الموضوعات الجديدة في الشعر العباسي
الأدب مرآة للحياة:
من المقرر أن الأدب في كل عصر وفي كل بيئة صورة للحياة، أو مرآة لها، تنعكس على الأدب -شعره ونثره- الظواهر الاجتماعية، والعقائد، والأخلاق، والعادات، والتقاليد، والثقافات… كل شيء في الحياة ينعكس على مرآة الأدب، أو يحمل الأدبُ شيئًا من صورته؛ لأن الأدب -شعرًا كان أو نثرًا- تعبيرٌ يبدعه إنسان يستطيع التعبير عن نفسه وما يحسه وما يراه، وهو بالتأكيد يتأثر بالحياة التي يحياها، وبالمشاهد التي يراها، وبالظروف التي يعيشها، وهو أيضًا يؤثر فيها.
من هنا كان الأدب تصويرًا للحياة في كل عصر وفي كل بيئة، هكذا كان الأدب مصوِّرًا لعصره وبيئته في الجاهلية، وكان الأدب مصوِّرًا لعصره وبيئته في صدر الإسلام، وفي عصر بني أمية، وكان الأدب كذلك مصوِّرًا لعصره وبيئته في العصر العباسي.
فأغراض الشعرِ في كل عصرٍ من العصور تخضع للحياة الاجتماعية التي تسيطر عليه، أو النظم السياسية التي تتحكم فيه، واختلاف أنواع المعيشة، وتغاير علاقات الناس بعضهم ببعض والانتقال في مراحل الثقافة والتهذيب والعلم والمعرفة، والتزام عاداتٍ وأخلاقٍ وسلوكٍ وطباعٍ تجعل اتجاه العقول في وقتٍ ما يختلف في آخر… وهكذا، كما يقول الدكتور الشيخ/ إبراهيم أبو الخشب -عليه رحمة الله.
فعاطفة الشعر إذًا تتأثر بما حولها تتأثر بالدوافع وبالمواقف، وبالمشاهدات، وأفكاره تتأثر وتنضج وتتسع حسب المعارف التي يحصلها من عصره.
وهكذا كان لا بد أن يكونَ للأدبِ وللشعرِ في العصر العباسي ملامح تميزه عن الشعرِ في العصر الذي سبقه.
ولا يعني هذا: أن الشاعر العباسي قد انسلخ من المعاني القديمة، والأغراض القديمة، والتقاليد القديمة التي كانت سائدة في فنِّ الشعرِ في العصر الأموي، لا يعني هذا أن الشعر العباسي تخلص من كل هذا وتمرد عليه تمردًا كاملًا، أو أن الأدب تغيرت صورته تغيرًا تامًّا؛ فكل عصر بالتأكيد يأخذ من العصر الذي قبله كذلك ويتأثر به، لكن الذي نعنيه هو أن هناك شيئًا جديدًا، وملامحَ مستحدثةً يمكن لدارس الأدب أن يرصدَهَا، حدثت هذه الملامح استجابةً لأحاسيس جديدة، ومشاهد جديدة، وأنماط من الحياة لم تكن معروفة من قبل.
حدثت أغراضٌ في الشعر لم تكن معروفةً أيام الأمويين، وحدثت تطورات في أغراض الشعر التي كانت موجودة أيام الأمويين؛ فمن المعاني القديمة التي تغيرت وتبدلت ولم يقلد العباسيون فيها الأمويين، وظهرت دعوات إلى التمرد عليها: الوقوف بالديار وبكاء الأطلال ووصفها. وذكر الناقة في السفر وجميل صبرها وحنينها.
الدعوة إلى التمرد على التقاليد القديمة:
كان أولَ من دَعَا إلى التمرد على هذه التقاليد في قصيدة المدح خاصة: أبو نواس، الذي جعل حديثه منصرفًا إلى الخمر، وإلى كئوسها، وإلى شُرَّابِهَا الذين يسامرونه في مجالس الشرب، وكانت دعوته في ذلك مشوبةً بكثيرٍ من الشعوبية الحاقدة على العرب؛ نتيجةً لما كان يراه من تعالي العرب في العصر الأموي؛ لأن بشارًا أدرك الدولتين الأموية والعباسية، ولذلك نراه يقول:
لَا تَبْكِ ليلى وَلَا تَطْرَبْ إلى هندِ | * | واشرَبْ عَلَى الوردِ من حمراءَ كالورْدِ |
وينعي على الشعراء الذين استمروا على تقاليدهم القديمة فيلومهم على ذلك ويقول:
تبْكِي عَلَى طللِ الماضين من أسدِ | * | قُلْ لي بِرَبِّكَ مَن بَنُو أسدِ؟ |
لا جَفَّ دَمْعُ الذي يبكي على حَجَرٍ | * | ولَا صَبَا قَلْبُ مَنْ يَصْبُو إِلَى وَتَدِ |
ولما اشتهر بذلك وفجر به وتجاوز الحد فيه حبسه الرشيد، فاضطُّر إلى أن يجري على عادة القدامى، ولكن سخريته غلبت عليه؛ فقال:
أَعِرْ شعرَكَ الأطلالَ والمنزِلَ القَفْرَا | * | فقد طالما أَزْرَى به نَعْتُكَ الخمرا |
دَعَانِي إلى نعتِ الطلولِ مُسَلَّطٌ | * | تَضِيقُ ذِرَاعِي أن أَرُدَّ لَهُ أَمْرَا |
فسمعًا أميرَ المؤمنين وطاعةً | * | وإنْ كُنْتَ قد جَشَّمْتَنِي مركبًا وَعْرَا |
وكان هذا التمرد من أبي نواس وأمثاله محاولة لفتح أبواب جديدة في مجال الشعر، وكثير من الشعراء تسابقوا إلى هذا التجديد متأثرين بروح العصر الجديدة التي سادت حياتهم.
وكان لتشبع المجتمع بالحضارة وأساليب الحياة الرغيدة المرفهة أثر في تمرد المجتمع، أو الذائقة الأدبية على ألوان من التصوير الشعري والتعبير الأدبي، التي كانت متأثرةً بحياة البادية، فلما قال أبو تمام -مثلًا- في مدح أحد الكبار:
إِقْدَامَ عَمْروٍ في سَماحَةِ حَاتِمٍ | * | في حِلْمِ أَحْنَفَ في ذَكَاءِ إِيَاسِ |
يقولون: إن الكندي الفيلسوف اعترضه، وقال له: كيف تُشَبِّهُ ولد أمير المؤمنين بأعرابٍ أجلاف، وهو أشرف منهم منزلةً وأعظم محلًّا، وأعلى قدرًا ممن ذكرت؟ يقولون: إن أبا تمام استطاع أن يتخلص من هذا المأزق، وأن يعتذر في تشبيهه هذا الممدوح بمن هو أقل منه في عرف هذا الفيلسوف، وكان لا بد لأبي تمام أن يداهن ليمر الموقف؛ فقال:
لاَ تُنْكِروُا ضَرْبِي لَهُ مَنْ دُونَه | * | مَثَلًا شَروُدًا في النَّدَى وَالبَاسِ |
فالله قد ضَرَبَ الأَقَلَّ لِنُورِهِ | * | مَثَلًا منَ المِشْكَاةِ وَالنِّبْرَاسِ |
وهكذا استطاع أبو تمام بهذه الحيلة الذكية والاستشهاد من القرآن الكريم أن يتخلص من الموقف، فالله سبحانه وتعالى ضرب لنوره مثلًا من المشكاة، ونور الله سبحانه وتعالى أعلى وأعظم من هذا النور.
ومما يُرْوَى في ذلك أيضًا أن محبوبةَ عليِّ بن عبد الرحمن بن المنجِّم لم ترض منه أن يشبهها ببدر السماء الذي جرى الناس على تشبيه محبوباتهم به في جمال المنظر، وبهاء الطلعة، وحسن الوجه، وزعمت أنها في جمالها وروعتها وسحرها وفتنتها أكمل وأبهى وأجمل من بدر السماء، يقول الشاعر:
شبهتُهَا بالبدرِ فاستضحكت | * | وقابلت قوليَ بالنُّكْرِ |
وسفهت قولي وقالت متى | * | سُمُجْتُ حتى صرتُ كالبدرِ |
البدرُ لا يرنو بعينٍ كما | * | أَرْنُو ولا يبسمُ عن ثَغْرِ |
وَلَا يُميط المَرْطَ عن نَاهِدٍ | * | ولَا يشدُّ العقدَ في نحرِ |
من قاس بالبدر صفاتي فلا | * | زال أسيرًا في يديْ هُجْرِ |
فسواء حدث هذا من محبوبته أو لم يحدث؛ فإن هذا يدل على أن هناك تمردًا على بعض التقاليد المرعية في التعبير والتصوير في الشعر العربي، وقد أدى ذلك إلى كثير من المبالغات في المدح حتى يأتي الشعراء بالجديد؛ فقد روي أن الخليفة المستعين بالله قال للشعراء الذين جاءوه يمدحونه لَا أرضى إلا بمثل البحتري في الخليفة المتوكل:
وَلَو أنَّ مشتاقًا تَكَلَّفَ فَوْقَ ما | * | في وسْعِهِ لَسَعَى إِلَيْكَ المنبرُ |
تقول الرواية: إن أحد الشعراء لما سمع ذلك من المستعين ذهب إلى بيته ثم عاد إليه، وقال: قلت فيك أحسن مما قال البحتري في المتوكل. قال: هاتِ ما عندك، فأنشده:
ولوْ أَنَّ بُرْدَ المصطفى إذْ لبستَهُ | * | يظنُّ لظنَّ البُرْدُ أَنَّكَ صاحِبُهْ |
وقالَ وقدْ أُعطيتهُ ولبستَهُ | * | نَعَمْ هذه أَعطافُهُ ومناكبُهْ |
فهش المستعين لقوله، وجازاه على ذلك مالًا كثيرًا. وفي البيتين مبالغةٌ كبيرة -كما ترى- فأين هذا المستعين من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لو لبس برده الشريف؟!.
وهكذا نال المعاني في الشعر العباسي تطورٌ كبير، وتغيرت كثيرٌ من الملامح المعروفة لأغراض الشعر التقليدية المتوارَثة، فالمديح مثلًا غرض معروف منذ الشعر الجاهلي، لكنه عند العباسيين نجد فيه معاني جديدةً قد تكون مائلةً إلى المبالغات، ولكن فيها دليلًا على تفتح العقول وغوصِهَا، وتأثرها بالطابع الثقافي الجديد المسيطر على العصر، فهذا محمد بن وهيب يقول في الحسن بن سهل:
تُعَظِّمهُ الأوهامُ قَبلَ عِيانهِ | * | وَيصدرُ عَنهُ الطَّرفُ وَهوَ مُحَاذِرُ |
بهِ تجتدَي النُّعما وَتستدركُ المُني | * | وَتستكملُ الحُسنى وتُرْعَى الأواصرُ |
وقد فتح التكسب بالشعر مجالًا لتنافس الشعراء في مدح الخلفاء والأمراء والولاة وغيرهم، وتنافس الشعراء في هذا الباب؛ يريد كل واحد منهم أن يرضي ممدوحه، وأن يتفوق على نظرائِهِ، وأدى ذلك بالطبع إلى تفننهم في المعاني، وتجديدهم فيها، والهجاء -مثلًا- غرضٌ قديمٌ معروف منذ الجاهلية، وقد أضاف إليه فرسان الهجاء في العصر الأموي، كـ: جرير، والفرزدق، والأخطل،… وغيرهم الكثيرَ، لكننا في العصر العباسي نجد فيه تجديدًا وإضافة.
فهذا مثلًا حماد يهجو بشارًا، ويغري به إنسانًا كأنه يسلِّطه عليه، فيقول له:
لك جارٌ بالمِصر لَم يجعل اللهُ | * | له منكَ حُرمةَ الجيرانِ |
لَا يصلِّي ولَا يصومُ ولَا يَقْرأ | * | حرفًا من مُحكَم القرآنِ |
إنَّما مَعدِن الزُّناة من السِّفلةِ | * | في بَيتِه ومأوَى الزَّوانيِ |
وهو خِدنُ الصِّبيانِ وهو ابن سبعينَ | * | فَمَاذَا يبغي من الصِّبيان |
طَهِّرِ المصر منه أيُّها المولى | * | المسمَّى بالعدلِ والإحسانِ |
وتقرَّبْ بذاك فيه إلى الله | * | تفُزْ منه فوزَ أهلِ الجِنانِ |
ثم يخاطب بشارًا فيقول:
يا ابنَ بُردٍ إخْسَأْ إليكَ فمثلُ الكلبِ | * | أَنْتَ فِي النَّاسِ لَا الإنْسَانِ |
ولَعمري لأنت شرٌّ من الكَلْبِ | * | وأولَى منه بكلّ هَوانِ |
وكان بشار كذلك هَجَّاءً، ومن هجائه يقول في رجل اسمه عبيد الله، وكان هذا الرجل موصوفًا بالبخل، يقول بشار:
كأنَّ عبيدَ الله لم يَلْقَ ماجدًا | * | وَلَم يَدْرِ أّنَّ المَكْرُمات تكونُ |
إِذَا جئتَه في حاجةٍ سدَّ بابَهُ | * | ولم تَلْقَه إلَّا وأنْتَ كمينُ |
فقل لأبي يحيى مَتَى تبلغ المُنَىَ | * | وفي كلِّ معروفٍ عليكَ يَمِيْنُ |
وربما مال الهجاء إلى السخرية في كثير من الأحيان، كقول أبي العتاهية:
فصُغْ ما كنتَ حلَّيتَ | * | به سيفَك خُلْخَالا |
وما تصنع بالسَّيفِ | * | إذا لم تك قتَّالا |
وكقول البحتري يهجو الخثعمي بِكِبَرِ أَنْفِهِ فيقول:
رأيت الخثعمي يُقِلُّ أنفًا | * | يضيق بِعَرْضِهِ البلدُ الفضاء |
سَمَا صَعَدًا فَكَسَّر كُلَّ سَامٍ | * | لهيبته وُغُصَّ به الهواءْ |
هو الجبلُ الذي لولا ذُرَاه | * | إذًا وقعت على الأرض السماء |
ومن هذا القبيل -أي: الهجاء الساخر- قول ابن الرومي في رجل يسمى عمرًا:
وجْهُكَ يا عمر فيه طُولُ | * | وَفِي وجُوهِ الكِلَابِ طولُ |
والكَلْبُ يَحْمِي عَن المَوَالِي | * | ولسْتَ تَحْمِي وَلَا تَصُولُ |
وَأَنْتَ مِن أهلِ بيتِ سوءِ | * | قصتُهُم قصةٌ تَطُولُ |
وجوهُهُم للوَرَى عِظَاتٌ | * | لكن أقْفَاءَهُم طُبولُ |
فهذا من الهجاء الساخر المقذع، وهو يدل على تفنن الشعراء ومحاولاتهم في تجديد المعاني في الأغراض القديمة.