المنهج النفسي
نتحدث عن بقية المناهج النقدية، ونبدأ بالكلام عن المنهج النفسي:
من المعروف أن الإبداع الأدبي له صلة وثيقة جدًّا بالنفس الإنسانية، له صلة بنفس مبدعه؛ لأن هناك مؤثرات ودوافع وعواطف لا بد من استبانتها واستبانة أثرها في العمل الأدبي، والأدب وثيق الصلة كذلك بنفوس القراء لأن الغاية من الأدب هي التعبير عما في نفس الأديب والتأثير في نفس المتلقي، فإذن العمل الأدبي وثيق الصلة بالنفس الإنسانية، وثيق الصلة بنفس المبدع، ووثيق الصلة بنفوس المتلقين لهذا الإبداع.
ودراسة الأدب لا بد أن تجيب عن الأسئلة المتعلقة بعاطفة الأديب ودوافعه ومثيراته، وعن تأثير أدبه في نفوس متلقيه، وهذه الأمور لم تغب عن النقد العربي القديم، فالملاحظة النفسية موجودة وحاضرة في النقد القديم، ونجد ذلك واضحًا في كتابات عبد القاهر الجرجاني، على وجه الخصوص.
في حديثه عن المنهج النفسي قال سيد قطب: والمنهج النفسي هو الذي يتكفل بالإجابة على الطوائف الآتية من الأسئلة، أو يحاول الإجابة عنها على الأقل.
أولًا: كيف تتم عملية الخلق الأدبي؟ هذا سؤال، ما طبيعة هذه العملية من الوجهة النفسية؟ سؤال ثان، ما العناصر الشعورية وغير الشعورية الداخلة في عملية الخلق الأدبي؟ وكيف تتركب وتتناسق؟ هذه مجموعة من الأسئلة، وأسئلة أخرى: كم من هذه العناصر ذاتي كامن في النفس؟ وكم منها طارئ من الخارج؟ ما العلاقة النفسية بين التجربة الشعورية والصورة اللفظية؟ كيف تستنفد الطاقة الشعورية في التعبير عنها؟ ما الحوافز الداخلية والخارجية لعملية الخلق الأدبي؟ هذه هي الطائفة الأولى من الأسئلة.
الطائفة الثانية من الأسئلة هي: ما دلالة العمل الأدبي على نفسية صاحبه؟ كيف نلاحظ هذه الدلالة ونستنطقها؟ هل نستطيع من خلال الدراسة النفسية للعمل الأدبي أن نستقرئ التطورات النفسية لصاحبه؟.
أما الطائفة الثالثة من الأسئلة فتأتي على هذا النحو: كيف يتأثر الآخرون بالعمل الأدبي عند مطالعته؟ ما العلاقة بين الصورة اللفظية التي يبدو فيها، وبين تجارب الآخرين الشعورية، ورواسبهم غير الشعورية؟ كم من هذا التأثير منشؤه العمل الأدبي ذاته؟ وكم منه منشؤه من ذوات الآخرين واستعدادهم؟.
هذه الطوائف الثلاثة من الأسئلة يتصدى لها المنهج النفسي، ويحاول الإجابة عليها، يقول الأستاذ سيد قطب: ولكنه إلى هذه اللحظة لا يستطيع أن يجيب إجابة حاسمة، وحين يحاول الإجابة الحاسمة يبدو كثير من التكلف والتعسف في تأويلاته وتعليلاته، ومنشأ هذا هو الاعتماد على علم النفس، وهو أضيق دائرة من النفس بطبيعة الحال.
والمنهج النفسي بصورته التي تهدف إلى دراسة العمل الأدبي، والإجابة على كل الأسئلة التي سبق ذكرها، هذا المنهج بهذا الوصف نشأ في الغرب، ومن أعلام دعاته في الغرب: “فرويد” و”يونج” و”إرنستجونس” وهذا المنهج عند الغربيين قائم على علم النفس، وقد حاول هؤلاء النقاد أن يستخدموا نظريات علم النفس في التعليل للعبقريات الفنية والأدبية عند كبار الفنانين والأدباء.
ومن الذين سلكوا هذا المنهج في الغرب أيضًا الناقد “هربترد” الذي قام بدراسات على “وردزورث” و”شيللي” والأختين “شارلوت” و”إملي برونته” وغيرهم، وهذا الاستعراض والبيان من كتاب سيد قطب (النقد الأدبي أصوله ومناهجه).
وأورد المؤلف تحليل “ريد” لحياة الأختين الكاتبتين “شارلوت” و”إملي برونته” حيث تناول الناقد بحث عوامل الوراثة فيهما، وظروف الأسرة وخصائص أفرادها، وما كان فيها من ضعف البنية الذي انتقل إلى أطفالها، وكيف ماتت الأم في سن باكرة! فأحدث ذلك هزة عصبية، كان لها أثرها في حياة الأختين، وكانت إحداهما في الخامسة، والأخرى في الثالثة من العمر، وكيف كان لذلك الحنين إلى الأم المفقودة من ناحية وإلى التعلق بالأب من ناحية أخرى أثر في هواجس الأختين وأوهامهما ومصادر فنهما الكتابي!
وقد كانت “إملي” مثالًا للظاهرة السيكلوجية المعروفة ظاهرة التشبه بالذكور أو الترجل، فقد كان القرويون في صغرها يرون فيها ولدًا أكثر مما يرون بنتًا، وقد كان في أخلاقها شيء من القوة والقسوة، ووصفها بعضهم بأنها أقوى من رجل، وأكثر سذاجة من طفل، ولكنها كانت مع ذلك وقورًا متزنة، من النوع الذي قد يسميه “يونج” داخلي الاتجاه، وقد وجد كل ذلك تعبيرًا في كتابها (مرتفعات وزرنج) الذي يجمع بين القوة والعذوبة.
نحن إذن نلاحظ في هذا الكلام تحليلًا نفسيًّا لحياة هاتين الكاتبتين، وبحثًا عما يمكن تسميته عُقدًا نفسية تؤثر في الإبداع الأدبي، وعلى هذا النحو درست عقدة “أُديب” في الأدب الغربي اعتمادًا على علم النفس.
وعلم النفس واستخدام نظرياته في الدرس الأدبي له دارسون ونقاد متحمسون له في الغرب وفي العالم العربي في العصر الحديث، وقد ظهرت في مصر أعمال تحاول الاستفادة من علم النفس ونظرياته في التحليل الأدبي، بل إن هذا الاتجاه يسمى الآن علم النفس الأدبي. من هذه الأعمال كتاب الدكتور مصطفى سويف (الأسس النفسية للإبداع الفني في الشعر خاصة) وكتاب الدكتور مصري حنورة (الأسس النفسية للإبداع الأدبي في الرواية خاصة).
والمخاطر التي يخشى منها في هذا المنهج تتمثل في أن يتحول الدرس الأدبي إلى درس في التحليل النفسي، وعندئذ تغيب القيمة الفنية للعمل الأدبي، والقيمة الفنية شيء مهم جدًّا في تقويم العمل الأدبي والحكم عليه، فلا بأس أن يستفيد النقد الأدبي من علم النفس، ولكن الخطر في الإغراق في التحليل النفسي وتحويل العمل الأدبي إلى تجربة في معمل أو في عيادة نفسية.
والملاحظة التي أبداها الأستاذ سيد قطب في قوله: إن النفس أوسع مجالًا من علم النفس. تدل على أن علم النفس مهما كانت نظرياته وتحليلاته لا يستطيع الإحاطة بأسرار النفس البشرية وتعقيداتها، ولا يستطيع إضاءة كل زواياها ومساربها، ومن الخير أن يستفاد من علم النفس بالقدر الذي لا يحول العمل الأدبي إلى مشروع للتشريح النفسي أو يخضعه للعيادة النفسية، كما ذكرت.
في تعامل النقد العربي القديم مع الأدب من الوجهة النفسية، يذكر الأستاذ سيد قطب أن الأسئلة التي طرحت متمثلة في ثلاث مجموعات نجد أن النقد القديم -النقد العربي القديم- قد حاول أن يجيب على شيء قليل من الطائفة الأولى، وشيء أكثر من الطائفة الثالثة.
أما الطائفة الثانية فلم يكد يعرض لها إلا نادرًا، حاول النقد العربي القديم أن يجيب على الأسئلة المتعلقة ببواعث العمل الأدبي الداخلية والخارجية وتأثراته بالحالة النفسية لقائله وبالظروف المحيطة به، وذلك من الطائفة الأولى.
يأتي في هذا السياق حديثهم عن الأمور التي تنشط الإبداع كالرياض والطبيعة الجميلة وغير ذلك من الأمور التي تنشط الإبداع، ويأتي في هذا السياق أيضًا قولهم: أشعر الشعراء فلان إذا رغب، وفلان إذا ركب، وفلان إذا شرب، فهذه الأسئلة من الطائفة الأولى.
وحاول أن يجيب عن العوامل التأثرية للعمل الأدبي في نفوس الآخرين، وذلك واضح في كلام عبد القاهر الجرجاني على وجه الخصوص، كقوله مثلًا: واجهة السحر في التشبيه المقلوب أنه يوقع المبالغة في نفسك من حيث لا تشعر، ويفيدكها من أن يظهر ادعاؤه لها؛ لأنه وضع كلامه موضع من يقيس على أصل متفق عليه، ويزجي الخبر عن أمر مسلم لا حاجة فيه إلى دعوى ولا إشفاق من خلاف.
فالكلام عن أثر العمل الأدبي في نفس المتلقي أو عن أثر التعبير في نفس المتلقي واضح في هذا الكلام، لكن النقد الأدبي القديم لم يشأ أن يقول شيئًا ذا بال عن دلالة العمل الأدبي على نفس صاحبه. هكذا يقرر الأستاذ سيد قطب رحمه الله.
لكني أتوقف قليلًا مع هذا الحكم؛ لأننا إذا بحثنا في النقد القديم سنجد إشارات، يمكن أن تكون ذات بال إلى دلالة العمل الأدبي على نفس صاحبه، فمثلًا الشعراء الصعاليك، يمكن أن نجد في النقد القديم إشارات تدل على وقفة هذا النقد مع هذا المحور من الدراسة، وهو دلالة العمل الأدبي على نفس صاحبه، وكذلك حديث النقد القديم والأدب القديم عن شعراء الغزل العذري، وكذلك عن أصحاب الغزل القصصي، كامرئ القيس وعمر بن أبي ربيعة.
على أية حال هذا المنهج -وهو المنهج النفسي في دراسة الأدب- تطور تطورًا كبيرًا وواسعًا في العصر الحديث، واستخدمه كثير من النقاد، إما وحده، وإما مستعينين به إلى جانب المناهج الأخرى كالمنهج التاريخي والمنهج الفني.
من أمثلة الدراسات التي استخدم فيها المنهج النفسي في العصر الحديث كتاب الدكتور طه حسين (مع أبي العلاء في سجنه) وكتاب (ابن الرومي حياته من شعره) للأستاذ العقاد، وكتاب الأستاذ المازني عن (بشار بن برد).
وإليك هذا النموذج من كتاب الأستاذ المازني عن بشار، فقرات وردت في كتاب (النقد الأدبي أصوله ومناهجه) تحدث فيها المازني عن الحياة النفسية الناشئة من عاهة بشار الخاصة، نقلها مؤلف الكتاب من كتاب المازني.
منها قوله: فهو كان يهجو الناس -أي بشار- ويبسط لسانه فيهم، ويشنع عليهم؛ ليرهبهم ويخيفهم ويظفر بمالهم أو يبتزه على الأصح، فيعيش مترفًا منعمًا موسعًا عليه، ويبقى مخشي اللسان، وإذا كان على ضخامة جثته ومتانة أسره، وشدة بنيته لا يستطيع أن يكون فاتكًا لما مني به من العمى، فقد اتخذ من لسانه أداة للفتك والبطش ووسيلة إلى استشعار القوة وإفادة العزة. قالت له بنته مرة: يا أبت ما لك يعرفك الناس ولا تعرفهم؟ قال: هكذا الأمير يا بنية.
ولم يكن ولوعه بالهجاء والتقحم على الناس بالشتم لحقد دفين ينطوي عليه، وعداوة كامنة يمسكها في قلبه، وضراوة طبيعية بالشر، بل لأنه كان يشعر بالنقص من ناحيتين: أنه كفيف، وأنه من الموالي، فلا يزال من أجل هذا يعالج أن يعوضه؛ إذ كان لا يملك أن يغير ما به. فما إلى رد بصره من سبيل، ولا ثم حيلة يعرفها هو أو سواه يخرج بها من طبقة الموالي سوى ما كان من تحريضه لهم على ترك الولاء.
وفي طباع الإنسان أن يستر ضعفه أو يحاول أن يفيد عوضًا عما حرمه أو فقده، ولما كان بشار قوي البدن موفور الصحة، وكان إلى هذا عالي اللسان، فقد أغراه ذلك بالتماس العوض الميسور، وهو إفادة القوة الأدبية وإشعار نفسه والناس قدرته على البطش المعنوي الذي سدت عليه سبيله المادية، فيما بقي من شعره وأخباره الدليل على شدة شعوره بعماه، فقد كان كثير الذكر له في شعره وكلامه، ومن ذلك قوله:
يا قومي أذني لبعض الحي عاشقة | * | والأذن تعشق قبل قبل العين أحيانا |
قالوا: بمن لا ترى تهذي، فقلت لهم: | * | الأذن كالعين توفي القلب ما كانا |
وقوله:
وكاعب قالت لأترابها | * | يا قومي ما أعجب هذا الضرير |
هل يعشق الإنسان من لا يرى؟! | * | فقلت والدمع بعيني غزير |
إن تك عيني لا ترى وجهها | * | فإنها قد صورت في الضمير |
وقوله:
بلغت عنها شكلًا فأعجبني | * | والسمع يكفيك غيبة البصر |
وقوله أيضًا:
يزهدني في حب عبدة معشر | * | قلوبهم فيها مخالفة قلبي |
فقلت دعوا قلبي وما اختار وارتضى | * | فبالقلب لا بالعين يبصر ذو اللب |
وما تبصر العينان في موضع الهوى | * | ولا تسمع الأذنان إلا من القلب |
هذه أشعار من شعر بشار بن برد تدل على أن بشارًا كان ملحًّا في ذكر آفة العمى، وأن إحساسه بهذه الآفة كان حاضرًا في كثير من شعره، والبحث عن هذا الأثر في شعر بشار على هذا النحو الذي قدمناه من المنهج النفسي في النقد الأدبي بلا شك.
وممن اصطنعوا هذا المنهج أيضًا الأستاذ أمين الخولي في كتاب له عنوانه (رأي في أبي العلاء) وقد نقل منه الأستاذ سيد قطب بعض الفقرات، وقال في هذه الفقرات: يعلل -أي أمين الخولي- سبب اضطراب آراء المعري في نظرته للحياة، وذلك في دور حياته الثاني دور الاعتزال فيقول: وانتهت حياة أبي العلاء على هذه الحال التي صار إليها في دوره الثاني، فأمضى حياة كلها إنكار للواقع واستعلاء عليه، ورغبة في تكميل ما نقصه، فيومًا ينكر آفته، ويومًا ينكر بشريته، حينًا يطلب الدنيا بغير آلتها، وآنًا يخرج نفسه من الدنيا وهو فيها، ذكاؤه دافع، وآماله واثبة، وواقعه قاس، ونقصه غير يسير، ورغبته في التكمل جامحة، فهو ونفسه أبدًا في جذب، كما قال:
إني ونفسي أبدًا في جذاب | * | أكذبها وهي لا تحب الكذاب |
وفي هذه الحال النفسية واجه أبو العلاء الحياة في حس مرهف وشعور دقيق، وروح ساهرة، وراح يدون خواطره تدوينًا موسعًا مفصلًا دقيقًا شاملًا للعوامل النفسية المختلفة التي تمر به، ويمر بها مدركًا في دقة أخفى غوامض هذه العوامل النفسية.
فهل يستغرب بعد ذلك أن يغضب هذا الرجل، فيواثب القدر، ويهاجم الأقداس ويلغي الناس أو أن ينظر إلى حاله فيرى الأمر حظًّا واتفاقًا لا غير، ويلعن هذا الحظ أو أن يروض نفسه، فتلين حينًا، وتسخر من الحياة ومن فيها، ومن متع الدنيا والمتقاتلين عليها، وتشوه ذلك تشويه زاهد، ممعن في التجرد والتخلي؟ أو أن تشعر هذه النفس الدقيقة بالحياة الواقعة، كما أخضعت الناس وخضعوا لها، فتحلل من ذلك ما تحلل تحليلًا بارعًا، وتصفه وصفًا قديرًا، أو أن تلجأ هذه النفس إذا قسى عليها الواقع إلى فسيح الرحمة الإلهية، ورحب العوالم السماوية، لا بعد في شيء من ذلك ولا غرابة أبدًا، بل شأن النفس المكبوتة هذا الكبت المتطلعة ذلك التطلع أن تنتقل مثل هذا التنقل.
هذا أيضًا معالجة بالمنهج النفسي لظاهرة اعتزال أبي العلاء وأدبه الذي عبر فيه عن ألوان مختلفة من الشعور تجاه الناس والحياة. هذا هو المنهج النفسي.