Top
Image Alt

المهجريون وموهبة الشعر

  /  المهجريون وموهبة الشعر

المهجريون وموهبة الشعر

المهجريون أصحاب المواهب المتعددة:

المهجريون أدباء وشعراء ونقاد جميعهم، أو أكثرهم كانوا من أصحاب المواهب المتعددة، وموهبة الشعر هي الموهبة الأولى، التي ظهرت عند هؤلاء المهجريين، وعرفوا بها، لكن كثيرًا منهم مارس النقد، وإذا كان الشاعر ناقدًا بطبيعته؛ لأنه يقوم شعره وينظر فيه، ويتخير ما ينشره، فإن هناك مقالات نقدية عرفت لبعضهم، وهناك كتب نقدية أيضًا عبروا فيها عن رؤيتهم للشعر من جهة الموضوعات والأفكار والمعاني، ومن جهة التعبير واللغة.

ميخائيل نعيمة:

لكننا إذا بحثنا عمن يمكن أن يطلق عليه لقب الناقد اصطلاحًا، فإننا نجد ميخائيل نعيمة هو أَوْلَى المهجريين بهذا اللقب؛ لأنه هو صاحب كتاب (الغربال)، الذي صدر سنة ألف وتسعمائة وثلاث وعشرين، وفيه قدم ميخائيل نعيمة ما يمكن أن يطلق عليه نظريته النقدية.

أما نشأة ميخائيل نعيمة وتكوينه الثقافي والروحي؛ فقد ولد في قرية اسمها بسكنتا في لبنان، وهذه القرية تقع على هضبة جبل اسمه جبل صنين، وينساب من تحتها وادٍ اسمه وادي الجماجم، ولد ميخائيل نعيمة في هذه القرية عام ألف وثمانمائة وتسعة وثمانين، وتعلم في مدرستها الابتدائية، وظهر حبه للعلم وتفوقه في مرحلة مبكرة، فانتدبته مدرسة دار المعلمين الروسية في الناصرة بفلسطين؛ ليدرس فيها ثم أرسلته؛ ليدرس في روسيا عام ألف وتسعمائة وستة.

وهناك تزود ميخائيل نعيمة بزاد ثقافي متنوع الألوان من الأدب الروسي، والآداب العالمية الأخرى، وبرع في الكتابة والنظم باللغة الروسية، وقد نظم قصيدته “النهر المتجمد” بهذه اللغة، ثم ترجمها إلى العربية، وفي عام ألف وتسعمائة وأحد عشر، اتجه إلى واشنطن في الولايات المتحدة، ودرس الحقوق بجامعتها، ونال شهادتها عام ألف وتسعمائة وستة عشر، وفي عام ألف وتسعمائة وثمانية عشر جند في الجيش الأميركي، بحكم نظام الجندية الإجباري على الرغم منه، وذهب إلى ساحة القتال في فرنسا.

وفي عام ألف وتسعمائة وتسعة عشر عاد من الحرب؛ ليعمل بمحل تجاري في نيويورك، وهناك اتصل برفاقه الذين كانوا معه في مدرسة الناصرة الروسية من المهجريين، مثل: نسيب عريضة وعبد المسيح حداد، كما اتصل بجبران خليل جبران، ورفاقه الذين تألفت منهم الرابطة القلمية، وانتخب ميخائيل نعيمة أمينًا لسرها، وظلت الرابطة إلى عام ألف وتسعمائة وواحد وثلاثين؛ حيث توفي عميدها جبران خليل جبران.

وفي العام التالي لوفاة جبران أي: ألف وتسعمائة واثنين وثلاثين، عاد ميخائيل نعيمة إلى قريته بسكنتا في لبنان.

أما النشاط العلمي والتأليفي والأدبي لميخائيل نعيمة، فقد ألف في المهجر مسرحية بعنوان: (الآباء والبنون)، كما صدر كتابه (الغربال)، سنة ألف وتسعمائة وثلاث وعشرين، فمثل هو وكتاب الديوان، الذي كان العقاد والمازني قد أصدراه سنة ألف وتسعمائة وواحد وعشرين مرحلة مهمة جدًّا في النقد الأدبي الحديث.

ومن مؤلفاته أيضًا ديوان شعره (همس الجفون)، وكتاب عن حياة جبران، وكتابه (زاد المعاد)، و(البيادر) وغيرها، وقد نظم الشعر بالعربية من عام ألف وتسعمائة وسبعة عشر إلى عام ألف وتسعمائة وستة وعشرين، كما نظم الشعر بالإنجليزية أيضًا، وله نتاج قصصي يعالج فيه الأمراض الاجتماعية، ويهاجم العادات والتقاليد الشرقية، التي لا يرضاها بأسلوب ساخر، وفي قصة له بعنوان (لقاء)، عالج ما كان يؤمن به من تناسخ الأرواح، وتتلخص فلسفة ميخائيل نعيمة في كتابه (زاد المعاد)، الذي عبر فيه عما يؤمن به من آراء وأفكار، تتعلق بالوجود والحياة والموت، وكان مؤمنًا بما يسمى وحدة الوجود.

أما أسلوب ميخائيل نعيمة، فهو يتمتع بالعبارة الناصعة والديباجة المشرقة، والبيان الصافي، وكان في شعره ونثره مصورًا بارع التصوير، قادرًا على وضع الكلمة في موضعها المناسب، وقد تأثر بأفكار جبران، وبأسلوبه أيضًا، على هذا النحو يبدو لنا ميخائيل نعيمة شاعرًا وناقدًا وفيلسوفًا.

وعن هذا التكوين يقول الدكتور محمد مندور: وتكوين ميخائيل نعيمة الروحي والثقافي تكوين غني معقد، فهو يجمع في ثقافته بين الشرق وتراث الغرب، بل يجمع بين التراث الأوروبي الأمريكي والتراث الروسي بسحره الصقلي، وروحانيته الناقدة، التي نحسها عند أعلامه، وبخاصة عند تولستوي وبستوفسكي، الذين يلوح لنا أن ميخائيل نعيمة قد تمثل روحيهما، منذ شبابه الغض.

وأما عن تكوين ميخائيل نعيمة الروحي، وهو التكوين الأبعد غورًا في نفسه من التكوين الثقافي، بل هو التكوين الذي نفذ إلى أعماق روحه، وأخذ ينمو معه ويعمق على مر الأيام، والتقدم في الحياة، فهو بلا ريب التكوين الذي تغذى بلباب المسيحية الرحيمة وما في كتبها المقدسة، وبخاصة العهد القديم من آيات شعرية نافذة التعبير السحري في مثل المزامير، وسفر الجامعة، وسفر أيوب، ونشيد الإنشاد.

هكذا يحلل الدكتور محمد مندور التكوين الثقافي والروحي لميخائيل نعيمة.

أما كتاب (الغربال)، الذي حمل نظرية النقد، كما يراها ميخائيل نعيمة، فإن الدكتور محمد مندور يذكر أن صاحب (الغربال) لم يألفه دفعة واحدة وفقًا لمنهج مرسوم، وإنما هو مجموعة من المقالات النقدية، التي نشرها المؤلف في الصحف، أو كتبها كمقدمات لبعض مؤلفاته، مثل: مقاله عن الرواية التمثيلية العربية، فهي مقدمة لمسرحيته المسماة (الآباء والبنون).

ويقول الدكتور مندور: ليس في هذا الأمر من أن يكون الكتاب قد صدر على هيئة مقالات متفرقة، ليس في هذا ما ينقص من قيمة الكتاب وأهميته في شيء، ويذكر أن هناك كتبًا كثيرة صدرت بهذه الطريقة، ككتاب (أوقات الفراغ)، للدكتور محمد حسين هيكل و(ساعات بين الكتب)، و(مطالعات في الكتب والحياة) و(الفصول) لعباس محمود العقاد، وكذلك (حصاد الهشيم) للمازني، وكذلك (حديث الأربعاء)، للدكتور طه حسين، وكتاب (في الميزان الجديد)، و(نماذج بشرية) و(قضايا جديدة في أدبنا الحديث)، للدكتور محمد مندور نفسه.

ليس إذًا في صدور الكتاب أولًا على هيئة مقالات، ثم اجتماع هذه المقالات وصدورها في كتاب ليس في هذا ما يعيب الكتاب، كما يقول الدكتور محمد مندور، وكما ذكر أمثلة لكتب صدرت أولًا في هيئة مقالات، ثم جمعت وصدرت في كتاب، لكن هذا يدل على أن الرؤية النقدية لم تكن واضحة، أو مكتملة ولم يعبر عنها صاحب هذا الكتاب مرة واحدة، وإنما صدور مقالات على فترات متباعدة يجعل هذه النظرية النقدية عرضة؛ لأن يقال فيها: إنها لم تكن مكتملة في نفس صاحبها.

على أية حال فإن كتاب (الغربال) بما تضمنه من آراء وأفكار، يمثل أهم عمل نقدي صدر عن أدباء المهجر وشعراءه ونقاده، يضم هذا الكتاب إحدى وعشرين مقالة، بعضها خصص للهجوم العنيف على الأدب العربي التقليدي، الذي يمثله المحافظون من أمثال شوقي وحافظ إبراهيم والمنفلوطي وغيرهم، وقد وصف ميخائيل نعيمة هذا الأدب بأنه متزمت ومتحجر وجامد، وذلك في مقال بعنوان: (الحباحب)، وعنوان آخر أو مقال آخر بعنوان (نقيق الضفادع)، ويبدو أن كلمة الحباحب، كما تدل عليه في معاجم اللغة المراد بها النار، وكأنه يريد بهذا العنوان ما تفعله النار من الإضاءة، أو من أكل ما يقدم لها، وكأنه يريد أن يقدم رؤية جديدة للأدب، تمحو هذا الذي في نظره جامد ومتخلف، ولا يصلح للحياة.

وفي الكتاب أيضًا مقالًا عن الزحافات والعلل وهو في نقد عروض الشعر العربي، كما ورد عن الخليل بن أحمد، وفي الكتاب مقالات تمثل النقد التطبيقي، تعرض المؤلف فيها لبعض الأعمال الأدبية التي كانت قد ظهرت في وقته، مثل مقال عن القرويات، وهو ديوان لرشيد سليم الخوري، طبع سنة ألف وتسعمائة واثنين وعشرين، ومقال عن الريحاني في عالم الشعر، والثالث عن الديوان السابق، الذي نشره جبران خليل جبران بالإنجليزية، سنة ألف وتسعمائة وعشرين.

ومقال آخر عن قصة (ابتسامات ودموع)، التي ترجمتها مي زيادة عن كتاب لمكس مولر، ومحاضرة لها أيضًا كانت ألقتها بعنوان: غاية الحياة، ومقال عن ديوان (أغاني الصبا)، الذي نشره محمد الشريفي، سنة ألف وتسعمائة وواحد وعشرين، ومقال عن كتاب (النبوغ)، الذي صدر لمؤلفه لبيب اللياشي، عام ألف وتسعمائة وواحد وعشرين، ومقال عن ترجمة الشاعر خليل مطران لمسرحية (تاجرة البندقية) لشكسبير، ومقال عن الجزأين الذين صدرا عن كتاب (الديوان) للأستاذ العقاد والمازني، ومقال عن العواصف لجبران خليل جبران، ومقال عن كتاب (الفصول) للأستاذ عباس محمود العقاد، ومقال عن ديوان كان مخطوطًا للشاعر نسيب عريضة، وهو ديوان (الأرواح الحائرة)، ثم مقال بعنوان الدرة الشرقية، وفيه ينقد أحمد شوقي نقدًا لاذعًا.

كما تضمن الكتاب بعض المقالات النقدية، تحدث فيها عن الغربلة ومحور الأدب والرواية التمثيلية العربية، والمقاييس الأدبية والشعر والشاعر، ثم مقال قصير يدعو إلى ضرورة الترجمة عن الآداب الأجنبية، بعنوان فلنترجم، بهذا العرض لما تضمنه كتاب (الغربال) من عناوين، يظهر لنا أن الكتاب لم يقدم نظرية نقدية متماسكة، تبدو في كل الكتاب أو كل مقالاته أو كل عناوينه، إنما هناك اتجاهات متعددة في هذا الكتاب، ويمكن أن تكون المقالات التي توجه فيها بالنقد لأدب المحافظين، والتي نقد فيها أيضًا العروض الخليلي يمكن بالإضافة إلى بعض المقالات، التي تحدثت عن المقاييس النقدية، يمكن أن تكون هي التي تمثل النقد الحقيقي، والرؤية النقدية لميخائيل نعيمة في هذا الكتاب.

وأهم ما عبر عنه كتاب (الغربال) هو تلاقي نظرة مؤلفه مع نظرة العقاد وشكري والمازني، فالاتجاهان يبدوان متقاربين تقاربًا كبيرًا، والكتابان تضمنا نقدًا لاذعًا للمحافظين، وثورة على ما يسمى بأدب التقليد، والكتابان يتضمنان دعوة إلى أدب جديد، ومؤلفا الكتاب الأول (الديوان) حصلا من الثقافة التراثية العربية، والثقافة الغربية ما أهلهما أن يكونا ناقدين كبيرين، وشاعرين متميزين بالإضافة إلى زميلهما الثالث عبد الرحمن شكري، كما بينا ذلك في الدروس السابقة، ومؤلف (الغربال) أيضًا صاحب ثقافة عربية، وثقافة أجنبية، وله حس راقٍ وذوق عالٍ في دراسة الأدب ونقده، وقد حيى كل من الجانبين صاحبه، وأثنى على اتجاهه في نقد الأدب وإبداعه.

فميخائيل نعيمة يكتب في (غرباله) مقالًا يثني فيه على المجددين المصريين، ويهاجم فيه المحافظين ومما جاء فيه قوله: ألا بارك الله في مصر، فما كل ما تنخره ثرثرة، ولا كل ما تنظمه بهرجة، وقد كنت أحسبها وثنية تعبد زخرف الكلام وتأله رصف القوافي، فكم زمرت لبهلوان وطبلت لمشعوذ، وطيبت لكروان، غير أني عرفت اليوم بالحس ما كنت أعرفه أمس بالرجاء، عرفت أن مصر مصران لا واحدة، مصر ترى البعوضة جملًا والمدرة جبلًا، ومصر ترى البعوضة بعوضة والمدرة مدرة، ومصر لها ميزان بكفة واحدة ومقياس بطرف واحد، ومصر لها ميزان بكفتين ومقياس بطفين، فهي تفصل بين الرطل والدرهم، وتميز بين الفتر والفرسخ.

إن مصر هذه مصر الثانية قد قامت اليوم تناقش الأولى الحساب، فانتصبت وإياها أمام محكمة الحياة، وسلاحها الوجدان الحي ومحكها الحق؛ لأنها تقول لها: إما أن تثبتي لي حقك باعتباري فأسكت، أو أريكي كل ما فيكي من زيف فتسكتين.

وبعبارة أخرى: إن مصر تصفي اليوم حسابها مع ماضيها، هذا كله يريد به ميخائيل نعيمة الثورة التي قام بها العقاد وشكري والمازني على أدب المحافظين، ودعوتهم إلى أدب جديد، فهو يرى أن أدب المحافظين يمثل ثرثرة وبهرجة، وزخرفًا من الكلام لا قيمة له، ورصفًا من القوافي، وأن الشعراء والأدباء السابقين على جماعة التجديد يستحقون أن يناقشوا الحساب، وأن يقروا للمجددين بفضلهم على الأدب والنقد، فإذًا ميخائيل نعيمة يتبنى وجهة المجددين المصريين العقاد وشكري والمازني.

وقد رد الأستاذ العقاد هذه التحية بمثلها في المقدمة، التي كتبها لكتاب (الغربال)، وفيها يقول العقاد: لو لم يكتب قلم نعيمة هذه الآراء، التي تتمثل للقارئ في هذه الصفحات لوجب أن أكتبها أنا، فأما وقد كتبها وحمل عبئها، فقد وجب على الأقل أن أكتب مقدمتها، ثم يقول عن مضمون الكتاب: والحق أنني قد وقعت من قراءة هذه الصفحات على قرابة صحيحة، وجوار ملاصق في الحي الذي أسكنه في هذه الدنيا الأدبية الجديدة، رأيت قلمًا جاهدًا في طلب الشعر الصحيح، شعر الحياة لا شعر الزحافات والعلل.

ورأيته ينعي على الشعر الرث، الذي تركنا بلا شعر، ولم يبق في حياتنا ما ليس منظومًا، سوى عواطفنا وأفكارنا، ورأيته يريد من الشاعر أن يكون نبيًّا، وينكر أن يكون بهلوانًا، ويريد من الشعر أن يكون إلهامًا، وينكر أن يكون ضربًا من الحجل والجمز، والمشي على الأسلاك، والانتصاب على الرأس، ورفع الأثقال بالأسنان، ولف الرجلين حول العنق، إلى ما هنالك من الحركات التي يجيدها القردة أيما إجادة، من هذا يتضح الاتفاق في المنزع، والاتفاق في المشرب، والاتفاق في الوجهة التجديدية، التي يريدها الفريقان للأدب العربي.

وكلمة “الغربال” التي اختارها ميخائيل نعيمة عنوانًا لكتابه، لها دلالة؛ لأن الغربال آلة تستخدم في خرز الحبوب الصحيحة السليمة الصالحة، من الحبوب غير الصالحة الفاسدة، يستخدم هذا الغربال في تنقية القمح والأرز والشعير وغيرها، وكأن ميخائيل نعيمة يريد بهذه الكلمة الدلالة على منهج يصفي الأدب العربي الحديث، فيستبقي منه الصالح، وينفي منه الفاسد، والصالح في رأي نعيمة هو الصالح في رأي العقاد، والفاسد في رأيهما هو ما حملا عليه حملة عنيفة، وهو أدب المحافظين.

والمنهج الذي سار عليه ميخائيل نعيمة في نقده، هو المنهج التأثري؛ ولذلك قال: إن لكل ناقد غرباله، لكل موازينه ومقاييسه، وهذه الموازين والمقاييس ليست مسجلة لا في السماء ولا في الأرض، ولا قوة تدعمها وتظهرها قيمة صادقة سوى قوة الناقد نفسه، وقوة الناقد هي ما يبطن به سطوره من الإخلاص في النية، والمحبة لمهنته، والغيرة على موضوعه، ودقة الذوق، ورقه الشعور، وتيقن الفكر، وما أوتيه بعد ذلك من مقدرة البيان؛ لإيصال ما يقوله إلى عقل القارئ وقلبه.

فالناقد الذي توفرت له مثل هذه الصفات لا يعدم أناسًا ينضوون تحت لوائه، ويعملون بمشيئته فيستحبون ما يحب، ويستقبحون ما يقبح، وهو وراء منضدته سلطان تأتمر بأمره، وتتمذب بمذهبه وتتحلى بحلاه، وتتذوق بذوقه ألوف من الناس، إذا طرق سبيلًا سلوكه، وإذا صب نقمته على صنم حطموه، وإذا أقام لهم إلهًا عبدوه وخروا له وسبحوه.

فإذًا المنهج الذي يعتمد عليه ميخائيل نعيمة هو المنهج التذوقي التأثري الشخصي، ولكل ناقد استعداده، وعلى حسب قوة هذا الاستعداد وقدرة هذا الناقد على إقناع قرائه، يؤثر فيهم ويكون له جمهور يتبع رأيه ويسلك طريقه، ويركز ميخائيل نعيمة على أهمية الموهبة، والاستعداد الفطري عند الناقد، فيقول: غير أن الناقدين طبقات، كما أن الشعراء والكتاب طبقات، فما يقال في الواحد منهم لا يصلح أن يقال في كلها -يريد كل الطبقة أو الطبقات- إلا أن هناك خلة لا يكون الناقد ناقدًا إذا تجرد منها، وهي قوة التمييز الفطرية، تلك القوة التي توجد لنفسها قواعد، ولا توجدها القواعد، والتي تبتدع لنفسها مقاييس وموازين، ولا تبتدعها المقاييس والموازين.

فالناقد الذي ينقد حسب القواعد، التي وضعها سواه لا ينفع نفسه ولا منقوده، ولا الأدب بشيء؛ إذ لو كانت لنا قواعد ثابتة؛ لتمييز الجميل من الشنيع، والصحيح من الفاسد لما كان من حاجة إلى النقد والناقدين، بل كان من السهل على كل قارئ أن يأخذ تلك القواعد، ويطبق عليها ما يقرأها، لكننا في حاجة إلى الناقدين؛ لأن أذواق السواد الأعظم منا مشوهة بخرافات رضعناها من ثدي أمسنا، وترهات اقتبلناها من كف يومنا.

فالناقد الذي يقدر أن ينتشلنا من خرافات أمسنا، وترهات يومنا، والذي يضع لنا اليوم محجة؛ لندركها في الغد هو الرائد الذي سنتبعه، والحادي الذي سنسير على حدوه.

إذًا هناك مقاييس لكن هذه المقاييس ليست ثابتة وليست جامدة، كما يرى ميخائيل نعيمة، ويرى أن الناقد يسير وراء مقاييسه هو لا مقاييس وضعها غيره، فالناقد في رأيه إذا استحسن أمرًا لا يستحسنه؛ لأنه حسن في ذاته فقط بل؛ لأنه ينطبق على آرائه في الحسن، وكذلك إذا استهجن أمرًا فلعدم انطباق ذلك الأمر على مقاييسه الفنية، فللناقد آراؤه في الجمال والحق، وهذه الآراء هي نبات ساعات جهاده الروحي، ورصيد حساباته الدائمة مع نفسه تجاه الحياة ومعانيها.

error: النص محمي !!