقد وصل في كتابه (دلائل الإعجاز) إلى النظرية التي عرف بها وعرفت به، وهي “نظرية النظم”، وخلاصتها أن ترتيب المعاني في الذهن هو الذي يقتضي ترتيب الألفاظ في العبارة، وأن اللفظ لا مزية له في ذاته، وإنما مزيته في تناسق معناه مع معنى اللفظ الذي يجاوره في النظم؛ أي تنسيق الكلمات والمعاني بحيث يبدي النظم جمال الألفاظ والمعاني مجتمعة.

وأن الجمال الفني رهين بحسن النسق أو حسن اللفظ، كما أنه لا اللفظ منفردًا موضع حكم أدبي، ولا المعنى قبل أن يعبر عنه في لفظ، وإنما هما باجتماعهما في نظم يكونان موضع استحسان أو استهجان.

واستخدم عبد القاهر الجرجاني هذا المنهج في دراسته لإعجاز القرآن، وركز على موضع اللفظة ومعناها في السياق، وعلاقتها بأخواتها، كقوله في التعليق على قول الله سبحانه وتعالى: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِين} [هود: 44].

قال: “وهل تشك إذا فكرت في قوله تعالى: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِين}فتجلى لك منها الإعجاز الذي ترى وتسمع أنك لم تجد ما وجدت من المزية الظاهرة والفضيلة القاهرة إلا لأمر يرجع إلى ارتباط هذه الكلم بعضها ببعض، وأن لم يعرض لها الحسن والشرف إلا من حيث لاقت الأولى بالثانية والثالثة بالرابعة، وهكذا إلى أن تستقريها إلى آخرها، وأن الفضل تناتَج بينها وحصل من مجموعها، إن شككت فتأمل، هل ترى لفظة منها بحيث لو أخذت من بين أخواتها وأفردت لأدت من الفصاحة ما تؤديه وهي في مكانها من الآية، قل ابلعي، واعتبرها وحدها من غير أن تنظر إلى ما قبلها وإلى ما بعدها، وكذلك فاعتبر سائر ما يليها، وكيف بالشك في ذلك ومعلوم أن مبدأ العظمة في أن نوديت الأرض ثم أمرت ثم في أن كان النداء بيا دون أي -“وقيل يا أرض ابلعي ماءك” ولم يقل يا أيتها الأرض- ثم إضافة الماء إلى الكاف “ماءك” -دون أن يقال ابلعي الماء- ثم أن أتبع نداء الأرض وأمرها بما هو من شأنها نداء السماء -فقال: “ويا سماء أقلعي”- وأمرها كذلك بما يخصها ثم أن قيل “وغيض الماء” فجاء الفعل على صيغة فُعل للدلالة على أنه لم يرب -أي الماء- إلا بأمر آمر، وقدرة قادر، ثم تأكيد ذلك وتقريره بقوله تعالى: {وَقُضِيَ الأَمْرُ} ثم ذكر ما هو فائدة هذه الأمور وهو “استوت على الجودي” ثم إضمار السفينة قبل الذكر، كما هو شرط الفخامة والدلالة على عظم الشأن، ثم مقابلة “قيل” في الخاتمة بـ”قيل” في الفاتحة.

أفترى لشيء من هذه الخصائص التي تملأك بالإعجاز روعة، وتحضرك عند تصورها هيبةٌ تحيط بالنفس من أقطارها تعلقًا باللفظ من حيث هو صوت مسموع وحروف تتوالى في النطق أم كل ذلك لما بين معاني الألفاظ من الاتساق العجيب.
فقد اتضح إذن اتضاحًا لا يدع للشك مجالًا أن الألفاظ لا تتفاضل من حيث هي ألفاظ مجردة، ولا من حيث هي كلم مفردة، وأن الألفاظ تثبت لها الفضيلة وخلافها في ملائمة معنى اللفظة لمعنى التي تليها أو ما أشبه ذلك مما لا تعلق له بصريح اللفظة”.

وأخذ عبد القاهر الجرجاني -رحمه الله- يأتي بأمثلة من الشعر، ويبين الفضل في الفاضل منها على أساس من تحليل النظم، ويبين النماذج المفضولة أنها لم تبلغ الدرجة العليا في البلاغة والتأثير لأنها لم تبلغ مرحلة الإبداع في وضع الألفاظ في مواضعها المناسبة لها.

وهكذا نضج هذا المنهج في نقدنا الأدبي القديم، وبلغ مرحلة واسعة في التطبيق على نصوص الأدب شعره ونثره، بل إن علماء الإعجاز أفادوا من هذا المنهج في دراستهم لأساليب القرآن الكريم، كما فعل عبد القاهر كما قلت في كتابه (دلائل الإعجاز) وفي العصر الحديث سار على هذا المنهج أيضًا الأستاذ سيد قطب في كتابه المعروف بعنوان (في ظلال القرآن) وفي كتاب له آخر عنوانه (التصوير الفني في القرآن الكريم) وغيره من الذين تعرضوا لدراسة البيان القرآني، ومحاولة استخراج دلائل إعجازه.

وكذلك أيضًا استُخدم هذا المنهج في دراسة البلاغة النبوية الشريفة، واستخدم أيضًا في دراسة كثير من الشعر والنثر في القديم وفي الحديث.

هذا إذن هو المنهج الفني في دراسة الأعمال الأدبية ونقدها.

error: النص محمي !!