المنهج المتكامل
كل هذه المناهج التي حدثتك عنها لا يستطيع منهج واحد مفرد أن يدرس العمل الأدبي دراسة كاملة شاملة، وأن يخرج منه بنتائج قريبة من الصواب إذا استقل وحده، ومن هنا حرص النقاد على أن يجمعوا بين عدد من المناهج في الكتاب الواحد أو في الدراسة الواحدة، وظهر ما يسمى بالمنهج المتكامل.
فالمناهج بصفة عامة تصلح وتفيد حين تتخذ منارات ومعالم، ولكنها -كما يقول صاحب (النقد الأدبي أصوله ومناهجه)- تفسد وتضر إذا جعلت قيودًا وحدودًا، ولحسن الحظ أن النقد العربي الحديث سلك في أحيان كثيرة طريق المنهج المتكامل الذي يجمع بين المناهج جميعًا، يجمع بين: المنهج الفني، والمنهج التاريخي، والمنهج النفسي، ويمكن أن يجمع أيضًا المنهج الواقعي الذي يهتم بالناحية الخلقية أو ناحية التزام الأديب نحو مجتمعه، خاصة في المجتمع الإسلامي، وتبني قيم الخير والحق والجمال التي دعا إليها الإسلام.
والكتب التي ظهرت في العصر الحديث تجمع بين المناهج النقدية المختلفة كثيرة، منها كتابا الدكتور طه حسين عن أبي العلاء، وكتابه عن شوقي وحافظ، وكذلك كتاب العقاد عن ابن الرومي، وكتب أخرى كثيرة منها أيضًا كتب الدكتور شوقي ضيف عن الأدب الحديث وعن البارودي وعن شوقي، وكتاب الدكتور حسن جاد عن الأدب المهجري، وكتب الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي في الدراسات الأدبية المتنوعة، وكتاب الدكتور عبد الرحمن عثمان عن الشاعر عبد الحميد الديب.
فكل هذه الدراسات تستفيد من المنهج الفني والمنهج التاريخي والمنهج النفسي لتصل إلى نتائج هي أقرب إلى الصواب من أن يستقل منهج واحد من هذه المناهج بالدرس الأدبي، سواء أكان هذا الدرس الأدبي متعلقًا بعصر من العصور أو شاعر من الشعراء أو فن من الفنون.
فالمنهج المتكامل كما يصفه الأستاذ سيد قطب لا يعد النتاج الفني إفرازًا للبيئة العامة، ولا يحتم عليه كذلك أن يحصر نفسه في مطالب جيل من الناس محدود، فالفرد في عصر من العصور قد يعبر عن أشواق إنسانية للجنس البشري كله ولمشكلات هذا الجنس الخالدة التي لا تتعلق بوضع اجتماعي قائم أو مطلوب، إنما تتعلق بموقف الإنسانية كلها من هذا الكون ومشكلاته الخالدة، كالغيب والقدر وأشواق الكمال اللدنية الكامنة في الفطرة البشرية، وهذه وأمثالها لا تتعلق بزمان ولا بيئة ولا عوامل تاريخية.
والعصر الواحد ينبغ فيه الكثيرون في البيئة الواحدة، ولكل منهم طابع خاص واتجاه خاص وعالم خاص، ولم يكن ابن الرومي يعبر عن ذاته فحسب، وإنما كان يعبر عن موقف إنساني غير مقيد بعصر من العصور وهو يقول:
ألا من يريني غايتي قبل مذهبي | * | ومن أين والغايات بعد المذاهب |
فهي مشكلة المجهول الذي وقفت أمامها البشرية منذ خِلقتها، وستبقى واقفة أمامها أبدًا.
كذلك كان يقف الخيام يدق هذا الباب المغلق أمام البشرية، فلا يفتح له، فيوقع أوجع ألحانه وأخلدها في عالم الفن والحياة، وهو يرى الناس يأتون من حيث لا يدرون، ويذهبون إلى حيث لا يدرون، لا يستشارون في مجيء، ولا يستشارون في خروج، ولا يعلمون ماذا يكون في اللحظة التالية، ولا كيف يكونون.
ويضيف: وكذلك وقف المعرّي وقفته الإنسانية أمام قبر الإنسان، وكأنما تجمع في حسه كل ماضي الإنسانية وكل مستقبلها، وهي تتصادم وتتزاحم، وتنطوي في حفرة في نهاية المطاف:
صاحِي هذه قبورنا تملأ الرحبى | * | فأين القبور من عهد عاد |
خفف الوطء ما أظن أديم الأرض | * | إلا من هذه الأجساد |
رب قبر قد صار قبرًا مرارًا | * | ضاحكًا من تزاحم الأضداد |
ومثل تلك الأشواق والآلام ليست خاصة بعصر ولا خاصة ببيئة، وإنما هي أشواق البشر وآلام البشر من ناحية موقف البشر من الكون والحياة.
وقد يكون في الصورة التي تبدو فيها تلك الأشواق والآلام آثار للبيئة، ولكن هذا لا يخرجها عن كونها أشواقًا وآلامًا للجنس الإنساني كله، والمنهج المتكامل كذلك لا يأخذ النتاج الأدبي بوصفه إفرازًا سيكولوجيًّا محدد البواعث معروف العلل، فالنفس -كما قلنا- أوسع كثيرًا من علم النفس، ورواسبها واستجاباتها قد تكون أعلم من هذا الفرض، على فرض أننا وصلنا إلى استكناه جميع البواعث الشخصية في نفس الفنان.
المنهج المتكامل يتعامل مع العمل الأدبي ذاته غير مغفل علاقته بنفس قائله، ولا تأثرات قائله بالبيئة، ولكنه يحتفظ للعمل الفني بقيمه الفنية المطلقة غير مقيدة بدوافع البيئة وحاجاتها المحلية، ويحتفظ لصاحبه بشخصيته الفردية غير ضائعة في غمار الجماعة والظروف، ويحتفظ للمؤثرات العامة بأثرها في التوجيه والتلوين، لا في خلق الموهبة ولا في طبيعة إحساسه بالحياة.
إذن النقد بالمنهج المتكامل يتناول العمل الأدبي من جميع زواياه، من زاوية التاريخ، ومن زاوية النفس، ولا يهمل القيم الفنية متمثلة في التعبير والتصوير، فهو بهذا يجمع بين المناهج المختلفة، ولذلك سمي بالمنهج المتكامل.
وبذلك نكون قد انتهينا من الحديث عن المناهج النقدية جميعها.