Top
Image Alt

المواقف الإيجابية للمستشرقين

  /  المواقف الإيجابية للمستشرقين

المواقف الإيجابية للمستشرقين

وقبل أن أنتقل إلى موقف المستشرقين من الفكر الإسلامي بصفة عامة، أودّ أن أضع أمام حضراتكم بعض القضايا التي ينبغي أن نكون منصفين في الحديث عنها.

لم يكن تاريخ الاستشراق إلّا مواقف معادية للفكر الإسلامي -كما قلنا- لكننا وجدنا بعض المستشرقين في العصر الحديث -بالذات في القرن العشرين- لمّا قرأ التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية، وقرأ القرآن الكريم بعيْن العالِم المنصف، وجدناهم يحكمون على الإسلام، وعلى الحضارة الإسلامية، وعلى القرآن الكريم أحكامًا مُنصفة. هؤلاء المستشرقون المُنصِفون كتبوا كتابات طيِّبة حقيقةً عن الإسلام، وحاولوا أن يكتبوا ويدوِّنوا ويؤلِّفوا في مسائل تهمّ المفكِّر المسلم، من الإنصاف أن نقول: إن شباب الإسلام وعلماء المسلمين لم ينهضوا بها.

ولذلك هناك بعض الجوانب الإيجابية التي لا بدّ من الإشارة إليها الآن، وإن كانت لا تخلو من هنات. هذه الجوانب الإيجابية هي: أنّ المسشترقين قاموا بخدمة -أنا شخصيًّا أعتبرها خدمة طيِّبة- للتراث الإسلامي، لماذا؟ لأن كثيرًا من المستشرقين قد خدم المخطوطات العربية والمخطوطات الإسلامية خدمة طيبة، فقاموا بنشر وتحقيق ووضع مناهج -أظنّها تتّسم بشيء من الحيدة إلى حد كبير- في تحقيق التراث العربي والتراث الإسلامي بصفة خاصة. ولذلك فقد كتب بعض المفكِّرين المسلمين يبيِّن الجوانب الإيجابية في تاريخ الاستشراق.

فعندما أراد المستشرق الهولندي (هورجرنيه) أن يكتب كتابًا عن مكّة مثلًا، لم يُثْنه عزمه عن دراسة مكة إلّا أن حاول أن يزور هذه المنطقة بنفسه لكي يكتب عنها كتابة منصفة. فزار مكة في أواخر القرن التاسع عشر، وأقام هناك مدة خمسة أشهر مدعيًا أنه مسلم. وسمّى نفسه عبد الغفار، وأجاد اللغة العربية كأحد أبنائها. وبعد هذه الرحلة كتب عن مكة كتابين: أوّلهما: “الحجّ إلى مكة”، وثانيهما: “مكة وجغرافيتها”، في القرن التاسع عشر في جزءين مهمّين جدًّا، وصف فيهما مكة وصفًا دقيقًا شاملًا مع رسم خرائط لهذه المنطقة. وتحلّى هذا الرجل بصبرٍ عجيب في وصف الدقائق التي تتّصف بها جبال مكة، وحارات مكة، وشوارع مكة في القرن التاسع عشر. وقد أشار الشيخ مصطفى عبد الرازق إلى إعجابه بهذا الرجل، وصبره، ونشاطه فيما كتبه عن مكة، وعن معالم هذه المنطقة، وفي وصفه للمسلمين الذين يُؤدّون شعيرة الصلاة في داخل الحرم المكي. وهذا لون من ألوان الكتابة المُنصفة التي قام بها بعض المستشرقين عن مكة المكرمة.

هذه لمحة عن بعض الجوانب الإيجابية في كتابات بعض المستشرقين، وسوف نتكلم عن هذه النقطة بالذات بشيء من التفصيل حتى نكون مُنصفين فيما نقوله عن ظاهرة الاستشراق.

إن بعضهم قد تناول بعض القضايا العربية والإسلامية بشيء من الحيدة والموضوعية؛ وهذا وإن لم يكن سمةً عامة في الكتابات الاستشراقية إلّا أنه من الإنصاف، وحتى نكون موضوعيِّين في حديثنا عن الاستشراق وتاريخه وعمّا له وما عليه، يجب أن نبيِّن النّقاط التي أفدنا نحن كمسلمين من دراسات المستشرقين فيها، ومِن تناوُلهم لها. وأركّز على هذه النقاط بالذات؛ لأننا في حاجة إلى أن نتعلم من غيرنا.

هذه نقطة على جانب كبير من الأهمّية -أيها الشباب: نحن في حاجة إلى أن نتعلم من غيرنا، وهذا قد أوصانا به نبيّنا صلى الله عليه  وسلم  حيث ورد عنه: ((الحكمة ضالّة المؤمن)) -ضعيف جدًّا.

نعم  كتابات المستشرقين في معظمهما تقطر سُمًّا؛ ولكن لا شك أنّ في كتاباتهم بعض المواقف، وبعض القضايا التي ينبغي أن نتعلَّمها منهم. ومن أهمّها: الصبر على العمل العلمي، والدأب والجَلد والمثابرة، والعمل بروح الفريق.

مما لاحظناه في مواقف المستشرقين من تراثنا وحضاراتنا: هذا الترابط التام بين جماعات المستشرقين في مختلف بلاد العالم. هناك تنسيق مستمرّ وتعاون وتكامل في مجال الدراسات العربية والإسلامية للمستشرقين، وبينهم قنوات اتّصال قائمة ومستمرّة وتعمل عن دأب. فالمؤتمرات التي تُعقد تجد أنّ المستشرقين في شرق العالم وغربه يتوافدون إليها. والمجلات والدوريات التي تُنشر والحوليات التي تنشر، تجدها تصل إلى جمهور المستشرقين بلا عناء. فالعمل بروح الفريق ميزة تتميّز بها ظاهرة الاستشراق منذ تاريخها الأوّل إلى الآن. العمل بروح الفريق. وهذه قضية نحن أحوج ما نكون إليها، وأن نتواصى بها، وأن نعمل بها، وأن نروِّض أنفسنا على التخلص من روح الفردية، ومن روح الإنية أو الأنانية؛ لنسلك أنفسنا مع إخوتنا الذين يشاركوننا الهمّ في عمل واحد؛ لأن العمل بروح الفريق أجدى وأقرب إلى الكمال من العمل الفردي. هذه واحدة.

من النقاط التي ينبغي أن نتعلّمها من المستشرقين ومن الدراسات الاستشراقية أيضًا هو: دأبهم وحرصهم على العلم، والتخصص الدقيق. فإننا نجد الواحد منهم يُفني عمره كلّه في البحث والاستقصاء لاستيفاء شتّى جوانب الدراسة التي يتعامل معها. ولهذا نجد لدى الواحد منهم معرفةً جيدةً بكل ما يُنشر عن الدراسات الإسلامية والعربية في بلادنا العربية. ولا أكون مبالغًا أنهم يعلمون الكثير والكثير عمّا ينشر عنّا أكثر من معرفتنا به. والواقع الذي نعيشه يؤكّد لنا هذه القضية، والمكتبات الخاصة والعامة التي يتوافدون إليها تبيّن لنا ذلك. أنت تطلب الكتاب في المكتبة العربية والإسلامية لا تجده، ولكنك تطلب الكتاب في مكتبة دير من الأديرة، أو مؤتمر من المؤتمرات التي تُعقد تجد الكتاب حاضرًا أمامك. هذه حقيقة ينبغي أن نتعلم منها جيدًا الدأب والحرص والعمل بروح الفريق.

من الأمور التي ينبغي أيضًا أن نذكرها: دوائر المعارف الإسلامية التي قاموا بها. صحيح، لنا عليها ملاحظات، وصحيح فيها أخطاء، وقد تُرجم معظمها إلى اللغة العربية، وربما وصلوا فيها إلى حرف “العيْن”، ولم تكتمل الترجمة إلى الآن، لكن تخيّل معي المكتبة الثقافية والمكتبة العربية والإسلامية بدون دائرة معارف، تكون ناقصة ولا شك. لا نشكّك في قيمة هذا العمل، ولكن في نفس الوقت لا ينبغي أن نقلّل من أهميته، وينبغي أن نفيد منه وننسج على منواله.

أيضًا هناك من كتب مثل “بروكلمان”: (تاريخ الأدب العربي). هذا من أهم الكتب التي عُنيت بالمخطوطات وبالدراسات العربية والإسلامية. ويقيني: أن هذا الكتاب لا يستغني عنه باحث في التراث العربي، لماذا؟ لأن هذا الكتاب لا يقتصر على الأدب العربي على اللغة العربية وفقط، بل يشمل كل ما كتب باللغة العربية من المدوّنات الإسلامية؛ فهو أشبه بالفهرس أو السّجلّ للمؤلفات العربية المخطوطة بالذات. وباكتمال المعلومات الواردة في هذا الكتاب عن المؤلف، وعن المخطوطات المتعلّقة بمؤلّف ما، نجد أن أي باحث في التراث العربي في المخطوطات العربية لا بدّ أن يستعين بهذا الكتاب. هذا أيضًا عمل جليل ينبغي أن يُذكر فيُشكر لصاحبه. وأضيف: ينبغي أن نتعلّم منه، ونعمل كما عملوا، ونضيف إلى ما فعَله “بروكلمان” في (تاريخ الأدب العربي).

أيضًا اهتمام المستشرقين بجمع المخطوطات العربية من كل مكان، وبشتى السبل، والعمل على حفظها وصيانتها من التّلف، والعناية بها عنايةً فائقة، بل أضافوا إلى هذا العمل فهرسة المخطوطات. فهرسوها بطريقةٍ جيدة، وبذلك وُضعت هذه المخطوطات بشكلٍ ميسور تحت أعين الباحثين في مكان وجودها في المكتبات التي توجد بها، بدون إجراءات روتينية أو تعقيدات من موظف. وقد قام مثلًا بعض الباحثين بوضع فهرس للمخطوطات العربية في مكتبة برلين على سبيل المثال في عشرة مجلدات، بلغ فيه الغاية فنًّا ودقةً وشمولًا. تخيّل معي عشرة مجلدات فهارس لمخطوطات عربية موجودة في ألمانيا! وصدر هذا الفهرس في نهاية القرن الماضي، واشتمل على ما يقرب من عشرة آلاف مخطوطة عربية إسلامية في ألمانيا، وليست في بلد عربي، ولا في بلد إسلامي!

وهنا أيضًا كلمة حقّ ينبغي أن تقال: إنّ حفظ هذه المخطوطات قد أفاد منه الباحث العربي والباحث المسلم فائدةً كبيرةً جدًّا؛ بحيث نجد الطالب الذي يريد أن يسجّل رسالة ماجستير أو دكتوراه إذا طلب مخطوطة قد لا يجدها في مكتبات العالم العربي، لا في مصر، ولا في “الظاهرية” في دمشق، ولا في مكتبات تركيا، ولا في اليمن، وإذا رجع إلى كتاب (بروكلمان) الذي أشرتُ إليه سابقًا قد يجدها في مكتبات أو في إحدى مكتبات الدول الأوربية. كيف انتقلت هذه المخطوطات إلى أوربا؟ ولماذا انتقلت إلى أوربا؟ هذا هو السؤال المهمّ. أليس ذلك سرقةً لتاريخ العرب، وتاريخ المسلمين؟ أعتقد أنّ الإجابة على هذا السؤال تحمل بيقين وظيفة الاستشراق أو إحدى وظائف الاستشراق في عالمنا العربي والإسلامي.

كذلك من الأعمال التي ينبغي أن أشير إليها هنا: ما قام به بعض المستشرقين من وضع فهرس للأحاديث النبويّة أسماه “المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي”. حقيقةً هذا الكتاب من أهم الكتب التي ينتفع بها الباحث في علم الحديث خصوصًا، وفي الدراسات الإسلامية بشكلٍ عام؛ حيث جاء هذا الكتاب في سبعة مجلدات، وطُبع في الفترة من 1936م حتى عام 1961م. جمع فيه المستشرقون كُتب الحديث السّتة مضافًا إليها “مسند” الإمام الدارمي، و”موطأ” الإمام مالك، وفهرسوا الأحاديث النبوية في هذه الكتب بطريقةٍ علمية؛ بحيث يبدأ الحديث يأخذ منه المستشرق فعلًا أو كلمة مشتقّة، ويدور بها في كتب الأحاديث الستة مضافًا إليها “موطأ” الإمام مالك، و”مسند” الإمام الدارمي. فهذا المعجم قد سهّل للباحثين طُرق الوقوف على نص الحديث في هذه الكتب، أو عدم وجود الحديث في هذه الكتب بشكل ميسور. وهذا العمل حقيقةً من أهمّ الأعمال التي قام بها المستشرقون في التراث العربي والتراث الإسلامي بصفةٍ خاصة.

هذه بعض الجوانب التي أرى من واجبي الإشارة إليها الآن؛ حتى نكون منصفين في حديثنا عن الاستشراق. هذه الجوانب الإيجابية يقابلها بالطبع جوانب أخرى سلبية؛ ولكن حتى نكون منهجيِّين في تعاملنا مع القضية، لن أتعرض للجوانب السلبية الآن إلّا بعد أن أبيِّن موقف المستشرقين بشيء من التفصيل من القرآن الكريم، من النبي محمد صلى الله عليه  وسلم  موقفهم من الفكر الإسلامي بصفة عامة، خاصةً بعض فروع الثقافة التي أثاروا حولها كثيرًا من الشبهات كالتصوف، كالفلسفة، كالفقه … وهذا يتطلب منّا أن نتناول موقف المستشرقين بشيء من التفصيل من هذه القضايا؛ لأن تاريخ الاستشراق كلّه مرتبط بموقف المستشرقين من القرآن الكريم، والنبيّ محمد، والسنة النبوية؛ لأن هذه الموارد الثلاثة أو هذه الجوانب الثلاثة كانت هي الجوانب الرئيسة التي أثار المستشرقون حولها شبهات كثيرة، وشكوكًا كثيرة بقصد زعزعة المسلم، وإثارة الشبهات حول العقيدة الإسلامية.

من المعروف في تاريخ العلاقة بين الشرق والغرب، وبالذات في التأريخ لظاهرة الاستشراق: أن أول ترجمة للقرآن الكريم إلى اللغة اللاتينية تمّت في سنة 1143م تحت إشراف رئيس دير كلوني الراهب المعروف بـ(بطرس الناسك)، أو (بطرس المحترم). ومنذ أن تُرجمت نصوص القرآن في هذه الفترة ووقفت عليها الكنيسة، قامت بإخفائها تمامًا عن أعين القراء حتى لا يتأثر بها أي فرد من أبناء الكنيسة. فأُخفيت هذه الترجمة في نفس الدير بجنوب فرنسا، إلى سنة 1543م في عهد (بولس الثالث)؛ حيث ظهرت هذه الترجمة وتمّت طباعتها لأول مرة. ومنذ أن طُبعت هذه الترجمة، بدأت تنتشر في الدول الأوربية ترجمات وطبعات متعدّدة للقرآن الكريم، لكن لم تصرح الكنيسة بطباعة الترجمة الأولى إلّا في عهد البابا (ألكسندر السابع). ومما يُذكر هنا: أنه رغم ركاكة هذه الترجمة، ورغم ما فيها من أخطاء، إلّا أنها كانت تمثِّل هاجس خوف كبير للكنيسة.

ولم يقف المستشرقون عند هذا الحد، وإنما قامت بعض الجهات الأخرى بترجمة القرآن الكريم؛ معتمدةً على الترجمة الأولى، ونقلت ما فيها من أخطاء. ولعل هذه الترجمة الأولى وما فيها من أخطاء كانت مصدرًا أساسيًّا لمعرفة أوربا كلها بالإسلام وبالقرآن الكريم؛ ولذلك نجد أن الأخطاء الموجودة في هذه الترجمة تتردّد في كتابات معظم المستشرقين بلا استثناء، إلى أن ظهرت المطبعة في العالم العربي، وطُبعت المصاحف طباعة جيدة، وبدأ العالم الإسلامي يقوم بترجمة القرآن إلى لغات العالم المختلفة. فبدأ المستشرقون -وبخاصة المهتمون بالنص القرآني- يقرءون هذه الترجمات الجديدة التي قامت بها بعض البلاد العربية والإسلامية، ويصحّحوا ما وقعوا فيه من أخطاء نتيجة قراءتهم للترجمة الأولى التي تمّت في القرن الثاني عشر الميلادي.

في موقف المستشرقين من القرآن الكريم نجد أن هذه الترجمة الأولى قد أثّرت إلى حدٍّ كبير في تكوين صورة -ولو شِبْه كاملة- عن موقف المستشرقين ورؤيتهم للنبي محمد صلى الله عليه  وسلم  وللقرآن الكريم، وهذا يدعونا إلى أن نقف وقفة قصيرة أمام موقف المستشرقين من النبي أولًا، ومن القرآن الكريم ثانيًا.

error: النص محمي !!