الموضوعات المستحْدَثة
بالإضافة إلى ذلك وجدت أغراض وموضوعات تعد حديثة في هذا العصر، منها الشعر السياسي وشعر النقائض، والغزل العذري، وشعر الزهد والتصوف.
أما الشعر السياسي:
فقد نتج بعد أن تحول الحكم في عهد الأمويين من نظام الخلافة إلى نظام الملك، حيث استبد الأمويون بالحكم وجعلوه مُلْكًا يورث، وخالفهم في ذلك كثير من المسلمين، ونشأت أحزاب وجماعات تقاتلهم من أجل ذلك، وكان من الأحزاب التي نشأت -إلى جوار حزب الأمويين الحاكم: الشيعة الذي كانوا أنصارًا لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه – والخوارج الذين لم يرتضوا بالتحكيم، وخرجوا على علي رضي الله عنه والأمويين معًا، وحزب الزبيريين وهم أنصار الزبير بن العوام، الذين وقفوا معه ضد علي بن أبي طالب بعد موقعة الجمل، وكان لكل حزب من هذه الأحزاب شعراؤه الذين يدعون إليه، ويهاجمون خصومه، ويروجون أفكاره، ويردون على مناوئيه.
ومن هذا الشعر السياسي: هجاءُ الأخطلِ الأنصارَ بإيعاز من يزيد بن معاوية، والذي قال فيه:
ذهبت قريش بالمكارم كلها | * | واللؤم تحت عمائم الأنصار |
فدخل النعمانُ بن بشير على معاوية، ثم قال مهددًا في قصيدة طويلة:
معاوي إلا تعطنا الحق تعترف | * | لِحي الأزد مشدودًا عليها العمائم |
أيشتمنا عبد الأراقم ضلة | * | فماذا الذي تجدي عليك الأراقم |
فما لي ثأر دون قطع لسانه | * | فدونك من ترضيه عنك الدراهم |
ثم طعن على خلافة معاوية، وفاخر بأعمال الأنصار وأحسابهم، فقال:
وإني لأغضي عن أمور كثيرة | * | سترقَى بها يومًا إليك السلالم |
أصانع فيها عبد شمس وإنني | * | لتلك التي في النفس مني أكاتم |
فما أنت والأمر الذي لست أهله | * | ولكن ولي الحق والأمر هاشم |
وواضح أن النعمان بن بشير هنا يهاجم الأمويين ويهددهم، بل يصرح أنهم ليسوا أهلًا للخلافة، وأن الأحق بها هم بنو هاشم.
ومن نماذج هذا الشعر السياسي كذلك، أنه لما استلحق معاوية زيادَ بن أبيه بأبي سفيان، قال يزيد بن ربيعة بن مفرغ الحميري:
ألا أبلغ معاوية بن صخر | * | مغلغلة من الرَّجل اليماني |
أتغضب أن يقال أبوك عف | * | وترضَى أن يقال أبوك زاني |
فأشهد أن رحمك من زياد | * | كرحم الفيل من ولد الأتان |
وأشهد أنها ولدت زيادًا | * | وصخر من سُمية غير داني |
ومن هذا الشعر السياسي أيضًا: قول كعب بن جعيل -شاعر الأمويين:
أرى الشام تكره ملك العراق | * | وأهل العراق لهم كارهينا |
وكل لصاحبه مبغضًا | * | يرى كل ما كان من ذاك دينًا |
إذا ما رمونا رميناهم | * | ودناهم مثل ما يقرضونا |
فقالوا عليٌّ إمام لنا | * | فقلنا: رضينا ابن هند رضينا |
وقالوا: نرى أن تدينوا لنا | * | فقلنا ألا لا نرى أن ندينا |
ومن دون ذلك خرط القتاد | * | وضرب وطعن يفض الشئونا |
فرد عليه النجاشي شاعر العلويين قائلًا:
دَعنْ يا معاوي ما لن يكونا | * | فقد حقق الله ما يحذرونا |
أتاكم عليٌّ بأهل العراق | * | وأهل الحجاز فما تصنعونا |
وقال أعشَى ربيعة لعبد الملك بن مروان -حينما كان مترددًا في حرب ابن الزبير- يحمسه على الحرب، ويدعوه إلى قتال آل الزبير، يقول:
آل الزبير من الخلافة كالتي | * | عجل النتاج بحملها فأحالها |
أو كالضعاف من الحمولة حُمِّلت | * | ما لا تطيق فضيعت أحمالها |
قوموا إليهم لا تناموا عنهم | * | كم للغواة أطلتم إمهالها |
إن الخلافة فيكم لا فيهم | * | ما زلتم أركانها وثمالها |
أمسوا على الخيرات قفلًا مغلقًا | * | فانهض بيمنك فافتتح أقفالها |
وفي مواجهة هذا الشعر الذي يَنتقص من آل الزبير، نجد شاعرًا يمتدحهم، فيقول:
راحت رواحًا قلوصي وهي حامدة | * | آل الزبير ولم تعدل بهم أحدًا |
راحت بستين وسقًا في حقيبتها | * | ما حملت حملها الأدنى ولا السَّددا |
ما إن رأيت قلوصًا قبلها حمَلت | * | ستين وسقًا ولا جابت به بَلَدا |
ذاك القِرى لا قِرى قوم رأيتهم | * | يقرون ضيفهم الملوية الجددا |
وهو يريد التعريض بوالي المدينة من قِبل هشام بن عبد الملك.
ومن الفنون المستحدثة كذلك في العصر الأموي: فن النقائض:
والنقائض: جمع نقيضة وهي فعيلة بمعنى فاعل أو بمعنى مفعول، وفُرسان هذا الفن ثلاثة شعراء معروفون في العصر الأموي؛ هم: جرير، والفرزدق، والأخطل؛ إذ كان الواحد منهم يقول قصيدة يفتخر فيها بقومه ومآثرهم، فيرد عليه الآخر بقصيدةٍ يهجوه فيها، ويقلب مآثره ومآثرَ قومه إلى معايب، فيهدم ما قاله، فالنقيضة مأخوذة من النقض وهو الهدم، قال الله عز وجل: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ} [النحل: 92].
فكان شاعر النقائض ينقض على صاحبه معانيه التي قالها في قصيدته، وهي بلا شك قائمة على الهجاء، وكان هذا الهجاء يعتمد على العصبيات القبلية، وعلى ما كانت تفتخر به كل قبيلة في الجاهلية من أيام وانتصارات ومآثر، وعلى ما كان يُروى للقبيلة الأخرى من معايبَ ونقائص، والنقائض تختلف عن الهجاء العام، بأنها أصبحت فنًّا جماهيريًّا يحتشد الناس؛ ليسمعوا الشاعرين المتناقضين، ويصفقوا، ويشجع كل فريق من الحاضرين شاعرَه الذي ينتمي إليه، وكلما أتَى واحدٌ منهم على معنى نادر أو فَكِهٍ، فإن الجماهير تضحك وتصفق محتفلةً بهذا البيت أو ذاك.
وقد استطاع الأمويون أن يُلْهُوا كثيرًا من الناس بهذا الفن، وأن يجعلوهم يقضون كثيرًا من وقتهم في الاستمتاع به؛ كي يشغلوهم بذلك عن الكلام في السياسة والتفكير في أمر الحكم، ولم يكتفِ شعراء النقائض بالحديث عن أيام الجاهلية، فتطرقوا إلى تواريخ القبائل في الإسلام، وكان على الشاعر الذي يلج هذا الفنَ أن يدرس دراسة عميقة تاريخَ القبائل؛ حتى يستخرج ما يمكن أن يفاخر به، وما يمكن أن يهجو به نُظراءه.
ومن نماذج هذه النقائض: قصيدة للفرزدق بدأها بقوله:
تحِن بزوراء المدينة ناقتي | * | حنين عجول تبتغي البو رائم |
وبعد أن استهلها بالغزل قال:
ولست بمأخوذ بلغو تقوله | * | إذا لم تعمد عاقدات العزائم |
وينتقل إلى مدح سليمان بن عبد الملك بقوله:
جعلت لأهل الأرض نورًا ورحمة | * | وعدلًا وغيث المغبرات القواتم |
ثم ينتقل إلى هجاء جرير وعشيرته بني كليب، فيقول:
فيا عجبًا حتى كليب تسبني | * | وكانت كليب مدرجًا للشتائم |
ووقف جرير في الجهة المقابلة يرد على الفرزدق نقيضته، ويهدم عليه قصيدته، ويرد عليه هجاءه، فقال:
لقد ولدت أم الفرزدق فاجرًا | * | وجاءت بوزواز قصير القوائم |
وما كان جار للفرزدق مسلم | * | ليأمن قردًا ليله غير نائم |
أتيت حدود الله مذ أنت يافع | * | وشِبت فما ينهاك شيب اللهازم |
تتبع في الماخور كل مريبة | * | ولستَ بأهل المحصنات الكرائم |
ويشترط في النقيضة -كما هو واضح في المثال: أن تكون على بحر القصيدة التي تنقضها وعلى وزنها.
ومن هذه النقائض أيضًا: قصيدة للأخطل هَجَا فيها جريرًا وعشيرتَه كليبًا، وكان مِمَّا قال:
أما كليب بن يربوع فليس لهم | * | عند التفارط إيراد ولا صَدر |
مخلفون ويقضي الناس أمرَهم | * | وهم بغيب وفي عمياء ما شعروا |
ملطمون بأعقار الحِياض فما ينفك | * | من دارمي فيهم أثر |
قوم أنابت إليهم كل مخزية | * | وكل فاحشة سُبت بها مضر |
ويستمر الأخطل في هجاء جرير وعشيرته هجاءً عنيفًا مقذعًا، إذ يرميهم بكل ما يستطيع من صفات الذل والخِسة والدناءة، لكن جريرًا يرد عليه ردودًا مفحمةً، ويهجوه ويهجو قومَه هجاءً مقذعًا، ويعيره بنصرانيته، وكان مما قال في رده عليه في القصيدة السالفة الذكر، يقول جرير:
نحن اجتبينا حياض المجد مترعة | * | من حومة لم يخالط صفوها كدر |
لم يخز أول يربوع فوارسهم | * | ولا يقال لهم كلا إذا افتخروا |
هل تعرفون بذي بَهدى فوارسنا | * | يوم الهذيل بأيدي القوم مقتسَر |
خابت بنو تغلب إذ ضل فارطهم | * | حوض المكارم إن المجد مبتدر |
الظاعنون على العمياء إن ظعنوا | * | والسائلون بظهر الغيب ما الخبر |
الآكلون خبيث الزاد وحدهم | * | والنازلون إذا واراهم الخَمر |
إني رأيتكم والحق مَغضبة | * | تخزون أن يذكر الجَحاف أو زُفر |
كانت وقائعُ قلنا لن تُرى أبدًا | * | من تغلب بعدها عين ولا أثر |
حتى سمعت بخنزير ضغَا جَزَعًا | * | منهم فقلت أرى الأمواتَ قد نُشروا |
وواضح أنه يرد على معانيه معنًى معنًى، وقد لقبه في البيت الأخير بأنه خنزير، إشارة إلى أنه نصراني.
ويستمر جرير في هجاء الأخطل وقبيلته تغلب، فيقول:
رجس يكون إذا صلوا أذانُهم | * | قرع النواقيس لا يدرون ما السًّور |
وما لتغلب إن عدت مساعيها | * | نجم يضيء ولا شمسٌ ولا قمر |
الضاحكين إلى الخنزير شهوته | * | يا قُبحت تلك أفواهًا إذا اكتَشروا |
والمُقرعين على الخنزير ميَسرَهم | * | بئس الجزورُ وبئسَ القومُ إذ يسروا |
جاء الرسول بدين الحق فانتكثوا | * | وهل يَضير رسولَ الله أَنْ كفروا |
وقد كان جرير يتفوق على خصميه -الفرزدق والأخطل- في الهجاء، وقد شهد له الأخطل بذلك، إذ قال للفرزدق -فيما يروي الرواة: إن جريرًا أوتي من سَيْر الشعر ما لم نؤتَه، قلتُ أنا بيتًا ما أعلم أن أحدًا قال أهجَى منه، قلت:
قوم إذا استنبح الأضياف كلبهم | * | قالوا لأمهم بولي على النار |
وهو في هجاء جرير وقومه، يقول الأخطل: فلم يروه إلا حكماء أهل الشعر، وقال هو -يعني: جريرًا:
والتغلبي إذا تنحنح للقِرى | * | حك استَه وتمثَّل الأمثالا |
فلم تبق سقاة ولا أمثالها إلا رووه.
وكان لهؤلاء الشعراء قدرة عجيبة على استنباط المعاني وتشقيقها في الهجاء؛ ليكون لاذعًا مُرًّا، من ذلك -مثلًا- قول الفرزدق في جرير:
يهدي الوعيد ولا يحوط حريمه | * | كالكلب ينبح من وراء الدار |
وقوله في كُليب -عشيرتِه:
يستيقظون إلى نُهاق حمارهم | * | وتنام أعينُهم عن الأوتار |
ومن هذا قول جرير:
زعم الفرزدق أن سيقتل مربعًا | * | أبشر بطول سلامة يا مربع |
وقوله في عشيرة الفرزدق:
خذوا كحلًا ومجمرةً وعطرًا | * | فلستم يا فرزدق بالرجال |
وقول جرير أيضًا في هِجاء الراعي النُّميري:
فغض الطرف إنك من نمير | * | فلا كعبًا بلغت ولا كلابَا |
وكان لجرير مقدرة عجيبة على الصمود في وجه مَن يهجوه، حتى يسقطه وينتصر عليه.
ومما يدل على أن هذا الفن تحول إلى فنٍّ المراد منه التسلية، والتقرب إلى الجماهير، أن المعاني التي وردت في هذه النقائض لو حملت من القبائل محمل الجد، لاشتعلت بسببها حروب لا تنطفئ.
كذلك فإننا نجد جريرًا يرثي الفرزدق بعد كل هذه النقائض وهذا التهاجي بينهما، فإنه لما مات الفرزدق، رثاه جرير بقوله:
لعمري لقد أشجى تميمًا وهدّها | * | على نَكبات الدهر موت الفرزدق |
عشية راحوا للفراق بنعشه | * | إلى جدث في هُوة الأرض مُعمق |
لقد غادروا في اللحد من كان ينتمي | * | إلى كل نجم في السماء محلق |
عماد تميم كلها ولسانُها | * | وناطقها البذَّاخ في كل مَنطق |
فمن لذوي الأرحام بعد ابن غالب | * | لجار وعانٍِ في السلاسل موثقِ |
ومن ليتيم بعد موت ابن غالب | * | وأم عيال ساغبين ودردَق |
ومن يطلق الأسرى ومن تحقن الدما | * | يداه ويشفي صدرَ حرَّان محنَق |
فتًى عاش يبني المجد تسعين حِجَّةً | * | وكان إلى الخيرات والمجد يرتقي |
فهل يشفع هذا الرثاء لجرير بعد أن هجا الفرزدق في حياته كل هذا الهجاء المرير الذي سبقت الإشارة إليه؟!.
الغرض الثالث الذي ظهرت فيه الجدة في العصر الأموي: الغزل:
وقد أخذت هذه الجدة نمطين:
الأول: ما يسمى بالغزل الصريح: وقد كان من زعماء هذا النمط شعراء مكة والمدينة الذين كانوا يرفلون في النعيم، ويزجون أوقاتهم باللهو والمجون، ومنهم: عمر بن أبي ربيعة، والأحوص، والعرجي، وقد مضَوْا جميعًا يعبرون عن فتنتهم بالمرأة، ويصِفون مفاتنها، ويقصون مغامراتهم في تتبعها، لا يقفون في ذلك عند حَد، ويتعدى عمر بن أبي ربيعة هذه المجالات؛ ليصور كنف المرأة به، وتصديها له، ويصور نفسه مطلوبًا لا طالبًا، وهو شيء جديد لم يكن معهودًا في الشعر العربي من قبلُ.
ومن ذلك قوله يصور طلب فتاة له، وأنها تدور حوله لعلها تجد إليه سبيلًا، وهو يتدلل ويتمنع فيقول:
قالت لتِربٍ لها تحدثها | * | لنفسدنَّ الطواف في عمر |
قومي تصدي له ليعرفنا | * | ثم اغمزيه يا أختُ في خَفر |
قالت لها: قد غمزته فأبَى | * | ثم اسبطرَّت تسعى على أثري |
وهو يذكر أن الفتاة طلبته أثناء الطواف، وأرادت أن تفسد طوافه، وحدثت أختها بذلك.
وفي أبيات أخرى يقول:
قالت على رقبة يومًا لجارتها | * | ما تأمرين فإن القلب قد شغل |
فجاوبتها حصان غير فاحشة | * | برجع قول وأمر لم يكن خطلا |
اقني حياءك في ستر وفي كرم | * | فلست أول أنثى علقت رجلا |
لا تظهري حبه حتى أراجعه | * | إني سأكفيكه إن لم أمت عجلا |
وهكذا يصور عمر بن أبي ربيعة شغف النساء به وحديثهن عنه.
النمط الثاني: الغزل العذري:وهو غزل يتسم أصحابه بالعفة، وعندما يذكرون المرأة يصفون أشواقهم، وتباريح الهوَى بها، ولا يتعرضون لوصف مفاتِن المرأة، ولا يتحدثون عن مغامراتٍ بينهم وبينها، فهو غزل نقي مُتسامٍ، وهو منسوب إلى بني عذرة إحدى قبائل قُضاعة التي كانت تنزل في وادي القُرى شمالي الحجاز؛ لأن شعراءها أكثروا من التغني به ونظمه.
ولم تقف موجة الغزل العذري عند هذه القبيلة في العصر الأموي، فقد شاع في بوادي نجد والحجاز، ويعد من رواد هذا الغزل العذري قيس بن ذريح الذي تغنَّى في شعره بمحبوبته “لُبْنَى”، ومن ذلك قوله:
لقد نادى الغراب ببين لبنى | * | فطار القلب من حذر الغراب |
وقال غدًا تباعد دار لبنى | * | وتنأى بعد ود واقتراب |
فقلت تعست ويحك من غراب | * | وكان الدهر سعيك في تباب |
ويصف ما لاقاه في حبها بقوله:
لقد لاقيت من كلفي بلبنى | * | بلاء ما أسيغ به الشرابا |
إذا نادى المنادي باسم لبنى | * | عييت فما أطيق له جوابا |
وله أبيات يزعم فيها أن روحه تعلقت بروحها قبل خلقهما، ومن بعد ما كانَا نِطافًا وفي المهد، وأن هذا التعلق وذاك الحب زادا ونميَا، وأن هذا الحب وهذا التعلق كبرَا وزادًا في حياتهما، وأنهما باقيان بعد موتهما، حيث يزورهما هذا الحبُّ في ظلمة القبر، يقول:
تعلق روحي روحها قبل خلقنا | * | ومن بعد ما كنا نطافًا وفي المهد |
فزاد كما زدنا فأصبح ناميًا | * | وليس إذا متنا بمنصرم العهد |
ولكنه باقٍ على كل حادث | * | وزائرنا في ظلمة القبر واللحد |
ومن كبار رواد الغزل العذري وأشهرهم: جميل بن معمر، ومحبوبته تسمى بُثينة، ويذكرون أنه أراد الزواج بها لكن الأقدار حالت بينه وبين ذلك، فظل عاشقًا مُلْتَاعًا يذكرها ولا ينساها، ومن شعره فيها قوله:
ولو تركت عقلي معي ما طلبتها | * | ولكن طِلابيها لما فات من عقل |
خليلي فيما عشتما هل رأيتمَا | * | قتيلًا بكى من حب قاتله قبلي |
فلا تقتليني يا بثين فلم أصب | * | من الأمر ما فيه يحل لكم قتلي |
ويقول أيضًا جميل:
وإني لأرضى من بثينة بالذي | * | لو أبصره الواشي لقرت بلابله |
بلا وبألا أستطيع وبالمُنى | * | وبالأمل المرجو قد خاب آمله |
وبالنظرة العجلى وبالحول تنقضي | * | أواخره لا نلتقي وأوائله |
ويتمنى جميل أن يتيح له القدر لقاءً بمحبوبته، ويصف تعلق قلبه بحبها، وانتظاره إياها طول عمره، فيقول:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة | * | بوادي القرى إني إذن لسعيد |
وهل ألقين فردًا بثينة مرة | * | تجود لنا من ودها ونجود |
علقت الهوى منها وليدًا فلم يزل | * | إلى اليوم ينمي حبها ويزيد |
وأفنيت عمري في انتظار نوالها | * | وأبليت فيها الدهر وهو جديد |
إذا قلت ما بي يا بثينة قاتلي | * | من الحب قالت ثابت ويزيد |
وإن قلت ردي بعض عقلي أعش به | * | مع الناس قالت ذاك منك بعيد |
فلا أنا مردود بما جئت طالبًا | * | ولا حبها فيما يبيد يبيد |
يموت الهوى مني إذا ما لقيتها | * | ويحيا إذا فارقتها فيعود |
ومن شعراء الغزل العذري كذلك: عروة بن حزام، وصاحبته تسمى عفراء، وله فيها قوله:
وإني لتعروني لذكراك رِعدة | * | لها بين جلدي والعظام دبيب |
فوالله لا أنساك ما هبت الصبا | * | وما أعقبتها في الرياح جنوب |
ومنهم أيضًا: عروة بن أذينة، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة.
ومن شعراء الغزل العذري كذلك: قيس بن الملوح، وقد اختلف الدارسون حول شخصيته هل هي حقيقية أم متخيلة متوهمة؟ لكن الأخبار والرواة ينسبون إليه شعرًا كثيرًا في محبوبته ليلَى، وقد عُرِفَ بها، ويلقب بالمجنون؛ لأنهم قالوا: إن حبه ليلى أذهب عقلَه.
ومن الشعر الذي ينسبونه إليه في ليلى:
حلفت لها بالله ما بين ذي الحشا | * | سواها حبيب من عوان ومن بِكر |
جعلنا علامات المودة بيننا | * | تشابك لحظ هن أخفى من السحر |
فأعرف منها الود من لين طرفها | * | وأعرف منها الهجر بالنظر الشذر |
إذا عبتها شبهتها البدر طالعًا | * | وحسبك من عيب يُشبه بالبدر |
هي البدر حسنًا والنساء كواكب | * | فشتان ما بين الكواكب والبدر |
إذا ذُكرت يهتز قلبي لذكرها | * | كما انتفض العصفور بلل من قطر |
تداويت من ليلى بليلى من الهوى | * | كما يتداوى شارب الخمر بالخمر |
وتزعم ليلى أنني لا أحبها | * | بلى والليالي العشر والشفع والوتر |
بلى والذي أرسى بمكة بيته | * | بلى والمثاني والطواسين والحجر |
بلى والذي ناجَى من الطور عبده | * | وشرف أيام الذبيحة والنَّحر |
بلى والذي نجَّى من الجب يوسفًا | * | وأرسل داودًا وأوحى إلى الخِضر |
إلى أن يقول:
سأصبر حتى يعلم الناس أنني | * | على نائبات الدهر أقوى من الصخر |
سلام على مَن لا أمل حديثها | * | ولو عاشرتها النفس عشر إلى عشر |
عزائي وصبري أسعداني على الأسى | * | فأحمد ما جربت عاقبة الصبر |
وفي كل يوم غشية من صدودها | * | أبيت على جمر وأضحي على جمر |
عليها سلام الله ما طار طائر | * | وما سارت الركبان في البَر والبحر |
وواضح ما يتسم به هذا الشعر من صدق العاطفة، ونبل الروح، وجمال التصوير، ورقة التعبير.
وأما الغرض الرابع الذي استحدث في العصر الأموي فهو: شعر الزهد والتصوف، وكان هذا الاتجاه رد فعل على أحداث كثيرة واتجاهات متعددة في هذا العصر، والأساس الذي يرجع إليه الزهد، هو دعوة الإسلام إلى التخفف من متاع الدنيا، والإقبال على الآخرة بالأعمال الصالحة، وبعد أن دخل غير العرب في الإسلام من أصحاب المِلل والنحل القديمة، تطرق إلى فكر الزهد في الإسلام أفكار من تلك النحل وهذه المذاهب.
ويلقانا في العصر الأموي شعراء عرفوا بهذا الاتجاه، والإكثار من القول فيه؛ منهم أبو الأسود الدؤلي، ومن شعره الذي يدعو فيه إلى الزهد فيما عند الناس، والتوكل على الله عز وجل – قوله:
وإذا طلبت من الحوائج حاجة | * | فادع الإله وأحسن الأعمالا |
فليعطينك ما أراد بقدرة | * | فهو اللطيف لما أراد فعالا |
ودع العباد ولا تكن بطلابهم | * | لهجًا تضعضع للعباد سؤالا |
إن العباد وشأنهم وأمورهم | * | بيد الإله يقلب الأحوالا |
ومنهم سابق البربري، ومن شعره الذي يدعو فيه إلى الزهد في الدنيا، والاقتصاد في جمعها، قوله:
فحتى متى تلهو بمنزل باطل | * | كأنك فيه ثابت الأصل قاطن |
وتجمع ما لا تأكل الدهر دائبًا | * | كأنك في الدنيا لغيرك خازن |
ومن شعره أيضًا قوله:
أموالنا لذوي الميراث نجمعها | * | ودورنا لخراب الدهر نبنيها |
والنفس تكلف بالدنيا وقد علمت | * | أن السلامة منها تَرْك ما فيها |
وقد لجأ كثير من الناس إلى الزهد والتصوف؛ هرَبًا من فتن السياسة، وفتن الاختلاف حول الحكم والإمامة، وهربًا كذلك من إقبال الدنيا ببهجتها، وغرورها، وأموالها، التي فَتنت كثيرًا من الناس بها، فنشأت بيئة الزهد والتصوفُ إلى جانب بيئة السياسة وبيئة المجون واللهو. هذه هي أهم الأغراض والموضوعات التي استُحدثت في الشعر في العصر الأموي.