Top
Image Alt

الموشحات، وأصل تسميتها، ونشأتها، والبناء الفني لها، وموضوعاتها

  /  الموشحات، وأصل تسميتها، ونشأتها، والبناء الفني لها، وموضوعاتها

الموشحات، وأصل تسميتها، ونشأتها، والبناء الفني لها، وموضوعاتها

الموشحات: فنٌّ أنيق من فنون الشعر العربي، اتخذ قوالب معينة في سياق تعدد الأوزان الشعرية والقوافي، والتطور الذي مضى عليه الشعر العربي في هذا المجال، أقصد مجال موسيقى الشعر والذي ظهر واضحًا في العصر العباسي واستمر هذا التطور الموسيقي في الشعر الأندلسي حتى نضج فن الموشحات.

وإذا أردنا أن نعرف الموشح فإن الدارسين والمؤرخِينَ للأدبِ يقولون: الموشحُ كلامٌ منظومٌ على وزنٍ مخصوصٍ، وهو يتألفُ في الأكثر من ستة أقفال وخمسة أبيات، ويقال له التام، وفي الأقلِّ من خمسة أقفال وخمسة أبيات، ويقال له الأقرع؛ فالتام ما ابْتُدِئَ به الأقفال، والأقرع ما ابتدئ فيه بالأبيات، هذا تعريف ابن سناء المُلك، وهو واحدٌ من الذين اهتموا بهذا الفن في الأدب القديم.

إن الموشح أو الموشحة نوعٌ من الشعر لا يلتزم بنظام القصيدة العربية التقليدية التي غالبًا ما كان يحكمها وزنٌ واحدٌ وقافيةٌ واحدةٌ، هذا نظامٌ جديدٌ في النظم، تتغير فيه القوافي، ويمكن أن يتغير فيه الوزن، لكن له أيضًا قواعد ليست المسألة عشوائية، فهو يقوم على قواعد وعلى منهج، وهو فنٌّ أطوع للغناء وأيسر للغناء، وغالبًا ما ينظم من لغة تكون أقرب للغة الشعب سهلةً واضحة؛ لأن الغناء أكثر طوائف الشعب تحتاجه وتمارسه.

يراعى في الموشح أن تكون لغته قريبة من لغة الشعب، أحيانًا تكون في الموشح بعض الألفاظ العامية، أو بعض الألفاظ الأعجمية؛ نظرًا لأن بيئة الأندلس -كما ذكرنا من قبل- كانت بيئة في الأصلِ غير عربية ثم دخلها العرب، ودخلتها اللغة العربية، فكان هناك لغةٌ شعبيةٌ فيها مزيجٌ من اللغة العربية واللغة الأسبانية؛ ولذلك يمكن أن يكون في هذا الفن الشعبي -وهو الموشحات- بعض هذه الألفاظ التي كانت تستخدمها العامة.

لذلك يطلقون على الموشحات فنًّا شعبيًّا أو اتجاهًا شعبيًّا في الشعر؛ فالموشحة إذًا منظومة غنائية لا تسير في موسيقاها على المنهج التقليدي الملتزم لوحدة الوزن ورتابة القافية، وإنما تعتمد على منهجٍ تجديديٍّ متحررٍ؛ بحيث يتغير الوزن وتتعدد القافية، ولكن مع التزام التقابل في الأجزاء المتماثلة.

إذن هناك نظام لهذا الفن:

فالموشحة تتألف غالبًا من خمس فقرات تسمى كل فقرة بيتًا، وإذًا مصطلح بيت في الموشحة يختلف عن مصطلح البيت في القصيدة التقليدية، مصطلح البيت في القصيدة التقليدية يطلق على بيتٍ واحدٍ مكونٍ من شطرين، كما نقول مثلًا:

قِفا نَبكِ مِن ذِكرى حَبيبٍ وَمَنزِلِ

*بِسِقطِ اللِوى بَينَ الدَّخُولِ فَحَومَلِ

مطلع معلقة امرئ القيس هذان الشطران بيت. أما في الموشح فالبيت -أو اصطلاح البيت- يطلق على فقرةٍ كاملةٍ مكونةٍ من عدة أشطر، وليس من شطرين اثنين، فكل فقرة -كما قلنا- في الموشحة تسمى بيتًا، والبيت في الموشحة ليس كالبيت في القصيدة؛ لأن بيت الموشحة فقرةٌ أو جزءٌ من الموشحة يتألف من مجموعة أشطار لا من شطرين فقط كبيت القصيدة، وكل فقرة من فقرات الموشحة الخمس ينقسم إلى جزأين:

الجزء الأول مجموعة أشطار تنتهي بقافية متحدة فيما بينها، ومغايرة في الوقت نفسه للمجموعة التي تقابلها في فقرة أخرى من فقرات الموشحة، معنى هذا: أن القوافي تتنوع.

أما الجزء الثاني من جزئي بيت الموشحة: فهو شطران أو أكثر تتحدُ فيهمَا القافيةُ في كل الموشحة.

والجزء الأول الذي تختلف فيه القافية من بيتٍ إلى بيتٍ يسمى غصنًا ولا يسمى شطرًا، والجزء الآخر الذي تتحد فيه القافية في كل الموشحة يسمى قُفْلًا، هذا ما يتعلق بالقافية، ويلاحظ أن فيها حريةً وتنويعًا من جانب، والتزامًا وتماثلًا من جانب آخر. أما الحرية والتنويع: ففيما يسمى بالأغصان؛ حيث تغاير قافيةُ كلِّ غصن قافية باقي الأغصان، وأما الالتزام والتماثل ففيما يسمى بالأقفال؛ حيث يجب أن تتحدَ قوافيها في الموشحةِ كلِّهَا.

أوازن الموشحة:

أوزان الموشحة فيها حريةٌ وتنويعٌ يقابلهما التزام وتماثل:

أما الحرية: ففي جواز استخدام البحر الذي ستصاغ على وزنِهِ الموشحة في عدةِ حالات من حالاته، أي: من حيث التمام والجزر والشطر، أو بعبارة أوضح يجوز في الموشحة أن تكون بعض أشطارها من بحرٍ على تفاعيله التامة، وأن تكون بعض الأشطار الأخرى من نفس البحر، ولكن على تفاعيله المشطورة أو المجزوءة، فتأتي بعض الأشطار طويلة عديدة التفاعيل، وتأتي أخرى في نفس الموشحة قصيرة قليلة التفاعيل، بل إنه يجوز أن تأتي بعض الأشطار من بحر، والبعض الآخر من بحر ثانٍ.

وأما الالتزام والتماثل: ففي وجوب أن يأتي كل جزءٍ من أجزاء الموشحة المتماثلة على وزنٍ مُتَّحِدْ، والأجزاء المتماثلة هي الأغصان مع الأغصان والأقفال مع الأقفال؛ فإذا جاء الغصنُ في الفقرة الأولى على وزنٍ معينٍ يجب أن تأتي كل الأغصان على الوزن نفسه، وإذا جاء القُفْلُ الأول على طريقة خاصة من حيث طول الأشطار وقصرها من بحرٍ ما؛ يجب أن تأتي كل الأقفال على الطريقة نفسها.

ويجب أن توافق الأقفالُ المطلع الذي يسبق عادةً كل الفقرات، وهو الذي تبدأُ به الموشحة، وهذه الموافقة بين الأقفال والمطلع يجب أن تكون في الوزن والقافية جميعًا.

إذً يمكن أن نَعُدَّ فنَّ التوشيحِ هذا أكبر تطوير موسيقي دخل على بنية القصيدة العربية في شعرنا العربي القديم، وفي الشعرِ العربي الحديث كثير من الشعراء طوروا في موسيقى الشعر، واستفادوا من طريقة التوشيح في بناءِ كثيرٍ من قصائِدِهِم.

وفي فن التوشيح مصطلحات تختلف عن المصطلحات المعروفة في القصيدة التقليدية؛ فالبيت في الموشحة -كما قلنا- يطلق على الفقرة، والغصن لمجموعة الأشطار التي تتغير قوافيها من فقرةٍ إلى أخرى، والقُفْلُ للأشطار التي تتحد قوافيها في الموشحة كلها، والقُفْلُ الأخيرُ من الموشحة يسمى خرجة، يعني الفنان أو الموشِّح انتهى من قصيدته أو من موشحته.

والموشح الذي ليس له مطلع يسمى موشحًا أقرعًا، والذي يبدأ بمطلع يسمى موشحًا تامًّا، سمي الموشح بهذا الاسم؛ لأن الوشاحَ حليةٌ ذاتُ خطَّيْنِ يسلك في أحدهما اللؤلؤ، وفي الآخر الجوهر، هذا في لغة العرب. أو هو جِلْدٌ عريضٌ مرصعٌ بالجوهر تشده المرأة بين عاتقها وكشحها، والثوب الموشح هو الثوب المزين.

فالفكرة إذًا هي فكرةُ التجميلِ الذي يعتمد على التنويع والتقابلِ على نظامٍ معينٍ، وهكذا الموشح والموشحة تقوم على تغاير وتماثل في الأنغام والقوافي، فتشبه بذلك هَذَا الثوب المزين على طريقةٍ معينةٍ ومخصوصةٍ، ولا بُدَّ لَنَا من أن نقفَ مع موشحةٍ كاملةٍ نطبق عليها هذه المصطلحات التي ذكرناها من قبل.

نقرأ موشحة قصيرةً في وصف الطبيعة، ثم نطبق عليها المصطلحات التي ذكرنا أن الموشح يتكون منها، يقول:

النَّهْرُ سَلَّ حُسَامًَا عَلَى قُدُودِ الغُصُونِ
وَلِلْنَّسِيمِ مَجَالُ


وَالرَّوْضُ فِيهِ اخْتِيَالُ

مُدَّتْ عَلَيْهِ ظِلالُ

وَالزَّهْرُ شَقَّ كِمَامَا وَجْدًا بِتِلْكَ اللُّحُونِ

أَمَا تَرَى الطَّيْرَ صَاحَا

وَالصُّبْحَ في الأُفْقِ لَاحَا

وَالزَهْرَ في الرَّوْضِ فَاحَا

وَالبَرْقَ سَاقَ الغَمَامَا

تَبْكِي بِدَمْعٍ هَتُونِ

نطبق المصطلحات:

المطلع أو المذهب: كلاهما اصطلاح يطلق على مطلع الموشحة، وهو معنا:

النَّهْرُ سَلَّ حُسَامًَا

*عَلَى قُدُودِ الغُصُونِ

وهذا المطلع يتكون عادة من شطرين أو أربعة أشطر، وهو هنا في هذه الموشحة التي نقرأ منها يتكون من شطرين:

النَّهْرُ سَلَّ حُسَامًَا

*عَلَى قُدُودِ الغُصُونِ

وقد تختلف قافية الغصنين؛ إذًا عندنا، مصطلحات جديدة، الشطرين يمكن أن نسميهما غصنين.

تختلف أحيانًا قافية الغصنين -كما هو الحال في المثال الذي معنا: “النَّهْرُ سَلَّ حُسَامًَا” هذه قافية “حسامًا”، “عَلَى قُدُودِ الغُصُونِ” حرف الروي الميم في الشطر الأول أو الغصن الأول، وحرف الروي النون في الغصن الثاني أو الشطر الثاني، وقد تتفق القافية بين الغصنين أو الشطرين في موشحة لابن زهر مثلًا تبدأ بقوله:

فُتِقَ المسكُ بكافورِ الصباحْ

*وَوَشَتْ بالروضِ أعرافُ الرياحْ

فالقافية بين الغصنين أو بين الشطرين واحدة، وهي قافية الحاء.

الدور: هو مجموعة الأبيات التي تلي المطلع، وإن كان الموشح أقرعًا؛ فإن الدور يقع في مستهلِّ الموشح، إذًا المطلع هذه سمة في الموشح التام، يسمى موشحًا تامًّا؛ إذ يمكن ألا يكون هناك مطلع، ويبدأ الموشح بالدور مجموعة أبيات متماثلة، مجموعة أشطر أو مجموعة غصون أو مجموعة سموط متماثلة من غير أن تبدأ بمطلع فيكون هذا الموشح أقرع، ويتكون الدور من مجموعة من الأقسمة أو السموط لَا تَقِلُّ عن ثلاثةٍ، ولَا مانعَ من أن تزيد عن ثلاثةٍ؛ بشرطِ أن تتكررَ بنفسِ العددِ في بقيةِ الموشحِ؛ ليحدث التماثل بين الأجزاء -كما ذكرت- وأن تكونَ من وزنِ المطلع إذا كان هناك مطلع، ولكن بقافيةٍ مختلفةٍ عن قافيتِهِ، وتُلْتَزَمُ في أشطر الدور الواحد، والدور في الموشح الذي معنا هو قول الموشِّحِ:

وَلِلْنَّسِيمِ مَجَالُ

وَالرَّوْضُ فِيهِ اخْتِيَالُ

مُدَّتْ عَلَيْهِ ظِلالُ

فهذا هو الدور، من أول قوله:

النَّهْرُ سَلَّ حُسَامًَا عَلَى قُدُودِ الغُصُونِ

وَلِلْنَّسِيمِ مَجَالُ

وَالرَّوْضُ فِيهِ اخْتِيَالُ

مُدَّتْ عَلَيْهِ ظِلالُ

وَالزَّهْرُ شَقَّ كِمَامَا وَجْدًا بِتِلْكَ اللُّحُونِ

يطلق على هذه الفقرة كلها اصطلاح البيت في الموشح.

السِّمْط: هو كل شطرٍ من أشطار الدور، “وللنسيم مجال” هذا سمط، “والروض فيه اختيال” هذا سمط، “مدت عليه ظلال” هذا سمط، وقد يكون السمط مكونًا من فقرة واحدة كما هو الحال في موشحنا هذا، وربما تألف من فقرتين.

القُفْل: هو ما يلي الدور مباشرة، ويسمى أيضًا مركزًا، وهو شبيهٌ بالمطلع في الموشح التام من جميع النواحي، أي: إنه يشبهه في القوافي وعدد الأغصان، وليستِ الموشحةُ مشروطةً بعددٍ ثابتٍ من الأقفال، وإن كانت العادة قد جرت على أن يكون للموشحة خمسة أقفال؛ ولذلك فإن الموشحة التي معنا تعتبر غير كاملة.

والقفل في هذه الموشحة، هو قوله:

وَالزَّهْرُ شَقَّ كِمَامَا وَجْدًا بِتِلْكَ اللُّحُونِ

البيت في الموشحة وغيره مختلفٌ عن هذا المصطلح في القصيدة؛ فالبيت في الموشحة يتكون من الدور مضافًا إليه القفل الذي يليه،

وَلِلْنَّسِيمِ مَجَالُ

وَالرَّوْضُ فِيهِ اخْتِيَالُ

مُدَّتْ عَلَيْهِ ظِلالُ

وَالزَّهْرُ شَقَّ كِمَامَا وَجْدًا بِتِلْكَ اللُّحُونِ

هذا هو البيت في الموشحة التي معنا.

الغصن: هو كلُّ شطرٍ من أشطار المطلع أو القفل أو الخرجة، والخرجة هي القفل الأخير، وتتساوى الأغصان عددًا وترتيبًا وقافيةً في كل الموشحة، وقلَّمَا يشذ الوشاح عن هذه القاعدة. وأقل عدد للأغصان في مطلع أية موشحة وبالتالي في الأقفال والخرجة اثنان.

وسبق أن ذكرنا أنه يجوز أن تتفق قافية الغصنين ويجوز أن تختلف، على أنه من المألوف أن تتكون أقفال الموشح من أربعة أغصان؛ لأن الأقفال مشابهة للمطلع مثل موشح الأعمى التطيلي:

ضاحكٌ عن جُمان

*سافرٌ عن بَدرِ

ضَاقَ عنهُ الزمانْ

*وَحَــــــــــــــــــــــواهُ صَدْري

والوشاحون استخدموا الموشح في وصف الطبيعة، وفي الغزل، وفي المدح، وفي الرثاء، ولكن يلاحظ أن كبار الشعراء الذين كانوا معروفين في الأندلس نأوا بأنفسهم عن أن يخوضوا في غمار فن التوشيح؛ ولذلك عرف موشحون مشهورون بهذا الفن أكثرهم ليسوا من كبار الشعراء، يعني عندنا إذًا شعراء وعندنا وشاحون ليس في هذا الكلام فصلٌ حاسمٌ بين الشعراء والوشاحين، فبعض الشعراء لهم تواشيح، ولكن -كما قلت- إن بعض الشعراء الكبار نظروا إلى هذا الفن على أنه فنٌّ شعبيٌّ؛ فلم يخوضوا فيه.

نشأة هذا الفن:

الراجح والغالب والذي يذهب إليه أكثر الدارسين: أن الموشحات فن أندلسي. يذكر الدكتور/ أحمد هيكل: أن الموشحات نشأت في الأندلس أواخر القرن الثالث الهجري، التاسع الميلادي، وأن الفترة التي نشأت فيها كانت الموسيقى مزدهرةً فيها، وكذلك كان فن الغناء، ويبدو أن الموسيقى والغناء هما الفنان اللذان جعلا هذا التطور يحصل في موسيقى الشعر فينشأ عنه فن الموشحات، وكانت الموشحات كذلك كما أنها حاجةٌ فنيةٌ أو استجابة لحاجة فنية، فإنها كانت -فيما يبدو- استجابة لحاجة اجتماعية؛ لأن الأندلسيين لما شاع فيهم الطرب والغناء والموسيقى؛ أَحَسَّ الجمهورُ بأن القصيدةَ في صورتِهَا التقليدية لَا تواكب هذا التطور في الغناء وفي الموسيقى، والمجتمع والناس يحتاجون إلى هذا اللون من الغناء يسلون به أنفسهم ويروحون به عن أنفسهم؛ فلا بد إذًا أن تكون هذه الحاجة الاجتماعية مضافة إلى الحاجة الفنية والتطور الذي حدث ونشأة الموشحات يلبيان هذه الحاجة الفنية، وهذه الحاجة الاجتماعية كذلك.

بالإضافة إلى ذلك فإن بعض الدارسين ذكر: أن مخترع الموشحات في الأندلس رجلٌ اسمه مُقَدَّم بن معافى القبري، وبعض الدارسين ذهب إلى أن مخترع الموشحات هو الشاعر العباسي عبد الله بن المعتز، والسبب في أنهم ذهبوا إلى ذلك أنهم وجدوا في ديوان ابن المعتز موشحةً، وكان ابن المعتز معاصرًا لمقدم بن معافى الأندلسي؛ لكنَّ التحقيق يستبعد أن يكون هذا الموشح الذي وُجِدَ في ديوان عبد الله بن المعتز له، والراجح: أنه حمل عليه أو دخل في ديوانه انتحالًا؛ لأن هذا الموشح عُرِفَ في بيئة الأندلس ونسب إلى واحد من الوشاحين الكبار اسمه ابن زهر الحفيد.

والموشح الذي أحدث هذا اللبس وجعل بعض الدارسين ينسبه إلى عبد الله بن المعتز هو الذي يبدأ بقوله:

أَيُّها السَّاقِي إِلَيكَ المُشتَكَى

*قَد دَعَونَاكَ وَإِن لَم تَسمَعِ

والأشهر والأقوى أن هذه الموشحة لابن زهر الحفيد، وليست لعبد الله بن المعتز.

بعض الدارسين يذهب إلى أن نشأة الموشحات كانت إسبانية، وأن العرب أخذوا هذا الفن عن الأسبان، وطوروه، والدكتور/ مصطفى الشكعة يضعف هذا الرأي ويرفضه، ويبقى إذًا أن يكون الموشح تطورًا طبيعيًّا في البناء الفني والموسيقي للقصيدة العربية، هذا التطور الذي مر بمراحل كثيرة كان أوضحها في العصر العباسي، وكان من أكثر الذين أدخلوا تجديدًا في موسيقى الشعر أبو العتاهية الشاعر العباسي.

أما الموضوعات التي قال فيها الوشاحون: فهي كثيرةٌ؛ هناك موشحات في الغزل، وموشحات في وصف الطبيعة، وموشحات في المديح، وموشحات في الرثاء، ومن الموشحات الجيدة التي قيلت في الغزل موشحة لرجل اسمه عبادة بن ماء السماء توفي سنة أربعمائة واثنين وعشرين من الهجرة، وهذا الرجل له فضلٌ كبيرٌ وشهرةٌ في مجال التوشيح، ويُعَدُّ شيخَ هذه الصناعة، يقول:

مَنْ وَلِي فِي أُمَّةٍ أَمْرًا وَلَم يعدل

*يُعْزَل إلَّا لحاظَ الرشأ الأكحلِ

الرشأ الأكحل: عيون ونظرات الفتاة الجميلة العيون.

جُرَتْ في حُكْمِكَ

*في قَتْلِي يا مسرف

فانْصِفِ فَوَاجِبٌ

*أن يَنُصَفَ المنصِفُ

وارأَفِ فَإِنَّ هذا

*الشوقُ لَا يَرْأَفُ

عَلِّلِي قلبي بذاك الباردِ السلسلِ

*ينجَلَي مَا بفؤادي من جوىً مُشْعَلِ

إِنَّما تَبْرُزُ كي

*تُوِقَد نَارَ الفتن

 صنمًا مصورًا في كل شيءٍ حسنْ

 
 إنْ رَمَى لَم يَحْظَ مِن دونِ القلوبِ
الجَنَنْ
 
كَيْفَ لِي تَخَلُّصٌ عن سَهْمِكَ المُرْسَلِ

*فَصِلِ واستبقِنِي حيَّا وَلَا تَقْتُلِ

 يَا سَنَا الشمسِ وَيَا أَبْهَى مِن كوكَبِ

 
يَا مُنَى النَّفْسِ

*وَيَا سُؤْلِي وَيَا مَطْلَبِي

هَا أَنَا حَلَّ

*بأعدائِكَ مَا حَلَّ بَي

عُزَّلِ مِن ألَمِ الهِجْرَانِ فِي مَعْزِل

*والخَلي في الحُبِّ لَا يُسْئَلُ عَمَّن بَلي

أَنْتَ قد صيَّرْتَ

*بالحسنِ من الرُّشدِ غَيْ

فاتَّئِدْ في طرفي

*حُبِّكَ ذَنبًا عَلَيّ

مَا تَئِدْ وإنْ تَشَا

*قَتْلِي شَيًّا فَشَيّ

أَجْمل وَوَالِني منك يدَ المُفْضِلِ فهي لي

*من حسناتِ الزمنِ المُقْبِلِ

 مَا اغْتَذَى طرْفِيَ إلا بَسَنَا
نَاظِرَيك
 
 وَكَذَا في الحبِّ مَا بِي لَيْسَ يَخْفَى
 

عَلَيْك
 
 وَكَذَا أُنْشِدُ والقلبُ رهينٌ
لديكْ
 
يَا علي سَلَلْتَ جَفْنَكَ عَلَى مَقْتَلي

*فَابْقِ لِي قَلْبِي وَجُدْ بِالفَضْلِ يَا مَوْئِلَي

إذًا التنوع الموسيقي كثير في هذه الموشحة، وأنها تبدأ بمطلع، ثم يلي بعد ذلك البيت المكون من الأغصان، ثم يكون القفل، ثم يكون بيت آخر أو فقرة أخرى، ثم يكون قفل آخر.

وكما استخدم الشعراء الوشاحون الموشحات في الغزل استخدموها،كذلك في وصف مجالس اللهو،والشراب، وأحيانًا يمزجون بين الحديث عن الشراب والغزل.

من أرق الموشحات التي جاءت في وصف الشراب والغزل معًا هذه الموشحة للمشهور بالإجادة في هذا الفن أبو بكر محمد بن زُهْر، وهو أحد فلاسفة الأندلس أيضًا، عاش صدر حياتِهِ في الأندلس وبقيتها في مراكش، وموشحاته من أرق ما كُتِبَ في هَذا الفَنِّ، وهو من المكثرين فيه، وقد توفِّي سنة خمسمائة وخمس وتسعين من الهجرة.

وهذه الموشحة هي التي وجِدَت في ديوان عبد الله بن المعتز انتحالًا، وأوجدت اللبس عند بعض الدارسين، يقول ابن زهر في هذه الموشحة:

أَيُّها الساقي إِلَيكَ المُشتَكَى

*كَم دَعَوناكَ وَإِن لَم تَسمَع

 وَنَديمٌ هِمتُ في غُرّتِه

 
 وَسَقَانِي الرَّاحَ مِن راحَتِهِ

 
 كُلَّما اِستَيقَظَ مِن سَكرَتِهِ

 
جَذَبَ الزِّقَّ إِلَيهِ وَاِتَّكَا

*وَسَقاني أَربَعًا في أَربَعِ

 غُصنَ بانٍ مالَ مِن حَيثُ استَوى 
 باتَ مَن يَهواهُ مِن خوفِ النَوى 
 خافِقُ الأَحشاءِمَضْعُوفَ القُوى 
كُلَّما فَكَّرَ في البَينِ بَكى

*يَا لَهُ يَبْكِي لِمَا لَمْ يَقَعِ

 أَيُّها المُعرِضُ عَمّا أَصِفُ

 
 تعرفُ الذَّنْبَ ولَا تعتَرِفُ

 
 كبدٌ حَرَّى ودمْعٌ يَكِفُ

 
مِثْلُ حالي حقُّهُ أن يُشْتَكَى

*كمَدُ اليأسِ وذلَِّ الطَّمَعِ

 مَا لعيني شقيَتْ بالنَّظَرِ

 
 أنكرَتْ بَعْدَكَ ضوءَ القمرِ

 
 فَإذا مَا شِئْتَ فاسمَعْ خَبَري

 
عَشِيَت عَينايَ مِن طولِ البُكا

*وَبَكى بَعضي عَلى بَعضي مَعي

 قَد بَرَانَي في هواك الكمدُ

 
 يَا لقَوْمِي عَزَلُوا واجْتَهَدُوا

 
 أنكَرُوا شكْوَايَ مِمَّا أجِدُ

 
قَد نَمَا حبُّكَ عِنْدِي وزكَا

*لَا يَظُنُّ الحِبُّ أَنِّي مُدَّعِي

هذه هي الموشحة التي قالها ابن زهر.

ومن الموشحات التي قيلت في المديح موشحة للسان الدين الخطيب يقول فيها:

جادَكَ الغيْثُ إذا الغيْثُ هََمَى

*يا زَمانَ الوصْلِ بالأندَلُسِ

لمْ يكُنْ وصْلُكَ إلَّا حُلُمًا

*في الكَرَى أو خِلسَةَ المُخْتَلِسِ

إذْ يقودُ الدّهْرُ أشْتاتَ المُنَى

*ننْقُلُ الخَطْوَ علَى ما يُرْسَمُ

زُمَرًا بيْنَ فُرادَى وثُنَى

*مثْلَمَا يدْعُو الوفودَ الموْسِمُ

والحَيَا قدْ جلّلَ الرّوضَ سَنَا

*فثُغورُ الزّهْرِ فيهِ تبْسِمُ

ورَوَى النّعْمانُ عنْ ماءِ السّمَا

*كيْفَ يرْوي مالِكٌ عنْ أنسِ

فكَساهُ الحُسْنُ ثوْبًا مُعْلَمَا

*يزْدَهي منْهُ بأبْهَى ملْبَسِ

في لَيالٍ كتَمَتْ سِرَّ الهَوى

*بالدُّجَى لوْلَا شُموسُ الغُرَرِ

مالَ نجْمُ الكأسِ فِيْهَا وهَوى

*مُسْتَقيمَ السّيْرِ سَعْدَ الأثَرِ

وطَرٌ مَا فيهِ منْ عيْبٍ

*سَوَى أنّهُ مَرّ كلَمْحِ البصَرِ

وينتقل لسان الدين بن الخطيب إلى المديح فيقول:

الكَريمُ المُنْتَهَى والمُنْتَمَى

*أسَدُ السّرْحِ وبدْرُ المجْلِسِ

ينْزِلُ النّصْرُ عليْهِ مثْلَما

*يُنْزِلُ الوحْيُ بروحِ القُدُسِ

مُصْطَفَى اللهِ سَميُّ المُصْطَفَى

*الغَنيُّ باللّهِ عَنْ كُلِّ أحَدْ

مَنْ إذا ما عقَدَ العهْد وَفَى

*وإذا ما فَتَحَ الخطْبَ عقَدْ

مِنْ بَني قيْسِ بْنِ سعْدٍ وكَفى

*حيْثُ بيْتُ النّصْرِ مرْفوعُ العَمَدْ

حيث بيْتُ النّصْرِ محْميُّ الحِمَى

*وجَنَى الفَضْلَ زكيُّ المَغْرِسِ

والهَوى ظِلٌّ ظَليلٌ خَيَّمَا

*والنّدَى هَبّ إِلَى المُغْرَسِ

وهكذا تتنوع موضوعات الموشحات، ويقول الوشاحون في الأغراض جميعها التي قيلت فيها القصيدة التقليدية.

error: النص محمي !!